من أكادير.. انطلاق دينامية شبابية جديدة لترسيخ ثقافة القرب والتواصل السياسي    توقعات الأرصاد الجوية لطقس اليوم الإثنين    فيفا يعلن إجراءات جديدة لحماية صحة اللاعبين وتنظيم فترات الراحة    صاروخ يقتل أطفالا يجلبون الماء في غزة وإسرائيل تعزو السبب لعطل    طنجة.. مكبرات صوت وDJ في الهواء الطلق تثيران استياء المصلين وسكان كورنيش مالاباطا    "السيبة" في أصيلة.. فوضى في الشوارع وغياب للسلطات    تشلسي يصعق باريس سان جيرمان ويتوج بلقب مونديال الأندية الموسع بثلاثية تاريخية    الفنانة الهولندية من أصول ناظورية "نوميديا" تتوَّج بلقب Stars on Stage    رفاق حكيمي يسقطون بثلاثية أمام تشيلسي في نهائي كأس العالم للأندية    كرة القدم.. "فيفا" يكشف عن قرارات جديدة بخصوص صحة وفترات راحة اللاعبين واللاعبات    "كان" السيدات .. تأهل نيجيريا والجزائر    اليمين المتطرف في بلدة إسبانية يستغل حادثة للعنف لربط الهجرة بالجريمة    بناني والحاجي والمرنيسي يحسمون لقب "بطل المغرب" في الفروسية    وفاة رئيس نيجيريا السابق محمد بخاري    أطروحة دكتوراه تكشف محدودية تفاعل المواطنين مع الخدمات الرقمية بالمغرب: فقط 40% راضون    الوزيرة بنعلي تعلن الشروع رسميا في إنجاز مشروع أنبوب الغاز المغرب- نيجيريا        منظمة الصحة العالمية تحذر: تلوث الهواء يهدد أدمغة الأطفال ويعيق نموهم    نشرة إنذارية: موجة حر من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المغرب    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    عودة العيطة إلى مسرح محمد الخامس.. حجيب نجم النسخة الثالثة    لطيفة تطرح الدفعة الأولى من ألبوم "قلبي ارتاح".. أول ألبوم عربي بتقنية "Dolby Atmos"    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يتفاعل مع فاجعة 'خزان أولاد يوسف'    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية مونتينيغرو بمناسبة احتفال بلاده بعيدها الوطني    تيزنيت: للسنة الثانية على التوالي..نسبة النجاح بالبكالوريا تُلامس 80%    إصابة أربعة أشخاص في سقوط أرجوحة بمرتيل    « البسطيلة بالدجاج» تحصد المركز الثالث في مسابقة «تحدي طهاة السفارات» بواشنطن    الكوكب يراهن على خبرة الطاوسي في رحلة التحدي الكبير    "فيفا" يُنصف حكيمي: أفضل مدافع في مونديال الأندية بأرقام دفاعية وهجومية مذهلة    متحدية الحصار الإسرائيلي.. سفينة "حنظلة" تنطلق من إيطاليا باتجاه غزة    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يأسف لتطورات اعتصام قصبة تادلة ويحذر من نشر مشاهد صادمة دون ضوابط    الشاعرة نبيلة بيادي تجمع بتطوان الأدباء بالقراء في برنامج "ضوء على القصيدة"    "نوستالجيا 2025": مسرح يحفر في الذاكرة... ويستشرف الغد    بملتقى فكري مفتوح حول «السؤال الثقافي: التحديات والرهانات»، بالمقر المركزي للحزب بالرباط .. الاتحاد الاشتراكي يفتح نقاشاً ثقافياً استعداداً لمؤتمره الثاني عشر    دلالات خفقان القلب بعد تناول المشروبات المثلجة        الاتحاد الأوروبي يؤجل "رسوم أمريكا"    "عدالة" تنبه إلى التدهور المقلق للوضع الحقوقي بالمغرب وتدعو لإصلاح يضمن الحقوق والحريات    انتهاك صارخ لقدسية الأقصى.. مستوطنون يقتحمون قبة الصخرة ويؤدون طقوسًا تلمودية في ذكرى خراب الهيكل    مراكش تنادي إفريقيا: إصلاح التقاعد لضمان كرامة الأجيال المقبلة    الرابطة المغربية للشباب والطلبة تختتم مخيم "الحق في الماء" بمركب ليكسوس بالعرائش    "بوحمرون" يسلب حياة طفل في مدينة ليفربول    يديعوت أحرونوت: موجة هجرة إسرائيلية غير رسمية نحو المغرب في خضم الحرب    أقدم مكتبة في دولة المجر تكافح "غزو الخنافس"    صحافي أمريكي: الملياردير جيفري إبستين صاحب فضيحة شبكة الدعارة بالقاصرات كان يعمل لصالح إسرائيل    صدور كتاب عن قبيلة "إبقوين" الريفية يفكك الأساطير المؤسسة لقضية "القرصنة" عند الريفيين    تقرير: المغرب ضمن 3 دول أطلقت سياسات جديدة لدعم الزراعة الشمسية خلال 2024    أسعار الذهب تتجاوز 3350 دولارا للأوقية في ظل التوترات التجارية العالمية    تقرير دولي يضع المغرب في مرتبة متأخرة من حيث جودة الحياة        بورصة البيضاء .. أداء أسبوعي إيجابي    نحو طب دقيق للتوحد .. اكتشاف أنماط جينية مختلفة يغيّر مسار العلاج    علماء ينجحون في تطوير دواء يؤخر ظهور السكري من النوع الأول لعدة سنوات    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نتزوج لننطلق أم لنختنق
نشر في هسبريس يوم 28 - 01 - 2019

لماذا يقتل الزواجُ الطموح والأحلام والإبداع والآمال والحب والخيال والجمال والموهبة والعطاء، ويوقف القطار الذي كان قد أخذ طريقه ليذهب بعيداً، وتفتر تلك الإرادة المتمردة بالزواج وقد كانت بالأمس القريب متوهجة صلبة تكسر الحديد وتحلق في الأفق الأعلى كالصقر العنيد؟ ما بالها بعد الزواج تخمد كالرماد وتنهار ثم تهوي بها الريح في مكان سحيق؟
تجمعك الصدفة وجهاً لوجه برفيق الدراسة عن غير موعد، قبل أن تتعانقا تختزل رؤيتك له في ثوان زمن الورد والعنفوان؛ لكن، يصدمك منظره قبل مخبره. مَن كان كله حُلْماً ومرحاً وابتسامة، مَن كان يحادث الطبيعة فتجيبه. يفهم لغة الطير في تغريدها وخرير المياه في جريانها. ينظم الشعر. يعارض شوقي في كبرى القصائد، يقلد بروسلي ويشرح لنا السر في سرعة لكماته دون أن نكون في حاجة إلى سماعه. يمر بالمكتبة كل مساء يتأبط كتاباً جديداً أو قديماً ومجلة معه. يحدثك عن آخر ما قرأ. يقول إنه وإنه وإنه سيكتب في كذا، وسيؤلف في كذا، وسينقش اسمه على صفحات الصخور في أعالى الجبال. يقف طويلا أمام المرآة متبختراً حريصاً على اللياقة والأناقة والجلوس في صدر القاعة. يحاكي مرسيل خليفة في أغانيه بكل ثقة على أنغام العود، يردد تلقائياً ويحملنا على الترداد معه جماعة:
منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ، وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي
قلبي قمرٌ أحمر، قلبي بستان
فيه فيه العوسج، فيه الريحان
تلك كانت لغته المتحدية المترنمة. كانت ثقته بنفسه وإنتاجه يوحيان بأنه قاب قوسين أو أدنى من النجومية.
وبعدها، ما ذا فعلت بك الأيام صديقي؟ بالأحرى: ماذا فعل بك الزواج؟ بدا لي ذات يوم مستسلماً مسالماً يتقدمه بطنه. يمشي مثل البطريق. يتكلم مثل الأرنب خفت صوته وخبت شرارته واختفت نبرته وفارقته ابتسامته وقهقهته وانحدرت نحو الأرض أكتافه. لم يعد منتصب القامة يمشي ولا مرفوع الهامة يمشي. لم يعد قلبه قمراً أحمر فيه العوسج والريحان.
ومن ورائه ترمقك كريمته شزراً عليها غَبَرة ترهقها قَتَرة. تود لو بينك وبينه أمداً بعيداً. تود لو ينتهى هذا اللقاء الذي جاء بدون موعد.
حضرتني قولة أبي فراس الحمداني:
وقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا * فقلتُ: معاذ! الله بل أنتِ لا الدهرُ.
بل معاذ الله أن نحمل مسؤولية فشل صديقنا لكريمته، أو للزواج لذاته؛ لأن حواء لم تأكل وحدها من شجرة الخلد، وملك لا يبلى، ولم تكن غاوية آدم، ولا من بدأت بالأكل كما في الكتاب المقدس ليُحكم على المرأة بعدها أنها مصدر الشر. بل أكلا منها معاً: [فَأَكَلَا مِنْهَا] فوق ذلك أسندت مسؤولية العصيان لآدم وحده [ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ - سورة البقرة 121]. يبقى الرجل المسكين هو المنهزم خاسر الرهان ينتظره الشقاء بعد الجنة في أرض الأحزان [ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى -البقرة 117] فتشقى أنت وحدك، ليس فتشقيا معاً في الأرض. هكذا تخرج السيدة بالبراءة.
لكن الذاكرة الشعبية [الشرقية] تختزن حمولة هائلة لأحكام قاسية عن المرأة والزواج، أمثالاً تجسد الحرب الأزلية بين الجنسين ربما ترجمت التجارب العملية للأزواج فأنطقتهم التجارب بالحكمة مثل قولهم: الزواج مرض وراثي. الزواج مقبرة. الزواج لعنة. الزواج هو الحرب الوحيدة التي فيها تنام بجانب العدو. وقولهم: اجعل أولادك يقرَؤون قصص الرعب حتى لا تصدمهم الحياة الزوجية عندما يتزوجون. أو كقولهم: إن المرأة كالماء ستغرَقُ إن اقتربتَ منها أو تموت عطشاً إذا ابتعدت عنها. المرأة شر لا بد منه.. واللائحة تطول.
كثير من الكُتاب المعاصرين كفروا بالحب وسحبوا منه ثقتهم إلى الأبد. ألصقوا به تهما عنيفة وهم غاضبون منهزمون منكسرة قلوبهم. كلمتهم الأخيرة: أن العلاقة بين الرجل والمرأة اقتصادية. وكفى الله المحبين القتال. الحقيقة أنهم لم يدركوا للحب معنىً.
ما هو المحرك الأول بداية لدى الشخص ليقرر حب شخص بعينه؟ فاختلاف التصور في المقدمة يعطي اختلافاً في النتيجة.
في زمننا يتفق المُتحابان قبل الزواج بشفافية على كل شاردة وواردة إلا على شيء واحد يظل منطقة رمادية مجهولة لا يوضع فوق طاولة العاشقين للنقاش وهو: الحكمة من رسالة وجودهما في الحياة وكيف سيؤديانها. فيوم أن تتوفر لهما وسائل العيش الرغيد التي اتفقا على توفيرها قبل الزواج تبدأ الأيام تُكرر نفسها ثم تفقد ذوقها. فمن بلغ غاية ما يحبّ فليتوقع غاية ما يكره كما قالت العرب.
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ * فَلَا يُغَر بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هذا أبو البقاء الراندي يبكي سقوط الأندلس. لكن سقوطها يتكرر بين الزوجين يوم سقوط حبهما بقدوم موسم الجفاف والسنون العجاف يوم تخلو الحياة من الابتسامة واللطف واللمسة الحانية. ويقوى التلاوم، فيتدخل الجيران والشرطة في حل النزاع؛ فلا الزمن ولا الأطفال الأبرياء ولا ظروف الحياة ولا غلاء الأسعار ولا عوامل خارجية مَن يتحمل آنذاك مسؤولية الاختناق.
كل زوجين فشلا إلا وتساءلا: أين ذهب حبنا؟ أقول: هل كان حباً أم كان صرحاً من خيال فهوى؟ هل كان حقيقة أم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ماذا نحب فيمن نحب عندما نقرر أن نحب؟ أقول هذا على مذهب من يقول إن الحب قرار يقرره المرء بإرادته متى يريد أن يحب من يحب؟ وهو مذهب في الحب نادر. السائد: أن لا تكون لك يد فيمن تحب. وذلك من باب الحب من أول نظرة كما عند ابن حزم في طوقه. وللناس فيما يعشقون مذاهب، كما قال بشار بن برد:
عشقتها شمطاء شاب وليدها * وللناس فيما يعشقون مذاهب
لها جسم برغوث وساقا بعوضة * ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها * تعوذ منها حين يمسي ويصبح
لها منظر كالنار تحسب أنها * إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح
ربما سقط بشار في حبها لأول نظرة. لكن بشار بن برد كان أعمى، فانتبه.
تبسيطاً لسؤال الحب المخيف: لماذا يموت الحب بعد الزواج؟ وماذا يموت منه، أو فيه؟ هل هو شيء فسيولوجي عضوي فيزيائي يرى بالعين المجردة وتلحقه الموت بعد الحياة أم موته مجاز؟ وهل مات أم فتَر؟ هذا إن سلمنا جَدلاً بحصوله لدى من اشتكى من موته؟
في اعتقادي، أن الحب الخالد هو أن تحب المعاني والمعالي الخالدة التي يحملها محبوبك [هذا إن كان يحملها في الأصل] فنحن نحمل صفات أخلاقية لا يحكُمُها الزمن. تموت أجسادنا وتخلدنا أعمالنا وأخلاقنا. تلك معان لا نُقبِرها مع الميت لأنها قدسية لا يصل إليها ملك فيكتبها ولا شيطان فيفسدها؟
هل مات حبنا لرموز كونيين لم تخلدهم أجسادهم ولا أموالهم بل أعمالهم الجليلة وصفاتهم ومواقفهم وإبداعاتهم الخالدة. ترك ذكرهم في القلب لهفة وفي العين دمعة. [ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ - يس: 12] انهزم الموت أمامهم وانتصر حبهم على موتهم في عمق الزمن وقلوب الملايين. سطع نجمهم يوم موتهم. فلو حمل محبوبك شيئاً من تلك المعاني الخالدة لحق أن تنصبي له في أعماقك تمثالاً. ولتحول العمر معه إلى دقائق وتمنيتما أن يتوقف الزمن كي تستزيدا شرباً من كأس الحياة الطيبة.
قوم فرضوا على الأجيال حبهم، وآخرون لم يجدوا قطرة حب يحيون بها لساعة أو تترك لهم لسان صدق في الآخرين. دُفنت معهم أسماؤهم وماتوا ميتتين. الصنف الأول هم الخالدون خلدهم عطاؤهم وحبهم للآخرين، والصنف الثاني بُخلاء تقوقعوا على اللذات. عاشوا لشهواتهم. تعسون. فليذهبوا إلى الجحيم. لا تحزن عليهم.
عندما قررت أن تحب هلا تحريت العناصر المكونة للشخصية [الإنسان] المتكاملة؟ أم كنت نبحث عن عناصر معينة في محبوبك فوجدتها بينما ظلت حلقات أخرى فارغة فانكسرت الدائرة التي لم تكتمل في تكوينها من أول يوم أحق أن تكتمل فيه. فكان انكسارها أمراً طبيعاً لا يستحق البكاء. لأن العنصر الخام الذي سيخلد حبكما انعدم في محبوبك فولد ميتاً أو عاش الأيام أو الأسابيع التي استحق أن يعيشها ليسقط عند أول عاصفة تهب عندما سقطت المساحيق وانقلبت الابتسامة أوامر ونواهي. وطفت المزاجية المتقلبة على السطح. وخيم الصمت القاتل والكسل الكئيب. غابت وسائل الصيد فكل الصيد في جوف الفرا كما جاء في أقدم مثل قالته العرب.
الحب الذي تحضر فيه العناصر المتعالية Transcendence لا تلحقه الشيخوخة ولا الموت. لأنه وُجد قبلكما وسيبقى؛ فاطمئنا، لا تخافا هو معكما يسمع ويرى. يغمركما ويحتضنكما. يزداد مع الزمن فيكما نمواً فهو مطلق. والجمال نسبي يختلف باختلاف الذوق. كلما تقدم بنا الزمن ازداد جمالنا وقويت جاذبيتنا، ويبقى الحب سلطاناً على قلوبنا يحكم بالعدل ومصدراً للإلهام والحكمة والانطلاق نحو الآفاق. يجمع شتاتك المبعثر يخلق منها قوة خارقة متناسقة مركزة وينير لك الطريق كلما دهم الظلام أفقك.
Immanenceأما "الحب" الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه وتأسس على عناصر أرضية هو ظرفي موسمي مصلحي سيموت طال الزمن أم قصر. هو الحب الذي يملأ واقعنا اليوم الذي اتهم بالغدر والخيانة، وأنه المنتقم من صاحبه، وأنه أذا استأسد قتل وإذا تنمر غدر، هو كذلك لكن ليس هو الحب. اختطف اسم الحب، فلا يخدعنكم، أطردوه من حياتكم بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال. وابحثوا عن النسخة الأصلية للحب الخالد.
لتسكنوا إليها
السكينة: ذلك العنصر السماوي النازل من السماء المنزه عن المادة. نعيشها تجربة ولا نراها تجريداً. تنزل حصرياً بين زوجين تجانست أرواحهما واتحدت منصهرة في ذاتها. تأتي في القرآن الكريم عقب فعل أنزل فهي نازلة ليست من هنا.
[هو الذي أنزل السَّكِينَةَ - سورة الفتح:4]
[ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ- التوبة26]
[ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا - التوبة40]
موقف نزولها على الرسول وأصحابه كان دائما حرجاً يكتسيه التوتر والاضطِراب والخوف والحزن والهيجان والانفعال، فتنزل السكينة تملأ القلوب بالأمن والطمأنينة والاستقرار والهدوء والثبات والتعقل وزيادة الإيمان والحكمة. فينعكس ذلك على المظهر الخارجي للشخص فيحسن التصرف واتخاذ القرار المناسب للحظة. نشاط التأمل Meditation في الديانات الأسيوية هو عملية لاستنزال السكينة. فهي العنصر الضامن للسعادة والانطلاق نحو البناء.
[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً - الروم:21] هُوَ الذي خَلقَكم من نَفْسٍ وَاحدَة وَجَعَلَ منْهَا زَوْجَهَا ليَسْكنَ إليْهَا-الأعراف 189]]
لأول مرة، أجد في هذا التركيب اللغوي نقطة لطيفة أثارت انتباهي: تكرر في الآيتين حرفا الجر: إلى في لفظي لتسكنوا إليها، و- ليسكن إليها. فإليها في كلتا الكلمتين جار ومجرر يتعلق بفعل لتسكنوا.
أنت خبير بأن حرف الجر "إلى" من حروف المعاني معناه الانتهاء إلى هدف حسي أو معنوي. وعملية الانتهاء إنما تأتي عقب حركة وبحث أو سفر شاق. ثم يحصل الانتهاء إلى المبتغى بعد جهد. فالذي يقوم بعملية البحث هنا هي الروح. تظل تبحث عن نوعها خلال مشوار شاق طويل قد تجد نوعها وقد لا تجده. ربما يتزوج المرء ويلد ويرحل دون أن تنتهي روحه في هذه الحياة إلى من تسكن إليها يكون من فصيلتها، تأويها تحتضنها تنصهر فيها تتآلف معها يصيران واحداً متحداً يتألمان لألم واحد يصيب أحدهما. يحسان ببعضهما. هي عملية بحث جزافية طويلة الأمد قد تكون واضحة الهدف لكنها مجهولة الجدوى ليست عديمته. فإن لم تجد عاشت معذبة بلا سكن ولا مأوى، متناثرة مشتتة ممزقة متسكعة بين الأزقة والأمصار.
شريك حياتك مفتاح كنوزك
إذا أردت العثور على المفاتيح الضائعة لشخصيتك فابحث عنها عند شريك حياتك الحقيقي-إن وجدته - فهو وحده الذي سيستخرج الكنوز التي بداخلك. ويفكك طلاسيمك كما فكك شامبليون الحروف الهيروغليفية وكشف غموض أسرار حضارة مصر القديمة. أبوابك المعقدة لا تفتحها إلا أصابعُها الحريرية أُماً كانت أو زوجة. نبحث عن الإلهام في جمال الطبيعة وصفاء البحر لكن إلهام الزوجان لبعضهما لا حد له. شريك حياتك يدلك على أشياء في شخصك لم تعرفها قبله.
حتى من ألهممنا ولو ليوم واحد ثم صرفته الأيام عنا أو صرفتنا عنه لا يمكن أن ننساه كما بكاه هنا بشار بن برد مرة أخرى:
أَبكي الذينَ أذَاقوني مَودتهم * حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني، فلما قُمتُ منتصبا * بثقْل ما حَمّلوني وُدّهم قَعدُوا
لأخرجن من الدنيا وحبهمُ * بين الجَوانح لم يشعر به أحد
ألْقيْتُ بيني وبين الْحُزن معرفة ً* لا تنقضي أبداً أو ينقضي الأبد
لا تتنازلي عن طموحاتك بعد الزواج
لا تتنازلي عن طموحاتكِ وكرامتكِ بعد الزواج لإرضاء زوجكِ. وحريتكِ بالأحرى. فالحرية حياة قبل أن تكون شرطاً في الإبداع. الرجل الشهم لا يئد طموحات زوجته في الرمال. بل يقف جنبها، يحترم حدودها وطموحها وأحلامها وحقوقها الشخصية من دراسة أو رياضة أو ترفيه أو عمل اجتماعي أو دعوي أو عبادة أو خلوة مع ربها من ليل أو نهار، أو صيام أو مطالعة أو قيام بأبحاث تخصها.. وليس من مروءة الرجل أن يسعد على حساب سعادة زوجته او بشقائها. تريد زوجة تلهمك وتسعدك وتبدع، في الوقت الذي تُهينها وتضيق عليها الخناق. فاللعنة على الاستبداد والاستعباد في السياسة والزواج.
إذا التقى المتحابان في طريق العطاء بمفهومه الواسع سيغذي العطاء حبهما ويخصبه ويضفي عليه كل حين حياة جديدة. فمِن طَبْع الحب أن يكون معطاء كالغيث دون قيد أو شرط أو انتظار لشكر أو مجاملة أو تقدير. والتقوقع على الذات بتوسيع الأثاث وتغيير الأواني واستبدال في السيارات والثلاجات والتباهي بذلك يجعل حياتنا أنانية جافة مختنقة. عكس الذين يعيشون ليساعدوا الناس بأي عمل كان فيستمدون الحب من مساعدتهم للآخرين [إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم - سورة الأنفال الآية 70]
لم تكن إيزبيلا تحب فرديناندو إذ لم يكن يحمل من مواصفات الرجل الإنسان شيئاً. إلا أن التقى معها في طموح كانت تحمله هي بدورها. كل منهما كان قد رسم هدفاً هو: أن لا يغمض له جفن حتى يطرد آخر مسلم يوجد على أرض الأندلس. كتبت إيزابيلا على نفسها أن لا تتزين إلى أن تحقق ذلك الهدف اللعين. وجدت رجلا يحمل هدفها "السامي" بالنسبة لهما. فانطلقا. وكتبا معاً صفحة سوداء في تاريخ المؤسسة الكاثوليكية. المُهم أنهما انطلقا.
على طريق العطاء الخالد التقت خديجة بنت خويلد بمحمد بن عبد الله قبل الرسالة. امرأة اجتمع فيها ما تفرق في نساء العرب والعجم طلب يدها بعد الترمل النبلاء والأثرياء. لكنها كانت تنتظر زوجها العظيم. وفي أصعب موقف يقفه برزت حاضرة كالجبل الأشم تقول له كلمتها في لحظة كلف فيها برسالة أثقل من ثقل السموات والأرض [إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا - المزمل آية5 ] دخل عليها يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، خائفاً مرتجفاً يقول لها: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فاحتضنته بحبها قائلة: كَلاّ وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِين عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ. تزوجها في الأربعين وهو في الخامسة والعشرين. هنا ينتصر الحب على الزمن والموت. ظلت عائشة تغار من حب النبي الشديد لها وهي ميتة يتحدث عنها كل يوم. فعند فتح مكة أمر أن تنصب له خيمته عند قبرها وهناك قرين العين نام.
أترككم بين الاختناق والانطلاق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.