معرض باريس الجوي.. مزور: 150 شركة طيران تتوفر على وحدة إنتاج واحدة على الأقل بالمغرب    تداولات بالأحمر في بورصة البيضاء    التوصية بتسريع التقنين وتيسيير التمويل تتوج "مناظرة الاقتصاد التضامني"    مانشستر سيتي يفوز على الوداد المغربي بثنائية نظيفة    المغرب ملتزم بجعل كأس العالم 2030 نموذجا للاندماج والاستدامة البيئية (لقجع)    تفكيك شبكة دولية لتهريب السيارات المسروقة نحو المغرب عبر ميناء طنجة المتوسط    ندوة بالرباط تثمن "الكد والسعاية"    لوديي يستقبل بالرباط وزير الدفاع بجمهورية رواندا    سفير بريطانيا: الحكم الذاتي يحل نزاع الصحراء .. والشراكة مع المغرب حقيقية    مشاكل تقنية منعت شبابا من إيداع عريضة ضد إقصائهم من مباراة التعليم بتسقيف سن الترشيح في 30 سنة    ثلاثة مغاربة ضمن قائمة أغلى عشرة لاعبين عرب بمونديال الأندية    مونديال الأندية.. الوداد يكشف عن التشكيلة الرسمية لمواجهة مانشستر سيتي    السعودية تُعلن فتح باب التقديم لتأشيرات العمرة لموسم 2025 بشروط جديدة وتسهيلات موسعة    برادة يستعرض مقتضيات مشروع قانون تطوير منظومة التعليم المدرسي    المغرب يحقق رقما قياسيا جديدًا في عدد السياح    السيّد يُهندس مسلسل شارع الأعشى في كتاب    إيران: سيطرنا على أجواء الأرض المحتلة اليوم وبداية نهاية أسطورة الدفاع للجيش الصهيوني    وهبي: آن الأوان للاعتراف القانوني بمساهمة المرأة في تنمية الثروة الأسرية    طقس حار وزخات رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    الدرك الملكي يحجز 8 أطنان من الشيرا    نشرة إنذارية..طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    أفلام قصيرة تتبارى على ثلاث جوائز بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    جلالة الملك يهنئ رئيس السيشل بمناسبة العيد الوطني لبلاده    خامنئي: إيران "لن تستسلم أبدا" للضغوط    انتخاب المغرب نائبا لرئيس المجلس العلمي لاتفاقية اليونيسكو حول حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه    فجيج بين ازيزا النادرة والتربية العزيزة.. حكاية واحة لا تموت    دورة تكوينية وورشات فنية لفائدة الأطفال والشباب بالمركز الثقافي لمدينة طانطان    مسرح رياض السلطان يحتضن أمسيات شعرية موسيقية من الضفتين وقراءة ممسرحة لرواية طنجيرينا وأغاني عربية بإيقاعات الفلامينغو والجاز والروك    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني.. تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    لقجع: الدعم الاجتماعي المباشر حلقة جديدة ضمن المبادرات الملكية الهادفة إلى صون كرامة المواطن    اعمارة: أنماط التشغيل الجديدة تواجه تحديات غياب التأطير القانوني والحرمان من الحماية الاجتماعية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أردوغان: "نتنياهو تجاوز هتلر في جرائم الإبادة"        بعد أزمة القطيع.. مطالب لمجلس الحسابات بافتحاص أموال وبرامج جمعية مربي الأغنام والماعز    المغرب ‬خامس ‬قوة ‬اقتصادية ‬في ‬إفريقيا: ‬مسار ‬تحول ‬ونموذج ‬إقليمي ‬صاعد    ارتفاع أسعار النفط في التعاملات الآسيوية    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل فلومننزي البرازيلي وبوروسيا دورتموند الألماني دون أهداف    الرباط.. المحكمة الإدارية تنظر في طلب افتحاص صندوق تقاعد المحامين بمراكش    "واتساب" ينفي نقل بيانات مستخدمين إلى إسرائيل    مجازر الاحتلال تتواصل.. إسرائيل تقتل 32 فلسطينيا بغزة بينهم 11 من منتظري المساعدات    فياريال الإسباني يتعاقد مع لاعب الوسط موليرو لخمس سنوات    تحول "OpenAI" إلى الربحية يشعل الخلاف مع "مايكروسوفت"    مشروع سكني بالغرب يجلب انتقادات    كأس العالم للأندية .. قمة إنجليزية مغربية وصدام إسباني سعودي    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات التشريعية والدرس المُستفاد
نشر في هسبريس يوم 28 - 11 - 2011

أُعلنَ مؤخَّراً عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية المغربية التي جرت يوم 25 نونبر 2011. وقد جاء حزبُ العدالة والتنمية على رأس قائمة الأحزاب الفائزة (107 مقعد) متبوعاً ولو بفارق كبير بحزب الاستقلال ( 60 مقعداً). ومجموع مقاعد هذين الحزبين وحدهما يُشكِّل قرابة نصف مقاعد مجلس النواب ( 395 مقعد) التي تنافسَ عليها واحد وثلاثون حزباً. ولو لم تكن هنالك دعوةٌ قويةٌ للمقاطعة وقُدِّر للمشاركة في التصويت أن تكون أكثر من النسبة المُعلنة ( وهي 45 ,40 %)، ولو كان نظام الانتخابات المعمول به في المغرب يسمح لحزب من الأحزاب أن يحصل على الأغلبية المطلقة أو النسبية، ولو كانت التيارات الإسلامية كلها قد شاركت في العملية الانتخابية ولم يجنح بعضُها للمقاطعة أو العُزوف عن المشاركة السياسية، لكانت الانتخابات التي جرت قد مكَّنت مجموع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من الحصول على أغلبية مطلقة تسمح لها بتولي زمام الحُكم من غير أي عائق أو أية حاجة للبحث عن تحالفات خارجية. ومهما يكن، فإن النتائج المحصَّل عليها قد مَكَّنت الحزب الأول ( العدالة والتنمية) من فوزٍ ساحق وتقدُّم كبير مقارنة مع انتخابات 2007، رغم الظروف التي ذكرناها، ومكَّنت الحزب الثاني في الترتيب ( الاستقلال) من تقدم لا بأس به رغم تحمّله مسؤولية رئاسة الحكومة السابقة وتعرّضه لحَمَلات مُوجعة من النقد خلال الولاية التشريعية السابقة. ولا شك في أن هذه النتيجة المحصَّل عليها لها، وهذا التحوُّل في المشهد السياسي المغربي، لهما دلالتُهما الخاصة التي يجب أن نقرأها قراءةً صحيحة ونستخلص منها الدرس الذي يجب استخلاصُه.
إن التحليل المنطقي لواقعة هذه الانتخابات، يبيِّن بما لا شكَّ فيه، أن الشعب المغربي، حين أُتيحت له فرصةُ التعبير عن رأيه بحرية كاملة أو شبه كاملة من غير تزييف أو إفساد مالي أو تدخل إداري، لم يتردد في الإفصاح عن ميوله الطبيعية والتلقائية المعروفة عنه تاريخياً وعن هويته الحقيقية التي طالما تعرَّضت للطمس والتشويه والتحريف، وهي الهوية التي تمثِّلُها رمزيةُ الحزبين الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية والمتشبِّثَين في برنامجهما السياسي بالانتماء الإسلامي العربي ذي الصبغة الأمازيغية. هذه الهوية ذات الأبعاد الثلاثة المُتلازِمة مع بعضها هي التي عملت التياراتٌ التي كانت متحكِّمةً بسلطتها ونفوذها في المراحل السابقة على محاولة طَمسها وحَجبها عن الظهور بحجمها وشكلها الحقيقي الذي ظهرت عليه اليوم، إما بمحاولة فرض عنصر هُويّاتي فرنكفوني وإقصاء البُعدين العربي والإسلامي، وإما بمحاولة تمزيق لُحمة المجتمع المغربي وضربَ بعضه ببعض، وجرّ البلاد نحو صراعات عرقية وطائفية لم يعرف المغربُ عبر تاريخه الطويل مثيلاً لها، أو بالسعي للتخويف من الإسلام السياسي والتيار الديني عامة وتهويل شأنهما وتصويرهما، للحُكام في الداخل والقوى الغربية المُهيمِنة في الخارج، في شكل فَزّاعة مُخيفة تُحيلُ على الإرهاب والتطرُّف من جهة، والجمود المُتعارض مع التقدمً والحداثة من جهة أخرى. لكن وعي المغاربة استطاع الآن أن يتجاوزَ بحسِّه ويقظته حدود هذه المؤامرة المرسومة بجميع خيوطها المحبوكة ضد حقيقة هويته وملامح شخصيته. وهذا هو المغزى الحقيقي من وراء رغبته التي عبَّرت عنها أصواتُ الناخبين، في وضع زمامِ قيادته وثقته في يد حزب ذي مرجعية إسلامية واضحة متبوعاً بحزب آخر له نفسُ المرجعية. لأن المغرب لا يمكن أن يكون إلا بلداً مُسلِماً حريصاً على دينه وثقافته الإسلامية، وجزءاً لا يتجزأ من العالمين العربي والإسلامي تاريخاً وجغرافيةً وانتماءً حضارياً. والتصويت لفائدة حزب العدالة والتنمية بالدرجة الأولى يعتبر من هذا الباب عقاباً لكل الأحزاب التي تحاول أن تبتعد بالمغرب عن هويته الإسلامية وانتمائه العروبي.
نتيجةُ صناديق الاقتراع في الانتخابات المغربية، من هذه الناحية أيضاً، يجب أن تُقرأ في سياقها التاريخي العام الخارجي والداخلي وصيرورة الأحداث وسلسلة التطورات والتحوُّلات التي عرفتها المنطقة العربية والإسلامية، وهي تطورات وتحولات كان لا بد لها أن تقع، باعتبار أنها ردُّ فعل طبيعي لسلسلة متوالية من الهزائم والانكسارات المُدمِّرة نفسياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، مُنيت بها الأمةُ بعد حرب 1948 ونكسة 1967م، وبعد تجربة مريرة من حكم استبدادي عسكري أو غير عسكري تارة، أو قومي أو عَلماني تارةً أخرى لم تسلم منه دولة عربية أو إسلامية، ولم تكن هذه التجربة أفضلَ حالاً من المرحلة السابقة لها وهي مرحلة السيطرة الاستعمارية الاستيطانية التي وجهَّت للعالم العربي الإسلامي أكبرَ إهانة في تاريخه. وخلال هذه المراحل والتجارب كلها عانت شعوبُنا العربيةُ والإسلامية معاناةً شديدةً، وفقدت كثيراً من كرامتها وعِزَّتها وحريتها ووحدتها وسيادتها وتلاحمها.
تعود بداياتُ هذه التحولات إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي. فقد دَشَّنَت الثورة الإيرانية سنة 1979م بداية مرحلة وعيٍ جديد دبّت حركتُه في جسم الأمة الإسلامية وهي مرحلة ما أصبح يُعرف « بالصحوة الإسلامية ». والمحطة التالية في هذه الصحوة الجديدة ومحاولة استرجاع الوعي، هي المتمثِّلة في فوز جبهة الإنقاذ في الانتخابات الجزائرية سنة 1991م. لكن هذا الفوز تمَّت مواجهتُه وتصفيتُه بقوة عنيفة وحوَّلته إلى هزيمة أدى الشعبُ الجزائري ضريبتَها خلال عشر سنوات من الحرب الأهلية الطاحنة التي لم يكن لها أيُّ مبرِّر على الإطلاق سوى الخوف من صعود حزب ذي توجُّه إسلامي كان يُخشى منه أن يُحدِثَ تحوُّلاً لم تكن الطبقة السياسية التقليدية تومن به أو قادرة على تحمُّل تبعاته ونتائجَه. ورغم ما وقعَ، فإن ذلك الحدَثَ البارزَ قد تركَ أثرَه الذي لا يمكن محوُه من ذاكرة التاريخ. ثم جاءت محطة أخرى وهي صعود نجم حزب العدالة والتنمية التركي ذي المرجعية الإسلامية الذي استطاع انتزاع الحُكم وقيادة البلاد ابتداءً من سنة 2002 بعد حلِّ حزب الفضيلة لنجم الدين أربكان عاماً واحداً قبل ذلك. وجاءت بعد هذه المرحلة محطّات أهمها فوزُ التيارات الإسلامية الممثّلة في حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) في الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر عام 2005 بما يقرب من ثلثي المقاعد ( 76 مقعداً من أصل 132). ورغم الاعتراف الدولي بنزاهة الانتخابات الفلسطينية والنتائج التي أسفرت عنها، إلا أنه سرعان ما تمَّ الانقلابُ على تلك الحركة التي تولَّت رئاسة الحكومة لفترة قصيرة، وأعلن محمود عباس بضغوط من إسرائيل والغرب حلَّ تلك الحكومة الشرعية، ففتح بذلك البابَ مُشرَعاً لحرب أهلية لم يتمَّ التغلُّب على آثارها المُدمِّرة لحد الآن.
ومن المحطات الأخرى التي لا يجب إغفالُها حين استعراض التطورات التي عرفتها الساحة العربية والإسلامية قبل الربيع العربي الأخير، تنامي القوة الإسلامية في كل من ماليزيا وأندونسيا وباكستان وأفغانستان ونيجريا والسودان ومصر واليمن والأردن وغيرها، فضلاً عن منطقة الشمال الإفريقي. وفي ظل هذا المناخ الجديد بدأت نشأةُ أحزاب ذات مرجعية إسلامية متميِّزة، سُمح للكثير منها بممارسة نشاطها السياسي بشكل طبيعي وعلَني، وضُربَ الحصارُ على تنظيمات أخرى قيل إنها متطرِّفة. هذه التغيّرات كانت عاملاً حاسِماً وتمهيداً ضرورياً لما جاء بعد ذلك من تحولات مُتسارعة انتهت بظهور حركة الثورات العربية التي أُطلق عليها اسمُ ( الربيع العربي). بدءاً من ثورة تونس وانتقالاً منها إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. ذلك أن القوة الأساسية التي حرَّكت الشارع العربي في كل هذه الثورات أو الانتفاضات، هي المتمثِّلة في التيارات الإسلامية التي أعلنت انتصارها في تونس وليبيا ومن المتوقَّع أن تعلن انتصارها قريباً في كل من مصر وبقية المناطق المُنتفِضة. ولقد كان الإسلام وسوف يظل المحرِّك الأقوى لمشاعر الشعوب التي تعتنقُه والملجأَ الأخير الذي تحتمي به كلما عصَفَت بها العواصفُ العاتية وزلزلَتها الزلازلُ المُروِّعة. لكن، رغم أن وزن التيارات الإسلامية في كل ما جرى من تحركات الربيع العربي، كان هو الأقوى، ومحركها هو الفاعل الأساسي والقُطب الكبير الذي تدور حوله بقيةُ التيارات، فإن ذلك لا ينفي وجود قواتٍ أخرى قومية وليبرالية ويسارية، اجتمعت كلُّها على كلمة واحدة وهي الدعوةُ إلى تحرُّر الإنسان العربي من الظلم والفساد والقهر والاستعباد، والتخلص من كل مظاهر التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية للغرب.
في كل هذه التحولات التي عرفتها الساحةُ العربيةُ والإسلاميةُ، لم يكن المغرب إلا حلقة من حلقات هذا العالَم المترابط تاريخيا وروحياً وجغرافياً وحضاريا، رغم كل المحاولات التي بذلتها جهاتٌ بعينها لعزل المغرب عن هذا المحيط الذي ينتمي إليه انتماءً طبيعياً وتلقائياً. وتصويره للناس وكأنه شاذُ ومتفرِّدٌ في كل شيء، ولاسيما في هويته وثقافته ولغته، وأنه من أجل ذلك لابد أن يُغرِّد خارج السِّرب. لكن الواقع يدل على أنه مجرد حلقة في سلسلة من الحلقات المكوِّنة لذلك الكيان الكبير المسمى العالَم العربي الذي هو بدوره مجرد دائرة صغرى تحيطُ بها دائرةٌ كيانٍ أكبر وهي دائرةُ العالَم الإسلامي. ومن المعلوم أنه بعد مرحلة من تغلُّب الإيديولوجيات اليسارية والعَلمانية المغربية، في فترة ما قبل التسعينيات، على مساحة كبيرة من فكر النخبة المثقَّفة والمُسَيَّسة، جاءت مرحلة المَدِّ الإسلامي الذي انتشرت حركتُه في الشرق والغرب على حد سواء. فكان طبيعياً أن تنعكسُ آثارُ هذا المَدِّ المتدفِّق على الوضع في المغرب، وأن يكون له ذلك الدورُ الذي قام به وهو إحداث التحول التدريجي والانتقال من الاصطفاف وراء التيارات اليسارية والعلمانية، إلى الانخراط في تيار الصحوة الإسلامية التي أدت في نهاية الأمر إلى إفراز عدد من التنظيمات، بعضُها دخل إلى الحياة السياسية من أبوابها الواسعة أو سُمِحَ له بذلك تدريجياً، وبعضُها ظلَّ معدوداً ضمن التنظيمات المحظورة التي ما يزال يُنظَرُ إليها نظرة تخوُّف وارتياب، كحركة العدل والإحسان، وفئة من التيار السلفي.
في هذا السياق العام، إذن ، من المدِّ الإسلامي العربي والمغربي الخارجي والداخلي، بأغلب تياراته، الذي يعبِّر في حقيقته عن مرحلة استرجاع الوعي بمقوّمات الهوية العربية الإسلامية الحقيقية المتمثِّلة في الإسلام ديناً وقِيَماً والعربية ثقافةً ومقوِّماً حضارياً مشترَكاً، ينبغي قراءةُ جانبٍ من اللوحة التي تُصوّر واقِعَ ما يجري في المغرب الأقصى وبقية أجزاء المنطقة المغاربية أيضاً. فالمغربُ الذي أُريدَ له منذ المرحلة الاستعمارية البغيضة، أن يوضَع خارج حاضنته الأساسية، وهي الحاضِنةُ العربيةُ الإسلامية، وعَزله أو فصله عنها عن طريق الغزو اللغوي والثقافي تارة، والضغوط السياسية والاقتصادية تارة أخرى، والمد العَلماني مرة ثالثة، ها هو اليوم وقد واتَته الفرصةُ السانِحة يوجِّه من خلال صناديق الاقتراح رسالةً واضحةً للطبقة السياسية والنخبة المثقَّفة والحاكمة في المغرب، بأن لا بديل للمغرب عن هذا الحِضن العربي الإسلامي، ولا يمكن للشعب الذي عاشَ في كَنَف الإسلام ديناً وثقافةً وحضارةً ولغةً طيلة أربعة عشر قرناً، أن يتنكَّر لواقعه التاريخي، ويتخذ له هويةٌ أخرى غير الهوية الإسلامية العربية التي تصطبغ بصبغة محلية خاصة وهي الصبغة الأمازيغية. فمن أراد أن يفهم هذه الرسالة الفهمَ الصحيح، فله أن يأخذ من ذلك العِبرةَ للمستقبل، وأما مَن لم يفهم ذلك، فالزمنُ كفيل بأن يُفهمِه ويُعلِّمه.
هذا في اعتقادي هو الدرس الأول المُستفاد مما جرى. أما الدرسُ الثاني الذي يمكن استخلاصُه من وضع الناخِب المغرب لحزب العدالة والتنمية في قمة الواجهة، فهو في الحقيقة درسٌ معروفٌ ومُستفادٌ سَلفاً. وهو أن المغاربة بعد أكثر من نصف قرن من التجربة السياسية، لم تُثمر سوى سلسلة من التراكُمات السلبية والتجارب الفاشلة التي لم تستطع أن تحقِّق للشعب كرامتَه وحريتَه وتحسِّن وضعيتَه المعيشية، وتُخرجه من دائرة الفساد والظلم والتفاوت الطبقي، لأسباب يطول شرحُها، أصبحوا اليوم مضطرين للبحث عن طبقة سياسية جديدة لم تُوضع في محكِّ التجربة بعدُ، ولم تتلطَّخ أياديها بما لُطِّخَت به أيادي الذين سبَق للشعب أن راهَنَ عليهم من قبل، فخيَّبوا آمالَه وبَدَّدُوا طُموحَه وأحلامَه. إن فقدان الثقة في أصحاب التجارب السابقة والوجوه المألوفة والأوراق المحروقة التي طالما أغرت المواطنين بشعاراتها الرنَّانة أو بأموالها التي لا تجود بها إلا في مناسبات انتخابية، هو الذي أدى إلى ما أدى إليه الوضعُ يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر.
وإذا كنا في تحليلنا، نقرأ النتيجة الانتخابية هذه القراءةَ ذات الدَّرسين، فنحن نأمل أن يكون الحزبُ الأولُ الفائزُ بثقة الشعب المغربي، فاهماً لمضمون الرسالة التي وجهها إليه هذا الشعبُ، ومستوعِباً تمامَ الاستيعاب لفحواها، وأن لا يخطئ في قراءاتها . ونحن ننتظر جميعاً أن يكون المغاربةُ قد وُفِّقوا في وضع مِقود الحُكم في يد مَن يستحقُّه من الطبقة السياسية الجديدة، وأن يكونوا قد وضعوا الأشخاصَ المُناسِبين في المكان المناسِب خلال هذه الظرفية من تاريخ البلاد. وفي الوقت ذاته، نتمنى أيضاً أن يكون الذين اختيروا لتحمّل هذه الأمانة الكبيرة في مستوى ثقة الشعب وثِقل المسؤولية، وأن لا ينحرفوا بها عن مسارها ووجهتها الحقيقية. وبقدر ما يحلو لهذا الحزب الأول المفروض فيه أن يقود قاطرة الحكومة، أن ينتشي بالنصر ما شاء له الانتشاءُ، ينبغي أن لا يغيب عن وعي قادته أن الذين سيُحصون أنفاسَه ويعدُّون أخطاءه وعثراته ومَزالِقَه كثيرون جداً. إنه أمام امتحان عسير. كان اللهُ في عونه. وكل فشَل أو عجز في هذه المهمة التي سوف تُعهَد إليه، سيكون تأثيرُه السلبي قوياً، ليس فقط على تيار الحركات الإسلامية في المغرب كما في العالم العربي والإسلامي، وإنما على ما تعلِّقه شعوبُنا على هذه التيارات الجديدة من آمال عريضة لاستعادة الوعي الثقافي والحضاري ورجوع الروح إلى أجسام هذه الشعوب التي فقدت هويَّتَها في المرحلة السابقة فضاع منها بسبب ذلك كلُّ شيء: حريتُها وكرامتُها وشرَفُها وقوتُها وعزَّتُها وتماسُكُها ووحدتُها. ولذلك أقول: إن من واجب هذه التجربة أن تنجح، ومُحرَّمٌ عليها أن تفشل. ولاسيما أن فشلها لا قدر الله سيعود بالكارثة على تجربة ديموقراطية ما تزال طريةً وفَتية، لأنه سيحكُم على المغاربة مرةً أخرى بالركون إلى اليأس القاتِل من كل إصلاح وفُقدان الأمل من كل طبقة أو نخبة سياسية مهما كانت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.