رئيس مجلس حقوق الإنسان يدعو إلى إدارة للحدود تحترم حقوق المهاجرين في وضعية عبور    الملك محمد السادس: مستقبل الأمة العربية رهين بإيجاد تصور استراتيجي مشترك    المغرب يثير من جديد موضوع استقلال الشعب القبايلي في الامم المتحدة    نمو مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي بميناء قاع أسراس    جلالة الملك: الظروف الصعبة التي تمر منها القضية الفلسطينية تجعلنا أكثر إصرارا على أن تظل هذه القضية جوهر إقرار سلام عادل في الشرق الأوسط    والي أمن طنجة: إيقاف أزيد من 58 ألف شخص.. وحجز أطنان من المخدرات خلال سنة واحدة    على هامش تكريمه.. البكوري: مهرجان الريف يسعى لتقريب الإبداعات الناطقة بالأمازيغية إلى الجمهور التطواني    رئيس الحكومة يحل بالمنامة لتمثيل جلالة الملك في القمة العربية    أندية "البريميرليغ" تجتمع للتصويت على إلغاء تقنية ال"VAR" بداية من الموسم المقبل    هذه حجم الأموال التي يكتنزها المغاربة في الأبناك.. ارتفعت بنسبة 4.4%    ولاية أمن طنجة تتفاعل مع شريط فيديو يظهر شرطي مرور يشهر سلاحه الوظيفي على وجه أحد مستعملي الطريق    عائلات "مغاربة ميانمار" تحتج بالرباط .. وناجية تكشف تفاصيل "رحلة الجحيم"    القمة العربية: عباس يتهم حماس ب"توفير ذرائع" لإسرائيل لتهاجم قطاع غزة    منح جائزة التميز لبرلمان البحر الأبيض المتوسط لوكالة بيت مال القدس الشريف    وفاة الفنان أحمد بيرو أحد رواد الطرب الغرناطي    "فيفا" يدرس مقترحا بإقامة مباريات الدوريات المحلية خارج بلدانها    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة.. نزول أمطار ضعيفة ومتفرقة فوق مناطق طنجة واللوكوس    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    اعتبروا الحوار "فاشلا".. موظفون بالجماعات الترابية يطالبون بإحداث وزارة خاصة    مربو الماشية يؤكدون أن الزيادة في أثمنة الأضاحي حتمية ولا مفر منها    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نتزوج لننطلق أم لنختنق
نشر في هسبريس يوم 28 - 01 - 2019

لماذا يقتل الزواجُ الطموح والأحلام والإبداع والآمال والحب والخيال والجمال والموهبة والعطاء، ويوقف القطار الذي كان قد أخذ طريقه ليذهب بعيداً، وتفتر تلك الإرادة المتمردة بالزواج وقد كانت بالأمس القريب متوهجة صلبة تكسر الحديد وتحلق في الأفق الأعلى كالصقر العنيد؟ ما بالها بعد الزواج تخمد كالرماد وتنهار ثم تهوي بها الريح في مكان سحيق؟
تجمعك الصدفة وجهاً لوجه برفيق الدراسة عن غير موعد، قبل أن تتعانقا تختزل رؤيتك له في ثوان زمن الورد والعنفوان؛ لكن، يصدمك منظره قبل مخبره. مَن كان كله حُلْماً ومرحاً وابتسامة، مَن كان يحادث الطبيعة فتجيبه. يفهم لغة الطير في تغريدها وخرير المياه في جريانها. ينظم الشعر. يعارض شوقي في كبرى القصائد، يقلد بروسلي ويشرح لنا السر في سرعة لكماته دون أن نكون في حاجة إلى سماعه. يمر بالمكتبة كل مساء يتأبط كتاباً جديداً أو قديماً ومجلة معه. يحدثك عن آخر ما قرأ. يقول إنه وإنه وإنه سيكتب في كذا، وسيؤلف في كذا، وسينقش اسمه على صفحات الصخور في أعالى الجبال. يقف طويلا أمام المرآة متبختراً حريصاً على اللياقة والأناقة والجلوس في صدر القاعة. يحاكي مرسيل خليفة في أغانيه بكل ثقة على أنغام العود، يردد تلقائياً ويحملنا على الترداد معه جماعة:
منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ، وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي
قلبي قمرٌ أحمر، قلبي بستان
فيه فيه العوسج، فيه الريحان
تلك كانت لغته المتحدية المترنمة. كانت ثقته بنفسه وإنتاجه يوحيان بأنه قاب قوسين أو أدنى من النجومية.
وبعدها، ما ذا فعلت بك الأيام صديقي؟ بالأحرى: ماذا فعل بك الزواج؟ بدا لي ذات يوم مستسلماً مسالماً يتقدمه بطنه. يمشي مثل البطريق. يتكلم مثل الأرنب خفت صوته وخبت شرارته واختفت نبرته وفارقته ابتسامته وقهقهته وانحدرت نحو الأرض أكتافه. لم يعد منتصب القامة يمشي ولا مرفوع الهامة يمشي. لم يعد قلبه قمراً أحمر فيه العوسج والريحان.
ومن ورائه ترمقك كريمته شزراً عليها غَبَرة ترهقها قَتَرة. تود لو بينك وبينه أمداً بعيداً. تود لو ينتهى هذا اللقاء الذي جاء بدون موعد.
حضرتني قولة أبي فراس الحمداني:
وقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا * فقلتُ: معاذ! الله بل أنتِ لا الدهرُ.
بل معاذ الله أن نحمل مسؤولية فشل صديقنا لكريمته، أو للزواج لذاته؛ لأن حواء لم تأكل وحدها من شجرة الخلد، وملك لا يبلى، ولم تكن غاوية آدم، ولا من بدأت بالأكل كما في الكتاب المقدس ليُحكم على المرأة بعدها أنها مصدر الشر. بل أكلا منها معاً: [فَأَكَلَا مِنْهَا] فوق ذلك أسندت مسؤولية العصيان لآدم وحده [ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ - سورة البقرة 121]. يبقى الرجل المسكين هو المنهزم خاسر الرهان ينتظره الشقاء بعد الجنة في أرض الأحزان [ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى -البقرة 117] فتشقى أنت وحدك، ليس فتشقيا معاً في الأرض. هكذا تخرج السيدة بالبراءة.
لكن الذاكرة الشعبية [الشرقية] تختزن حمولة هائلة لأحكام قاسية عن المرأة والزواج، أمثالاً تجسد الحرب الأزلية بين الجنسين ربما ترجمت التجارب العملية للأزواج فأنطقتهم التجارب بالحكمة مثل قولهم: الزواج مرض وراثي. الزواج مقبرة. الزواج لعنة. الزواج هو الحرب الوحيدة التي فيها تنام بجانب العدو. وقولهم: اجعل أولادك يقرَؤون قصص الرعب حتى لا تصدمهم الحياة الزوجية عندما يتزوجون. أو كقولهم: إن المرأة كالماء ستغرَقُ إن اقتربتَ منها أو تموت عطشاً إذا ابتعدت عنها. المرأة شر لا بد منه.. واللائحة تطول.
كثير من الكُتاب المعاصرين كفروا بالحب وسحبوا منه ثقتهم إلى الأبد. ألصقوا به تهما عنيفة وهم غاضبون منهزمون منكسرة قلوبهم. كلمتهم الأخيرة: أن العلاقة بين الرجل والمرأة اقتصادية. وكفى الله المحبين القتال. الحقيقة أنهم لم يدركوا للحب معنىً.
ما هو المحرك الأول بداية لدى الشخص ليقرر حب شخص بعينه؟ فاختلاف التصور في المقدمة يعطي اختلافاً في النتيجة.
في زمننا يتفق المُتحابان قبل الزواج بشفافية على كل شاردة وواردة إلا على شيء واحد يظل منطقة رمادية مجهولة لا يوضع فوق طاولة العاشقين للنقاش وهو: الحكمة من رسالة وجودهما في الحياة وكيف سيؤديانها. فيوم أن تتوفر لهما وسائل العيش الرغيد التي اتفقا على توفيرها قبل الزواج تبدأ الأيام تُكرر نفسها ثم تفقد ذوقها. فمن بلغ غاية ما يحبّ فليتوقع غاية ما يكره كما قالت العرب.
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ * فَلَا يُغَر بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هذا أبو البقاء الراندي يبكي سقوط الأندلس. لكن سقوطها يتكرر بين الزوجين يوم سقوط حبهما بقدوم موسم الجفاف والسنون العجاف يوم تخلو الحياة من الابتسامة واللطف واللمسة الحانية. ويقوى التلاوم، فيتدخل الجيران والشرطة في حل النزاع؛ فلا الزمن ولا الأطفال الأبرياء ولا ظروف الحياة ولا غلاء الأسعار ولا عوامل خارجية مَن يتحمل آنذاك مسؤولية الاختناق.
كل زوجين فشلا إلا وتساءلا: أين ذهب حبنا؟ أقول: هل كان حباً أم كان صرحاً من خيال فهوى؟ هل كان حقيقة أم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ماذا نحب فيمن نحب عندما نقرر أن نحب؟ أقول هذا على مذهب من يقول إن الحب قرار يقرره المرء بإرادته متى يريد أن يحب من يحب؟ وهو مذهب في الحب نادر. السائد: أن لا تكون لك يد فيمن تحب. وذلك من باب الحب من أول نظرة كما عند ابن حزم في طوقه. وللناس فيما يعشقون مذاهب، كما قال بشار بن برد:
عشقتها شمطاء شاب وليدها * وللناس فيما يعشقون مذاهب
لها جسم برغوث وساقا بعوضة * ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها * تعوذ منها حين يمسي ويصبح
لها منظر كالنار تحسب أنها * إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح
ربما سقط بشار في حبها لأول نظرة. لكن بشار بن برد كان أعمى، فانتبه.
تبسيطاً لسؤال الحب المخيف: لماذا يموت الحب بعد الزواج؟ وماذا يموت منه، أو فيه؟ هل هو شيء فسيولوجي عضوي فيزيائي يرى بالعين المجردة وتلحقه الموت بعد الحياة أم موته مجاز؟ وهل مات أم فتَر؟ هذا إن سلمنا جَدلاً بحصوله لدى من اشتكى من موته؟
في اعتقادي، أن الحب الخالد هو أن تحب المعاني والمعالي الخالدة التي يحملها محبوبك [هذا إن كان يحملها في الأصل] فنحن نحمل صفات أخلاقية لا يحكُمُها الزمن. تموت أجسادنا وتخلدنا أعمالنا وأخلاقنا. تلك معان لا نُقبِرها مع الميت لأنها قدسية لا يصل إليها ملك فيكتبها ولا شيطان فيفسدها؟
هل مات حبنا لرموز كونيين لم تخلدهم أجسادهم ولا أموالهم بل أعمالهم الجليلة وصفاتهم ومواقفهم وإبداعاتهم الخالدة. ترك ذكرهم في القلب لهفة وفي العين دمعة. [ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ - يس: 12] انهزم الموت أمامهم وانتصر حبهم على موتهم في عمق الزمن وقلوب الملايين. سطع نجمهم يوم موتهم. فلو حمل محبوبك شيئاً من تلك المعاني الخالدة لحق أن تنصبي له في أعماقك تمثالاً. ولتحول العمر معه إلى دقائق وتمنيتما أن يتوقف الزمن كي تستزيدا شرباً من كأس الحياة الطيبة.
قوم فرضوا على الأجيال حبهم، وآخرون لم يجدوا قطرة حب يحيون بها لساعة أو تترك لهم لسان صدق في الآخرين. دُفنت معهم أسماؤهم وماتوا ميتتين. الصنف الأول هم الخالدون خلدهم عطاؤهم وحبهم للآخرين، والصنف الثاني بُخلاء تقوقعوا على اللذات. عاشوا لشهواتهم. تعسون. فليذهبوا إلى الجحيم. لا تحزن عليهم.
عندما قررت أن تحب هلا تحريت العناصر المكونة للشخصية [الإنسان] المتكاملة؟ أم كنت نبحث عن عناصر معينة في محبوبك فوجدتها بينما ظلت حلقات أخرى فارغة فانكسرت الدائرة التي لم تكتمل في تكوينها من أول يوم أحق أن تكتمل فيه. فكان انكسارها أمراً طبيعاً لا يستحق البكاء. لأن العنصر الخام الذي سيخلد حبكما انعدم في محبوبك فولد ميتاً أو عاش الأيام أو الأسابيع التي استحق أن يعيشها ليسقط عند أول عاصفة تهب عندما سقطت المساحيق وانقلبت الابتسامة أوامر ونواهي. وطفت المزاجية المتقلبة على السطح. وخيم الصمت القاتل والكسل الكئيب. غابت وسائل الصيد فكل الصيد في جوف الفرا كما جاء في أقدم مثل قالته العرب.
الحب الذي تحضر فيه العناصر المتعالية Transcendence لا تلحقه الشيخوخة ولا الموت. لأنه وُجد قبلكما وسيبقى؛ فاطمئنا، لا تخافا هو معكما يسمع ويرى. يغمركما ويحتضنكما. يزداد مع الزمن فيكما نمواً فهو مطلق. والجمال نسبي يختلف باختلاف الذوق. كلما تقدم بنا الزمن ازداد جمالنا وقويت جاذبيتنا، ويبقى الحب سلطاناً على قلوبنا يحكم بالعدل ومصدراً للإلهام والحكمة والانطلاق نحو الآفاق. يجمع شتاتك المبعثر يخلق منها قوة خارقة متناسقة مركزة وينير لك الطريق كلما دهم الظلام أفقك.
Immanenceأما "الحب" الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه وتأسس على عناصر أرضية هو ظرفي موسمي مصلحي سيموت طال الزمن أم قصر. هو الحب الذي يملأ واقعنا اليوم الذي اتهم بالغدر والخيانة، وأنه المنتقم من صاحبه، وأنه أذا استأسد قتل وإذا تنمر غدر، هو كذلك لكن ليس هو الحب. اختطف اسم الحب، فلا يخدعنكم، أطردوه من حياتكم بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال. وابحثوا عن النسخة الأصلية للحب الخالد.
لتسكنوا إليها
السكينة: ذلك العنصر السماوي النازل من السماء المنزه عن المادة. نعيشها تجربة ولا نراها تجريداً. تنزل حصرياً بين زوجين تجانست أرواحهما واتحدت منصهرة في ذاتها. تأتي في القرآن الكريم عقب فعل أنزل فهي نازلة ليست من هنا.
[هو الذي أنزل السَّكِينَةَ - سورة الفتح:4]
[ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ- التوبة26]
[ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا - التوبة40]
موقف نزولها على الرسول وأصحابه كان دائما حرجاً يكتسيه التوتر والاضطِراب والخوف والحزن والهيجان والانفعال، فتنزل السكينة تملأ القلوب بالأمن والطمأنينة والاستقرار والهدوء والثبات والتعقل وزيادة الإيمان والحكمة. فينعكس ذلك على المظهر الخارجي للشخص فيحسن التصرف واتخاذ القرار المناسب للحظة. نشاط التأمل Meditation في الديانات الأسيوية هو عملية لاستنزال السكينة. فهي العنصر الضامن للسعادة والانطلاق نحو البناء.
[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً - الروم:21] هُوَ الذي خَلقَكم من نَفْسٍ وَاحدَة وَجَعَلَ منْهَا زَوْجَهَا ليَسْكنَ إليْهَا-الأعراف 189]]
لأول مرة، أجد في هذا التركيب اللغوي نقطة لطيفة أثارت انتباهي: تكرر في الآيتين حرفا الجر: إلى في لفظي لتسكنوا إليها، و- ليسكن إليها. فإليها في كلتا الكلمتين جار ومجرر يتعلق بفعل لتسكنوا.
أنت خبير بأن حرف الجر "إلى" من حروف المعاني معناه الانتهاء إلى هدف حسي أو معنوي. وعملية الانتهاء إنما تأتي عقب حركة وبحث أو سفر شاق. ثم يحصل الانتهاء إلى المبتغى بعد جهد. فالذي يقوم بعملية البحث هنا هي الروح. تظل تبحث عن نوعها خلال مشوار شاق طويل قد تجد نوعها وقد لا تجده. ربما يتزوج المرء ويلد ويرحل دون أن تنتهي روحه في هذه الحياة إلى من تسكن إليها يكون من فصيلتها، تأويها تحتضنها تنصهر فيها تتآلف معها يصيران واحداً متحداً يتألمان لألم واحد يصيب أحدهما. يحسان ببعضهما. هي عملية بحث جزافية طويلة الأمد قد تكون واضحة الهدف لكنها مجهولة الجدوى ليست عديمته. فإن لم تجد عاشت معذبة بلا سكن ولا مأوى، متناثرة مشتتة ممزقة متسكعة بين الأزقة والأمصار.
شريك حياتك مفتاح كنوزك
إذا أردت العثور على المفاتيح الضائعة لشخصيتك فابحث عنها عند شريك حياتك الحقيقي-إن وجدته - فهو وحده الذي سيستخرج الكنوز التي بداخلك. ويفكك طلاسيمك كما فكك شامبليون الحروف الهيروغليفية وكشف غموض أسرار حضارة مصر القديمة. أبوابك المعقدة لا تفتحها إلا أصابعُها الحريرية أُماً كانت أو زوجة. نبحث عن الإلهام في جمال الطبيعة وصفاء البحر لكن إلهام الزوجان لبعضهما لا حد له. شريك حياتك يدلك على أشياء في شخصك لم تعرفها قبله.
حتى من ألهممنا ولو ليوم واحد ثم صرفته الأيام عنا أو صرفتنا عنه لا يمكن أن ننساه كما بكاه هنا بشار بن برد مرة أخرى:
أَبكي الذينَ أذَاقوني مَودتهم * حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني، فلما قُمتُ منتصبا * بثقْل ما حَمّلوني وُدّهم قَعدُوا
لأخرجن من الدنيا وحبهمُ * بين الجَوانح لم يشعر به أحد
ألْقيْتُ بيني وبين الْحُزن معرفة ً* لا تنقضي أبداً أو ينقضي الأبد
لا تتنازلي عن طموحاتك بعد الزواج
لا تتنازلي عن طموحاتكِ وكرامتكِ بعد الزواج لإرضاء زوجكِ. وحريتكِ بالأحرى. فالحرية حياة قبل أن تكون شرطاً في الإبداع. الرجل الشهم لا يئد طموحات زوجته في الرمال. بل يقف جنبها، يحترم حدودها وطموحها وأحلامها وحقوقها الشخصية من دراسة أو رياضة أو ترفيه أو عمل اجتماعي أو دعوي أو عبادة أو خلوة مع ربها من ليل أو نهار، أو صيام أو مطالعة أو قيام بأبحاث تخصها.. وليس من مروءة الرجل أن يسعد على حساب سعادة زوجته او بشقائها. تريد زوجة تلهمك وتسعدك وتبدع، في الوقت الذي تُهينها وتضيق عليها الخناق. فاللعنة على الاستبداد والاستعباد في السياسة والزواج.
إذا التقى المتحابان في طريق العطاء بمفهومه الواسع سيغذي العطاء حبهما ويخصبه ويضفي عليه كل حين حياة جديدة. فمِن طَبْع الحب أن يكون معطاء كالغيث دون قيد أو شرط أو انتظار لشكر أو مجاملة أو تقدير. والتقوقع على الذات بتوسيع الأثاث وتغيير الأواني واستبدال في السيارات والثلاجات والتباهي بذلك يجعل حياتنا أنانية جافة مختنقة. عكس الذين يعيشون ليساعدوا الناس بأي عمل كان فيستمدون الحب من مساعدتهم للآخرين [إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم - سورة الأنفال الآية 70]
لم تكن إيزبيلا تحب فرديناندو إذ لم يكن يحمل من مواصفات الرجل الإنسان شيئاً. إلا أن التقى معها في طموح كانت تحمله هي بدورها. كل منهما كان قد رسم هدفاً هو: أن لا يغمض له جفن حتى يطرد آخر مسلم يوجد على أرض الأندلس. كتبت إيزابيلا على نفسها أن لا تتزين إلى أن تحقق ذلك الهدف اللعين. وجدت رجلا يحمل هدفها "السامي" بالنسبة لهما. فانطلقا. وكتبا معاً صفحة سوداء في تاريخ المؤسسة الكاثوليكية. المُهم أنهما انطلقا.
على طريق العطاء الخالد التقت خديجة بنت خويلد بمحمد بن عبد الله قبل الرسالة. امرأة اجتمع فيها ما تفرق في نساء العرب والعجم طلب يدها بعد الترمل النبلاء والأثرياء. لكنها كانت تنتظر زوجها العظيم. وفي أصعب موقف يقفه برزت حاضرة كالجبل الأشم تقول له كلمتها في لحظة كلف فيها برسالة أثقل من ثقل السموات والأرض [إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا - المزمل آية5 ] دخل عليها يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، خائفاً مرتجفاً يقول لها: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فاحتضنته بحبها قائلة: كَلاّ وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِين عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ. تزوجها في الأربعين وهو في الخامسة والعشرين. هنا ينتصر الحب على الزمن والموت. ظلت عائشة تغار من حب النبي الشديد لها وهي ميتة يتحدث عنها كل يوم. فعند فتح مكة أمر أن تنصب له خيمته عند قبرها وهناك قرين العين نام.
أترككم بين الاختناق والانطلاق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.