إن الزعامة القبلية بالمغرب قامت بالأساس على مبدأ المشاعية، إذ إن الزعامة لا تتوارث وإنما تستحق؛ كما أن الزعيم القبلي لا يحتكر السلطة، بل يمارسها في إطار تنظيم جماعي أو ما يسمى "الجماعة". ومن ثمة فقد اصطدم هذا النظام بلا شك مع نظام "التوارث" الذي أصبح يحدد التعاقب على الحكم عندما وصل المرابطون أو الموحدون أو المرينيون إلى السلطة. وقد تجلى هذا الاصطدام من خلال مظهرين اثنين: الأحقية في الإمارة والتنافس على العرش. الأحقية في العرش من المعروف أن مختلف العصبيات الحاكمة واجهت معضلة سياسية كبرى تتمثل في مسألة تولي العرش ومسألة الخلافة عليه؛ فالأدبيات الإيديولوجية والمبادئ الدينية التي اعتمدت عليها هذه العصبيات لم تقر أي نظام ثابت بهذا الشأن، لذا كانت الأحقية في تولي العرش تحسم غالبا على الساحة العسكرية؛ فيوسف بن تاشفين فرض نفسه بقوة السلاح وبمهارته الحربية وبعدد انتصاراته العسكرية؛ كما أن عبد المؤمن بن علي فرض نفسه ليس فقط من خلال تزكية ابن تومرت له وتقربه منه ولتقديم بعض الأشياخ الموحدين له، ولكن أيضا لكفاءته الحربية وانتصاراته العسكرية. من هنا نرى أن تولي العرش يشبه إلى حد بعيد الزعامة القبلية؛ فالمهارة العسكرية هي التي تحدد الأحقية في الزعامة. لكن الأمر يطرح على الخصوص بالنسبة لولاية العهد، فالمرابطون لم يكن لهم نظام ثابت بهذا الشأن، وكذا الموحدون والمرينيون.. فولاية العهد، التي تقوم بالأساس على فكرة توارث العرش، فرضت من طرف المؤسسين الأوائل للأنظمة السياسية التي قامت بالمغرب، إذ أدركوا أن استمرارية الدولة تتطلب حصر الملك في أسرة موحدة يتعاقب أفرادها على الحكم من دون سائر أعضاء القبائل الأخرى. وهكذا حرص يوسف بن تاشفين على أن يختار ولي عهده في حياته. وأشار الناصري إلى أن الأمير يوسف بن تاشفين أخذ البيعة لابنه علي وهو مازال في عنفوانه السياسي وبتزكية من مختلف قبائل العصبية الحاكمة. فقد "بايع الناس ابنه علي بن يوسف...بمراكش بعهد من أبيه إليه... فبايعه جميع من حضر من لمتونة وسائر قبائل صنهاجة، وبايعه الفقهاء وأشياخ القبائل، فتمت له البيعة بمراكش". وقد سار أمير المسلمين علي بن يوسف على نهج سياسة والده في اختيار ولي عهده، إذ بدأ يفكر في مستقبل الدولة من بعده، وفي ضرورة وجود شخصية قوية على رأس الدولة للحفاظ عليها من طمع الطامعين، فوقع اختياره على ابنه الأمير سير لولاية عهده. ونفس الهاجس حرك أيضا عبد المؤمن بن علي؛ فقد رأى في ولاية العهد نظاما يدعم استمرارية الدولة ويحفظها من الاختلال؛ لذا فقد كان إقرار هذا النظام من ضمن الإصلاحات التي أدخلها عبد المؤمن لتدعيم الحركة الموحدية التي انتقلت من مرحلة "الثورة" إلى مرحلة "بناء الدولة". لذا كانت إصلاحات عبد المؤمن تهدف إلى بناء الدولة على النمط الإسلامي العالمي والأندلسي، إذ عمد إلى تكوين موظفين سامين لتسير شؤون الدولة وتغيير أسس الشورى التي قامت عليها الدعوة الموحدية بعد إعلان تولية ابنه الحكم. إلا أن الإعلان عن ولاية العهد لم يكن بالأمر السهل في نظام قبلي وديني متشدد لم يتعود على الزعامة الوراثية، وهكذا "قرب عبد المؤمن العرب...حتى يقاوم بهم سلطة الأشياخ التي كانت تعارض استحواذه على السلطة وترك الولاية لابنه". فقد كان هناك من الأشياخ الموحدين من كان يطمع لتسلم السلطة؛ لذا فقد كانت بيعة ولي العهد مصاحبة بعدة إجراءات من أهمها: أولا: أن البيعة شاركت فيها الأطراف المصمودية كالعرب الأندلسيين. ثانيا: أنها تمت بعيدا عن العاصمة، أي بسلا. ثالثا: أن عبد المؤمن لجأ إلى العرب تحسبا لكل الطوارئ. ورغم هذه الإجراءات، والحذر الشديد الذي سلكه عبد المؤمن، فإنه بمجرد الإعلان الرسمي عن الولاية هرب بعض الأشياخ (أخوا المهدي وبنو أمغار) من فاس إلى مراكش لقيادة التمرد ضد الخليفة. ولم يكن الملوك المغاربة يكتفون بالسند الشرعي (البيعة)، بل كانوا يضيفون إلى ذلك تدريب ولاة العهد على تدبير الشؤون العامة. ففي العهد المرابطي "كانت لولي العهد بعض المهام منها قيادة الجيوش في وقت الحرب والنظر في أمور وأحوال الولايات والجلوس للفصل في المنازعات بين الناس، وكان اسمه ينقش على السكة إلى جانب اسم أمير المسلمين". ورغم ذلك فالحسم في ولاية العهد تبقى من اختصاص أمير المسلمين وحده ومن ضمن "مجاله الخاص"، فهو الذي يمكنه أن يختار من بين أبنائه من يراه جديرا بهذه الولاية، وهو أيضا الذي يمكنه أن يقرر عزله. ومما يؤكد ذلك اختيار عبد المؤمن لأكبر أبنائه لولاية عهده؛ لكن بعدما تبين عدم صلاحيته للمنصب قرر عزله.. فقد "خاف عبد المؤمن أن يفاجئه الحمام فأمر بعزل ولده محمد عن ولاية العهد وإسقاط اسمه من الخطبة، لما ظهر له من العجز عن القيام بأمر الخلافة". وعموما، فإن اتباع هذا النظام بقي رهينا بالوضعية السياسية ومدى قوة الأمير وكفاءته؛ إذ بمجرد ما تعتري النظام بعض مظاهر الضعف أو يتقاعس الأمير عن القيام بالأعباء المنوطة به، تدب روح التآمر في بلاط الأمير. فتحاول كل جماعة أن تفرض من تراه صالحا لتسلم هذا المنصب. وقد أشار المراكشي إلى هذه الظاهرة بصدد حديثه عن المرابطين قائلا: "اختلت حال أمير المسمين بعد الخمسمائة اختلالا شديدا، فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد، وانتهوا بذلك إلى التصريح، فصار كل منهم يصرح بأنه خير من علي أمير المسلمين وأحق بالأمر منه...". التنافس على العرش إن محاولة إقرار نظام ولاية العهد لم يحل مشكلة الخلافة على العرش، وذلك لعدة أسباب من أهمها: أولا: عدم وجود نظام ثابت لولاية العهد. ثانيا: ارتباط هذا النظام بالإرادة الشخصية للخليفة. ثالثا: كثرة أولاد الخليفة. فعلى سبيل المثال كان للخليفة عبد المؤمن بن علي الكومي 16 ذكرا: محمد أكبر ولده، علي، عمر، يوسف، عثمان، سليمان، يحيى، إسماعيل، الحسن، الحسين، عبد الله، عبد الرحمن، عيسى، موسى، ابراهيم، يعقوب. رابعا: تعدد الجهات المساهمة في البيعة واختلاف مصالحها. ونتيجة لهذه الأسباب، كان التنافس على العرش شديدا، إذ لم تكن تحسم عملية الخلافة على العرش في غالب الأحيان إلا بحد السيف؛ فالبيعة لم تكن عملية قانونية وبروتوكولية، بل كانت بالأساس عملية سياسية وعسكرية غالبا ما تكون فيها الكلمة الأخيرة للمال وللسيف. بالمال والمناصب يتم استقطاب الأنصار والموالين من أهل الحل والعقد، وبالسيف يتم القضاء على الخصوم والمنافسين؛ لذا فالبيعة عادة ما تكون عملية تستغرق وقتا طويلا حتى يتم إجماع كل أفراد العائلة المالكة على من سيتولى العرش. وقد ظهر هذا بالخصوص من خلال بيعة يوسف بن عبد المؤمن بن علي الموحدي، إذ "لما بويع بعد والده توقف عن بيعته أناس من أشياخ الموحدين، وامتنع عن بيعته أخواه: السيد أبو محمد صاحب بجاية، والسيد أبو عبد الله صاحب قرطبة". وحتى في حالة تولي العرش فإن الخليفة المبايع يبقى دائما متعرضا لتمرد أفراد أسرته عليه متحينين أي فرصة للإطاحة به؛ فقد كان "للمنصور الموحدي منافسون من أعمامه وإخوته يتحينون الفرصة للثورة عليه، لذا فبعد سماع هزيمته بتونس في موقعة غمرة حتى نهض أخوه عمر الرشيد وأكبر أبناء يوسف مع سليمان عمه، واقتسما العمل في ما بينهما، فكان الأول يثير سكان الأندلس حيث كان واليا على شرقها ومستقرا بمرسية، وتكلف سليمان بجمع قوة في العدوة نظرا لأنه كان واليا على ناحية تادلا، لكنهما فشلا في ذل". كما أنه "بعدما مرض المنصور بتلمسان أخذ منافسوه يتشوفون إلى العرش، وعلى رأسهم أخوه يحيى والي الأندلس، إذ بدأ يدعو لنفسه ويجبر الأشياخ على مبايعته...لكن بعد استرداده صحته التقى بأخيه بسلا حيث سجنه بعد ما شهد أشياخ الأندلس بأن يحيى أكرههم على مبايعته، فأحضر أخاه وقال له: إني سأقتلك بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع خليفتان بأرض فاقتلوا الآخر منهما". ومن خلال هذه الشهادات التأريخية يمكن أن نستنتج أن هناك عدة عوامل كانت من وراء هذا التنافس على العرش، يمكن إجمالها في ما يلي: - كثرة الأمراء نتيجة تعدد زوجات وحريم الخليفة. - تقسيم الخليفة الملك بين أبنائه، وذلك من خلال تعيين كل واحد على ولاية من ولايات البلاد. - الطموح الشخصي للأمراء. ومما زاد أيضا من حدة التنافس بين الأمراء الدور الذي كان يلعبه زعماء قبائل العصبية الحاكمة الذين كانوا يفضلون أميرا على آخر تبعا للمصالح التي يمكن أن يحققوها من وراء تتويج أمير دون سواه، أو بسبب أن هذا التتويج سيدعم سلطتهم في مواجهة باقي الفرق القبلية الأخرى. وقد ازداد هذا التأثير، خصوصا أثناء ضعف النظام، ووجود أمراء غير أكفاء؛ فبعد هزيمة العقاب ووفاة الناصر الموحدي "رجحت كفة الأشياخ، فتغلبوا على الدولة الموحدية... فضعفت السلطة المركزية على يدهم خلال الفترة الممتدة ما بين 627 و610 تعاقب خلالها خمسة خلفاء كلهم من تدبير الأشياخ... ". وقد أكد الناصري هذه الظاهرة عندما تحدث عن الدور الخطير الذي لعبه الأشياخ الموحدون في تعيين الخلفاء وخلعهم؛ وهكذا أشار إلى أن "عبد الواحد كان أول من خلع من بني عبد المومن، وصار أشياخ الموحدين لخلفائهم كالأتراك لبني العباس... "، بل كثيرا ما لجأ هؤلاء إلى اغتيال الأمراء الذين كانوا لا يمتثلون لأمرهم كما حدث ذلك بالنسبة للخليفة العادل الموحدي. وعن هذا أشار الناصري إلى أن الأشياخ "دخلوا عليه قصره وسألوه أن يخلع نفسه فامتنع فخنقوه ورأسه في الخصة... وكتبوا بيعتهم إلى أبى العلاء المأمون... ثم بدا لهم في بيعة المأمون... فنكثوها، وبايعوا يحي بن الناصر... ".