البطولة: الوداد الرياضي يعود لسكة الانتصارات من بوابة نهضة الزمامرة    المغرب: الإعلامي والأديب سعيد الجديدي في ذمة الله    احتجاجات جيل الشباب بالمغرب: ما بين الحاجة إلى الإصلاح وتحدي ضبط الشارع    المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان بالعرائش: الإفراج عن الموقوفين وتغليب مصلحة الوطن أولوية        احتجاجات شباب جيل "Z" تتسع في البيضاء والسلطات تتصدى بقوة للمحتجين في مدن أكادير وطنجة وتطوان            شفشاون.. الوجهة المفضلة للسياح الصينيين في المغرب    وديتان بين الإسبان و"أسود الفوتسال"    وزارة الخارجية الأمريكية تبرز مؤهلات المغرب ك"قطب استراتيجي" للأعمال والصناعة    غاضبون ينتقدون المقاربة الأمنية و"الاستغلالات السياسية" في الدار البيضاء    الإعلام البرازيلي يشيد بالكرة المغربية ويتوقع نجاحا مميزا لمونديال 2030    تتويج فائزين في مسابقة حفظ القرآن    بنكيران: لسنا ضد احتجاجات الشباب.. والمكر والتعطيل السياسي وراء اشتعال الشوارع من جديد    مؤتمر "عالم الصيادلة" يتنقد تجاهل الحكومة وإقصاء الصيدلي من المشاركة في بلورة السياسة الصحية    "البيجيدي" يحمل الحكومة مسؤولية احتجاجات شباب "z" ويدعو للتعامل معها بأفق استيعابي ومقاربة حكيمة        إسبانيا والعالم العربي يلتقيان على إيقاع الجسد في قلب الدار البيضاء    فيلم «مذكرات» للمخرج الشريف الطريبق ينتزع جائزة الجمهور لمهرجان «أفلام الجنوب» ببروكسيل    ترامب يلمح إلى "شيء لافت" في محادثات الشرق الأوسط قبل لقاء نتنياهو    تقرير: طنجة المتوسط يجعل إفريقيا فاعلا رئيسيا في التجارة البحرية العالمية    ريال مدريد يتلقى صفعة مزدوجة    طرح تذاكر مباراة المغرب والبحرين الودية إلكترونيا ابتداء من الإثنين    قراءة في مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي (2)    حرف "زيد " من الحياة عند الإغريق إلى هوية جيل يتبلور في المغرب    طنجة تحتضن الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي    دراسة: الموسيقيون يتحملون الألم بشكل أفضل من غيرهم    انطلاق القافلة التواصلية التحسيسية للشركة الجهوية متعددة الخدمات بالشرق وأكاديمية جهة الشرق    مونديال الشباب: المنتخب المغربي يواجه إسبانيا في أولى جولات بحثا عن الانتصار    الرباط تختتم الدورة 27 من مهرجان الجاز بمزيج موسيقي فريد    السينما تلتقي بالموسيقى في برنامج فني إبداعي في مهرجان الدوحة السينمائي        عابد والحداد وبلمو في ليلة شعرية استثنائية بين دار الشعر والمعهد الحر بتطوان    حصري.. الطاوسي على أعتاب مغادرة الكوكب المراكشي بعد البداية المخيبة    المغرب ومنظمة الطيران المدني الدولي يوقعان اتفاقا لتطوير تعاونهما    طقس الأحد.. رياح قوية وتطاير غبار بعدد من مناطق المملكة    الموت يغيّب الإعلامي سعيد الجديدي    ما هي العقوبات التي أعيد فرضها على إيران؟    رئيس وزراء النيجر في الأمم المتحدة: اليورانيوم صنع مجد فرنسا وجلب البؤس لشعبنا    ألمانيا.. عشرات الآلاف في برلين يطالبون بوقف الحرب على غزة    دراسة: المعتمدون على أدوات الذكاء الاصطناعي أكثر استعدادا للكذب والخداع    "حماس" تنفي تلقي مقترحات جديدة    المغرب يعزز ترسانته العسكرية ب597 مدرعة أمريكية من طراز M1117..    تحليل إخباري: قمع احتجاجات جيل "زِد" قد يحول الغضب الرقمي إلى كرة ثلج في الشارع        تحليل إخباري: المغرب يواجه هشاشة في سوق العمل رغم فرص التحول المستقبلي    تصنيف "ستاندرد آند بورز" الائتماني يضع المغرب بنادي الاستثمار العالمي    أخنوش يتباحث بنيويورك مع الأمينة العامة لمنظمة التعاون الرقمي        مكافحة تلوث الهواء في باريس تمكن من توفير 61 مليار يورو        الاتحاد الأوروبي يجيز دواء "كيسونلا" لداء الزهايمر        بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    الرسالة الملكية في المولد النبوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَظَاهِرُ التَّكامُلِ المَقَاصِدِيِّ بيْنَ تِلاوةِ القُرآنِ وصِيامِ رَمَضَانَ
نشر في هسبريس يوم 07 - 05 - 2019

بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم والحمدُ لله رب العالمين والصّلاة والسلامُ على رسول الله.
إنّ من نعمِ اللهِ تعالى على عِبادِه، التي اِمْتَنَّ بها عليْهم نِعمةُ الخَلْقِ والإيجادِ، بعد أن كانوا في عدمٍ لا ذِكرَ لهم، قال تعالى: (هَلْ اَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُوراً) [الإنسان/01] لتتوالى بعد ذلك عليهم ما لا يُحْصى من الآلاءِ، وما لا يُعَدُّ من المِنَنِ، التي لا يُسَدِّدُها حَمْدٌ، ولا يُؤدِّيها شُكٌر، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل/18]، وحتّى لا يكونَ الإنسانُ تائهاً في الكونِ، حائراً في الوجودِ، جاهلا بالغاية، أنزَل اللهُ تعالى القُرآن الكريم، ليكون للعالمين دَليلاً كافياً إلي ربِّهم ومُرشدا وافيا في حياتِهم، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة/01] قال أهلُ التّفسير: "والهُدى -على التّحقيق- هو الدّلالةُ التي من شأنِها الإيصالُ إلى البُغْيَةِ"[1] ولأن القُرآنَ كلامُ الله تعالى، وهو خيْرُ كلامٍ، اقْتَضَت الحِكمةُ الإلاهيةُ والمَشيئَةُ الرّبَّانيةُ نُزوله في خَير الأيّام، أيّامِ شهرِ رمضانَ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً للنّاسِ) [البقرة/184] فدَعت الشّريعة السّمحةُ إلى تَعظِيم القُرآن الكَريمِ بالتّلاوة والتّدبُّر وإلى تعظيمِ شَهرِ رمضَانَ بالصِّيام والقيَّام والتّعبُّد، وقدْ دلّتْ نُصوصُ الوحيِ -سواءٌ كانت قرآناً أوسنةً- على التّماثل الكبِير والتّكامل البَديع بيْن تِلاوة القُرآن الكريم وصِيام شهرِ رمضانَ الفضِيل، من حيثُ فَضْلِهما و أثرِهما على قلبِ المُسْلم وسلوكِه وتشفِيعِهما في العبدِ يومَ القيامَةِ وغيرِ ذلك من الفضائِل التي لا حَصْرَ لها ولا حدَّ، وقد ورَدَ ذِكرُهما شَفْعاً في غيرِما آيةٍ كقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وسنَعملُ في هذه المقالةِ - بحول الله- على تِبيانِ بعضِ مظاهرِ التّكامُل بينَهما من حيث مقاصِدِهما الدّنيويّة الأُخْرويّة.
المظهر الأول: نُزولُ القُرآنِ فِي شَهرِ رمَضَانَ.
أجْمَعَ أهْل التّفْسِيرِ والسِّيرةِ على أن نزولَ القرآن الكريم على قلبِ الرسول الأمين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ابتدأ في أيّام شهر رمضان، ثم تتابع نزوله بعد ذلك على أمَدِ عقدين ونيّف. مصداق ذلك في التّنزيل الحكيم قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قال الإمام ابن عاشور رحمه الله معلِّقا على الآية: "والمرادُ بإنزال القرآن اِبْتِداءُ إنزالهِ على النّبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه (أي في شهر رمضان) ابتداءُ النُّزول من عامِ واحدٍ وأربعين من الفيلِ، فعبّر عن إنزال أوَّلِه باسم جَمِيعِه؛ لأن ذلك القدْرَ المنزّلَ مقَدَّرٌ إلحاقُ تَكْمِلَتِهِ بهِ كما جاء في كثيرٍ من الآياتِ" [2].
إن ابْتداء نُزول القرآن على رسولِ الله في شهر رمضان حَدٌّ مُجمَع عليه بين أهل العلم، إلا أنّ الاختلافَ بينهم في أيِّ ليلةٍ من ليالي شهرِ رمضان اِبْتَدَأ نزول الوحي؟ "وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثارٌ كثيرةٌ، بعضُها يُعيِّن الليلة السابعة والعشرين من رمضان، وبعضها يعيِّن الليلة الواحدة والعشرين، وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة، وبعضها يطلقها في رمضان كلِّه، فهي ليلةٌ من ليالي رمضان على كلِّ حالٍ في أرجحِ الآثار" [3].
وقد نقَل ابن هشام في سيرته عن بعض رواة السيرة أن أول ما نزل من القرآن الكريم نزل في شهر رمضان، حيث جاء في سيرته: (وذلك الشّهرُ شهر رمضان، خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى حِرَاءَ كما كان يَخْرج لجواره، ومعه أهلُه، حتّى إذا كانت الليلة التي أكرَمَه الله فيها برسالته ... قال رسول الله: "فجاءني جبريلُ وأنا نائمٌ، بِنَمَطٍ من دِيبَاجٍ فيه كتابٌ، فقال اِقرأ؛ قال: قلت: ما أقرأ؟ ... فقال: "اقرأ باسم ربِّك الذي خلقَ خلقَ الإنسانَ من علقٍ اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علَّم بالقلمِ علَّم الإنسانَ ما لمْ يَعْلم" [4]. فيُقالُ إذن إنّ نزول القُرآن في شهر رمضان منْ أعظمِ المِنَنِ التي أسْداها الله تعالى لعباده، فكانَ من حِكمته أن يَدْعوهم إلى أعْظم عِبادةٍ في نفس الشهر، ليُقابِلوا نِعمتَه العظيمةَ بشُكرهِم له. قال الإمامُ فخر الدّين الرازي رحمه الله مبيِّنا هذا المَعنى: " اِعلمْ أنّه تعالى لمّا خصّ هذا الشّهرَ بهذه العِبادة بيّن العلةَ لهذا التّخصيصِ ، وذلك هُو أنّ الله سُبحانه خَصّه بأعظمِ آيات الرُّبوبية ، وهو أنّه أنزل فيه القرآنَ ، فلا يَبْعدُ أيضا تخصِيصَه بنوعٍ عظيمٍ من آيات العُبودية وهو الصّوم، ممّا يُحقِّق ذلك أنّ الأنوارَ الصّمديّة مُتجلِّيةٌ أبداً يُمتنعُ عليها الإخفاءُ والاحْتِجابُ" [5]
فتلك نعمٌ عظيمةٌ من الله تعالى ومننٌ كريمةٌ من الرّحمن جل شأنُه اِجتَمعت في شهر رمضان، أولُها وأعظمُها نزول القرآن الكريم فيه ليُتْلى ويُهتَدى بِه، وثانيها أمرُ الله عباده بصيامه وقيامه تعظيماً له وإجلالاً.
المَظْهرُ الثّاني: الحَثُّ على مُدارسَةِ القُرآنِ في شَهْرِ رمضانَ.
لقدْ دعت الشّريعةُ الغرّاء إلى قِراءة القرآن ومُدارسَته في مُختلف الأَوقاتِ وفي كل الأحيَان، وأثنَى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين يقرؤونَ القُرآن ويتَدارسُونَه فيما بينهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ) [مسلم/رقم:2699].
إلا أنّ السُّنة العمليةَ لرسول الله عليه الصلاة والسلام أكّدت على كَون شهرِ رمضان مَوْسماً لتلاوةِ كتابِ الله وتَدَبُّرِه وقراءتِه وتدارسُه، حيث ينْبغي أن يُتلى فيهِ القرآنُ الكريمُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ آخر، ويُتَدَارسَ فيه كلامُ الله أكثر من أيّ زمنٍ سواه، هكذا كان عملُ رسول الله، مُذ أوّلِ رمضان بعث فيه وعُلِّمَ فيه مطْلعَ سورة العلقِ، إذْ يأتيه جبريل ليُدارسَه القرآن الكريمَ في كلّ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ. فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " [البخاري/رقم:06]. نقل الإمام ابنُ حجرٍ في شرحِه لهذا الحديثِ عن الإمامِ النّوويّ قولَه: "في الحديث فوائد: منها الحثُّ على الجُود في كلّ وقتٍ، ومنْها: الزِّيادة في رمضان وعند الاجتماعِ بأهلِ الصّلاح، وفي زيارة الصُّلحاء وأهل الفضلِ، وتَكرارِ ذلك إذا كان المَزُورُ لا يكرهُه، واستحباب الإكثار في القِراءة في رمضان، وكونُها أفضلَ من سائرِ الأذكارِ، إذ لو كانَ الذِّكر أفضلَ أو مُساوِيا لفعلاه " [6].
وبهذِه السُّنّة اقتدى السّلف الصّالح من عُلماء الأمّة وصُلحائها، فَقد رُوِي عن إمام دار الهجرة مَالك بنِ أنس رحمه الله، أنّه كان إذا دخل شهرُ رمضان أقبل على تلاوةِ القرآنِ أكثرَ من أيِّ عمل آخر، ورُوِيَ عن الإمام الشّافعي رحمه الله أنّه كان يَختِم القرآن الكريم في رمضان زُهاء ستين خَتمة، ومن أهل العلمِ من يختِمه في قيام ليلةٍ واحدة من ليالي شهر رمضان، والنّماذج في هذا الباب كثيرةٌ وتُذكر في كُتب المنَاقب.
المظْهرُ الثّالث: القُرآنُ والصِّيامُ، وأثَرهما في تَزْكيّة النّفسِ وتَحسِينِ سُلوكِ المُسلمِ.
لقد فرضَ الله تعالى صيامَ شهرِ رمضانَ على المُسلمين، وبيَّن لهم الحِكْمةَ من ذلك، وهي مُتَمثِّلةٌ في أنّ الصيام يُؤدي إلى تَقوى الله تعالى وخَشيتِهِ ودَوام مُراقبتِه في السِّر والعلانية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة/182]، قال سيد قُطب رحمه الله: " فالتّقوى هي التي تَسْتَيْقِظُ في القلوب وهي تُؤدّي هذه الفريضةِ، طاعةً لله، وإيثاراً لرِضاه. والتّقوى هي التي تَحْرُسُ هذه القُلوبَ من إفسادِ الصّوم بالمعصية، ولو تلك التي تَهْجِسُ في البال، والمخاطَبُون بهذا القُرآن يعْلَمون مَقام التّقوى عند الله، ووَزنَها في ميزانِه. فهي غايةٌ تَتَطلّع إليها أرْواحُهم. وهذا الصّوم أداةٌ من أدواتِها، وطريقٌ موصلٌ إليها. ومِن ثمّ يرفعُها السِّياق أمام عُيونِهم هدفاً وَضِيئاً يتّجهون إليه عن طريق الصّيام"[7]
وإنّ القرآنَ الكريم الذي أمر الله تعالى ورسولُه بتلاوته ومُدارستِه في ليالي رمضانَ وأيّامه، يُؤدي هُو الآخر إلى التّقوى، كما يؤدي إليها الصّيام تماماً، قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فيحصُل التّكامل المَقاصِدي بين صِيام شهر رمضان وتلاوة القُرآن فيه. وهذا يعني أنّ شهرَ رمضان توفّرت فيه كلُّ شروطِ الفلاح وسائرُ فرص الفوزِ، لِمن رام ذلك بقلبه ونَشَده بِعملهِ، كيف لا وقد فُتِّحَت فيه أبوابُ الجنّة وغُلِّقت فيه أبواب جهنم وصُفِّدت فيه الشياطين.
وإنّ من مقاصد الصّيام وتلاوة القرآن أيضا -فضلا عن التقوى- تحسينُ سلوكِ الأنسان المسلم بِحضِّه على التحلِّي بالخُلق الجميل والزّيادة فيه، وحثِّه على التّخلِّي عن كلّ سوءٍ من الأقوالِ والفِعالِ، وهذا يُمكن استنباطه من حديث ابن عباس رضي الله عنه – الذي سبق ذِكره- حيث قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ). إنّ صِفة الجُود من الصِّفات الجِبِلِّيَّة اللازِمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الدّوامِ حيث كان يُعطي عطاءَ من لا يَخْشى الفاقَةَ، لكن جُودُه بالخير يزداد في شهر رمضان، شهرِ الصّيام والقرآن.
إنّ الصّيام وذكرَ الله تعالى بتلاوة القرآن من الأعمال الجَليلة التي تُورث الإنسانَ خشية الله تعالى وتقواه وتَهديه إلى جَميل الخُلق وأزكاه، وإّن من تِلك الأخلاق العظيمة التي يؤديان إليها خُلُق العِفّة المانع من الوقوع في الزِّنا وما قرّب إليه من قول وعمل، فقد قال تعالى: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) فقد جعل الله تعالى في الآية الكريمة خُلق حِفظِ الفروج الذي هو العِفة وسطا بيْن الصّيام وذكرِ الله، عِلما أنّ أفضل الذِّكر هو تِلاوة القُرآن، ذلك أن خلقَ العفّة ثمرةُ الإثنين معاً (أي الصيام وتلاوة القرآن) وقد دلّت على هذا المَعنى نصوصٌ شرعية أخرى، منها قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
كما يَدعو الصّيام أيضا إلى نَبذِ السّوء والفُحش من القَولِ والفِعل، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)[البخاري/رقم:1903] .
المظْهَر الرّابع: القُرآنُ والصّيامُ شَفِيعان للعبْدِ يومَ القيامةِ.
لقدْ ميّز الله تعالى تِلاوةَ القُرآنِ وصيام شهر رمضان عن غيرهِما من الأعمال الصّالحةِ، فوعد القائمَ بهما حقّ القيام بثوابٍ عظيمٍ وأجرٍ كبيرٍ؛ من ذلك أنْ جعلهما شفيعين تُقبل شَفاعتُهما لديهِ سبحانه يوم القيامة، ففي الحديث عن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصِّيام والقُرآن يَشفعان للعبدِ، يقول الصِّيام: ربِّ إنّي منعتُه الطعامَ والشّهواتِ بالنّهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآنُ: منَعتُه النّوم بالليل، فَيُشَفّعان) [المستدرك/رقم:2036].
وقد وعدَ اللهُ تعالى صاحِب الصِّيام المَبرور، الذي لم يَرفُث في يومِ صيامه ولم يصْخَب فيه بالثّواب الأعظم والجزاء الأجزلِ، إذ يتولّى اللهُ تعالى وحده مكافأته بكيفيةٍ تختلف عن الأعمال الصّالحة الأخرى. وقد ثبت في الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن ربه إذ يقول: (كل عملِ ابنِ آدم لهُ إلّا الصّومَ فإنّه لي وأنا أجْزِي بِه) [البخاري/رقم:1904]، وهذا الفضْل الكبيرُ الذي ينالُه الصّائمُ من لدُن ربّه وهو يُدْعى إلى بابِ الرّيّان الذي لا يَدخُل منْه إلا الصّائمون، ينالُ معه فضْلا آخر إن كان ممّن يَقرأ القُرآن الكريم ويُرتِّله، حيث يُقال له اقرأ وارتَق ورتِّل كما كنْت تُرتِّل في الدّنيا فإنّ منْزلتَك عنْد آخر آيةٍ تقرأُها، فما زال يرتقي في الجنّة، ومنزلتُه تَعلو حتى يكونَ مع المَلائكة تماماً، مع السَّفَرة الكِرام البَررة. فما أجلّه من مَقام وما أعظَمه من جزاءٍ، ذاك الذي أعده الله تعالى لصائم شهر رمضان حق الصّيام وقارئِ القُرآن المُتَدَبِّر له في شهر القرآن، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
الهوامش:
[1] التحرير والتنوير، ج:1/ص:225.
[2] التحرير والتنوير، ج:2/ص:172.
[3] في ظلال القرآن، ج:6/ص:3945.
[4] سيرة ابن هشام، ص: 111 (بتصرف).
[5] مفاتيح الغيب، ج5/ص:90-91.
[6] فتح الباري، ج:1/ص:66.
[7] في ظلال القرآن، ج:1/ص:168.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.