ميزانية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها    وفد من مؤسسة دار الصانع في مهمة استكشافية إلى أستراليا لتعزيز صادرات الصناعة التقليدية المغربية على الصعيد الدولي    رغم الخسائر الثقيلة.. إيران استسلمت والتزمت بوقف إطلاق النار أولًا قبل إسرائيل    قطر تعلن استئناف حركة الملاحة الجوية    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. الأهلي المصري يغادر البطولة بتعادل مثير أمام بورتو البرتغالي    كيوسك الثلاثاء | المغرب يستعد للتألق عالميا بخطة سياحية شاملة لمونديال 2030    إسرائيل تعلن الموافقة على اقتراح ترامب بوقف إطلاق النار مع إيران    رمسيس بولعيون يكتب... البرلماني أبرشان... عاد إليكم من جديد.. تشاطاراا، برويطة، اسعادات الوزاااار    "بي واي دي" الصينية تسرّع خطواتها نحو الريادة العالمية في تصدير المركبات الكهربائية    توقعات حالة الطقس اليوم الثلاثاء بالمغرب    النسخة السادسة والثلاثون من عرض الموضة Révélations صُنع في المغرب: تكريم للتميز في الإبداع المغربي    بركة: 300 كيلومتر من الطرق السريعة قيد الإنجاز وبرمجة 900 كيلومتر إضافية    ميناء الحسيمة يستقبل أول رحلة في إطار عملية مرحبا 2025    تعادل وفرص بالجملة وأداء ولا أروع وخروج من البطولة للمارد الأحمر في أخر محطات كأس العالم للأندية    إيران تؤكد الاستعداد لوقف الهجمات    جيش إسرائيل: إيران تواصل القصف    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بالأحمر    الملك محمد السادس يؤكد للأمير تميم تضامن المغرب مع قطر    الهلال السعودي يتواصل مع النصيري    بركة: انقطاعات مياه الشرب محدودة .. وعملية التحلية غير مضرة بالصحة    بنعلي: الحكومة تشتغل على تطوير البنيات التحتية للسيادة الطاقية المغربية    إيران ترد بقوة على اغتيال عالمها النووي    بين الآلي والإنساني .. "إيسيسكو" تناقش الجامعة في زمن الذكاء الاصطناعي    الدرك يقتحم "فيلا الماحيا" في الجديدة    ترامب: إسرائيل وإيران وافقتا على "وقف تام لإطلاق النار"    أشرف حكيمي يتألق ويقود باريس سان جيرمان لثمن نهائي كأس العالم للأندية بتتويج فردي مستحق    الحسيمة تترقب زيارة ملكية خلال الأيام المقبلة    جمعية تطالب بمنع دخول السيارات والدراجات إلى الشواطئ بعد حادث الطفلة غيثة    أوروبا الغربية تستقبل موسم الصيف بموجة حرّ مبكرة وجفاف غير مسبوق    فرنسا تجدد التأكيد على أن حاضر ومستقبل الصحراء "يندرجان بشكل كامل في إطار السيادة المغربية"    الذهب يرتفع وسط الإقبال على أصول الملاذ الآمن مع ترقب رد إيران    27% من القضاة نساء.. لكن تمثيلهن في المناصب القيادية بالمحاكم لا يتجاوز 10%    حموشي: المديرية العامة للأمن الوطني تولي أهمية خاصة لدعم مساعي مجابهة الجرائم الماسة بالثروة الغابوية    دعاية هزيلة.. بعد انكشاف مقتل ضباط جزائريين في طهران.. نظام العسكر يُروج وثيقة مزورة تزعم مقتل مغاربة في إسرائيل    بوريطة يستقبل وزير الشؤون الخارجية القمري حاملا رسالة من الرئيس أزالي أسوماني إلى الملك محمد السادس    ياسين بونو يتوج بجائزة رجل المباراة أمام سالزبورج    كأس العالم للأندية.. "الفيفا" يحتفل بمشجعة مغربية باعتبارها المتفرج رقم مليون    إشكالية التراث عند محمد عابد الجابري بين الثقافي والابستيمي    بسمة بوسيل تُطلق ألبوم "الحلم": بداية جديدة بعد 12 سنة من الغياب    الشعباني: "نهائي كأس العرش ضد أولمبيك آسفي سيكون ممتعا.. وهدفنا التتويج باللقب"    مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تنظم المعرض الفوتوغرافي "أتيت من نظرة تَعْبُرُ" للفنان المصور مصطفى البصري    نقابيو "سامير" يعودون للاحتجاج على الموقف السلبي للحكومة وضياع الحقوق    "تالويكاند" في دورته الرابعة.. تظاهرة فنيّة تحتفي بتراث أكادير وذاكرتها    رأي اللّغة الصّامتة – إدوارد هارت    وسط ارتباك تنظيمي.. نانسي عجرم تتجاهل العلم الوطني في سهرة موازين    هذه تدابير مفيدة لتبريد المنزل بفعالية في الصيف    موازين 2025.. الفنانة اللبنانية نانسي عجرم تمتع جمهورها بسهرة متميزة على منصة النهضة    موازين 2025 .. الجمهور يستمتع بموسيقى السول في حفل المغني مايكل كيوانواكا    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    وفاة سائحة أجنبية تعيد جدل الكلاب الضالة والسعار إلى الواجهة    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قوة الأفكار والأشياء..
نشر في هسبريس يوم 30 - 09 - 2020


توطئة
إن الغاية من دراسة أحوال الاجتماع ومجالاته البحث عن أسباب ضعفه، والتطلع إلى بواعث إصلاحه وتقدمه..
وما نرومه من عرض مناط الثقافة، الوقوف عندما تحدثه في معارف الناس وأخلاقهم، وما ينتحلونه من مذاهب.. فكل شيء يهون إذا هانت أو اختلت موازين الإنسانية من الفكر والخلق والعقيدة والذوق.. فينعكس ذلك كله على الأحكام، فتنقلب من النقيض إلى النقيض، فيوضع الكذب موضع الصدق والخداع والمكر والدهاء موضع النزاهة والاستقامة والأخلاص للمبدأ...
وأفدح مصاب تصاب به المجتمعات من جراء تفشي ثقافة الاستبداد، أن تصاب في صميم موازينها.
ومن نتائج اختلال الموازين بلاء الزيغ الذي يزيف الحقائق ويغلب المنفعة على الفضيلة ويجعل من العصبية مصدر كل خديعة من نوازع النفوس والأهواء المريضة وكل شعور يعترف بأن الرذيلة نقيض الفضيلة التي يمتاز بها ذوو الفضائل البينة...
ولعل السبب الذي تنتهي إليه جميع الأسباب في تفسير وتعليل اختلال الموازين واضطراب أحوال الاجتماع يرجع إلى طبائع الاستبداد التي يشاهد أثرها في أحوال الأمم والأفراد..
وقد بحث " الكواكبي" في كتابه " طبائع " الاستبداد" جملة العوارض الاجتماعية التي تصاحب الاستبداد في أحوال الدين والعلم، والمجد والثروة والأخلاق والتربية والتقدم... ومهد لذلك بتعريف الاستبداد...
وذكر بأن من معاني الإستبداد وظواهره، غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة.. وتحكم النفس على العقول.. فالاستبداد إذن اعتساف وتسلط وتحكم وغياب المساواة والحس المشترك ...
والتسلط أو التحكم صفة الحكومة المستبدة التي تتصرف بدون رقيب وبلا خشية حساب ولا عقاب .. والمستبد عدو الحق والحرية...
ومن أقبح أنواع الاستبداد، استبداد الجهل على العلم، واستبداد الهوى على العقل ..
والاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني فقد استبدلت سلطة الكهانة الدينية بسلطة زمنية دنيوية مطلقة..
وعن تشكل بناء الاستبداد الديني والسياسي، تمخضت كل النظم المستبدة عبر التاريخ البشري ، فظواهر وطبائع الاستبداد تندرج ضمن تحقق معقولية التاريخ على صعيد المعرفة والعمل..
أهمية دراسة الظواهر الاجتماعية الكشف عن قوانين الاجتماع
إن الذي يهم من دراسة ظواهرالمجتمعات الكشف عن قوانين الاجتماع، والنظر إلى المعوقات المادية والذهنية التي تعوق دون حدوث تغيير عميق في البنيات والنظم وسائر أحوال الاجتماع البشري وطبائعهوتحليل مبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، فأحوال الأمم ونحلها، لاتدوم على وتيرة واحدة، ولا تستقر على منهاج واحد... بل تخضع لقانون الدوارت والأفكار المتصارعة حول أنظمة الحكم وأساليبه... لأن العمل السياسي والمعرفة يرتبطان بالثقافة.. بمعنى أن كل معرفة تدخل في مفهوم التجربة، فإذا ما نظمت طبقا لقواعد منهجية أخذت صفة العلم الذي يدرس الوقائع الاجتماعية..
يصبح مفهوم الثقافة أكثر تحديدا باعتبار الأفكار تعكس حقيقة مشكلات الاجتماع... ومن الطبيعي أن تخضع للتشريح والتحليل لمعرفة بنائها وعناصر تركيبها، ويمكن أن نفرق في الثقافة بين ما هو " مادي" الأشياء والأدوات ..) وما هو إجتماعي (العقائد والتقاليد والأفكار..) .
وقد يبدأ التغيير في المجال المادي ثم يمتد تأثيره إلى المجال الاجتماعي.. مما يعني وجود علاقة جدلية بين عالم الأشياء وعالم الأفكار.. فالثقافة إذن مرآة لحياة المجتمع وترجمة للنشاط الاجتماعي المرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية والاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة تأثيرها وقيمتها الثقافية.. وقدرتها على الإبداع..
يرى " مالك بن نبي" بأن هناك علاقة عضوية تربط " عالم الأفكار بعالم الأشياء" بدونها لن تكون لدى الفرد القدرة على استنطاق الأفكار .. فيمر عليها دون أن يتعمقها...
القيمة الثقافية للأفكار والأشياء...
إن القيمة الثقافية للأفكار والأشياء تقوم على طبيعة العلاقة بالفرد، فالصلة تجسد العلاقة المتبادلة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع..
ويذهب مالك بن نبي إلى أن كل مجتمع مهما كان مستواه من التطور، له عالمه الثقافي المعقد.. وفي نشاطه المتناغم تشابك بين ثلاثة عوالم ( الأشياء والأشخاص والأفكار...) ويظل هنالك دائما رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة ، وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره، يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات...
فالإفتقار إلى الأفكار يجعل المجتمع فاقدا للفاعلية وعاجزا عن مواجهة قضاياه، وطرح مشاكله التي تظهر في المجال السياسي أو الاقتصادي..
أما إذا سيطرت الأشياء المادية على العقل والوعي أصبح الإنسان مجرد شيء في عالم الأشياء الخامدة يمكن اختزاله في البعد المادي او الأداتي الآلي الأصم وموطن الخطورة في هذه الحالة يتجلى في تعطيل الطاقة الحيوية داخل المجتمع...
قوة الأفكار الدافعة
ولكي تعود للأفكار والأشياء القدرة على التغيير فلابد من وجود قوة دافعة تكيف الطاقة الحيوية التي تقدم الحوافز لمساندة المجتمعات البشرية إلى التحول من البداوة إلى عالم الثقافة والحضارة ..
والجدير بالملاحظة، أن التحولات الكبرى في التاريخ الإنساني مرتبطة بالأفكار الدافعة،.. التي تتناول كل شأن من شؤون الأمم، وتصحيح مقاييس كل شكل من أشكال التنظيم للحياة..
للأفكار دور وظيفي في بناء الحضارة وهي العوامل المعنوية والمادية لتطور المجتمع، والقدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة،.. وذلك نتيجة لإسقاط الأفكار على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي...
إن الأفكار الدافعة هي التي تتيح للمجتمع الإندماج في عالم الحضارة..
وكل حضارة تنطوي على عناصر تاريخية واجتماعية، ولها رموزها الخاصة وفلسفتها.. التي تعبر عن نوازعها وطاقاتها .. وهناك ارتباط وثيق بين الحضارة والثقافية الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع وتتشكل فيه كل جزئياته وغاياته التي رسمها في التاريخ..
نستشف من هذا أن الحضارة ببعدها الثقافي الجامع للقيم الروحية والعقدية الإيمانية.. نتج عنها تبلور الشروط الأخلاقية والمادية الثقافية والفكرية .. ذلك أن الفكر لا ينفصل عن بيئته الحضارية والتاريخية... بحيث يمكن رصد تقلباته وتطور حركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور ويصف هذه الحركة..
ويرى الفيلسوف " أو جيست كونت" ( 1798-1857) بأن اعتلال الفكر مؤشر ودليل على ما يصيب الأمم والحضارات من فساد واضطراب وتمزق واندحار.. وسبب اضطراب المجتمعات الإنسانية يرجع إلى فساد الأخلاق، وأن فساد الأخلاق يعود إلى فساد التفكير واضطراب طرق الفهم نتيجة التناقض في فهمالأشياء، وذلك باعتماد منهجين في فهم الظواهر الطبيعية :
المنهج الوضعي أو الطريقة الوضعية التي تبحث عن القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية...
الطريقة الدينية الميتافيزيقية .. التي تصرف النظر عن الأسباب والقوانين التي تخضع لها الظواهر..
ونتيجة للازدواجية في المقاربة والفهم جنبا إلى جنب في أذهان الناس ، فقد أدى في نظر " كونت" إلى حدوث اضطراب كبير في التفكير الإنساني وأطلق على هذه الحالة " الفوضى العقلية" التي أدت إلى فساد في الاخلاق والسلوك لأن ما يعتور الفكر من اضطراب، ينعكس على الأخلاق والسلوك في مختلف فروع الحياة الاجتماعية، لأن الحياة قائمة على دعائم من الاخلاق والمثل فبفسادها وإنهيارها تفسد جميع فروع هذه الحياة ، وتتقوض أركانها..، فلا سبيل إذن إلى إصلاح اجتماعي إلا بإصلاح الفكر الإنساني.. لأن الفكر هو أساس الجهاز الاجتماعي (le mecanisme social repose sur la pensée) ولما كانت أسباب فساده ترجع إلى اضطراب في فهم الأشياء نتيجة لوجود طريقتين متناقضتين، فلا سبيل للخروج من هذه الوضعية إلا بالقضاء على الاضطراب الفكري..
إما بالتوفيق بين الطريقتين للتفكير في الفهم، بحيث لا يحدث أي اضطراب في أذهان الناس وتفكيرهم..
وإما بإقصاء طريقة من الطريقتين " الوضعية أوالدينية الميتافيزيقية ).
وقد اختار إمام المدرسة الوضعية الطريقة الوضعية باعتبارها الحل الذي يؤدي إلى الانسجام في التفكير الإنساني لأن فهم الأشياء على الطريقة الوضعية هو عبارة عن فهم القوانين التي تخضع لها.. وذلك طبقا لمنهج عقلي يقوم على فرض الفروض ويبين مدى صحتها بأدلة تتمشى مع منطق الواقع والاستدلال بأحداث التاريخ على ميول الإنسان وأفكاره..
لقد ربط أوجست كونت بين نظريته الوضعية وبين فكره التطور من خلال قانون الأطوار الثلاثة.. بغرض الكشف عن القوانين التي تحكم مسيرة التاريخ البشري.. إلا أن ابن خلدون له نظرة مختلفة ذكرها في المقدمة، حيث يرى أن للنفس قوة مدركة ، وأن قوى الإدراك مترتبة ومرتقية إلى القوة العليا منها وهي المفكرة..
القوى الحسية الظاهرة ترتقي إلى الباطن وأوله الحس المشترك وهو قوة تدرك المحسوسات مبصرة ومسموعة.. وملموسة، وغيرها في حالة واحدة.
يؤدي الحس المشترك إلى الخيال وهو قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجية.. إما بتوهم المعاني أو بإبداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة ثم ترتقي إلى قوة الفكر وهي قوة الرؤية والتوجه نحو التعقل..
عن طريق المدارك الحسية والخيالية وتركيب المعاني..، يدرك الإنسان العالم الاجتماعي المحيط به وجميع المعطيات الاجتماعية التي يستطيع التوصل إليها.. عن طريق عملية التفكير..
ويقرر ابن خلدون أن إدراك النفس على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس وإدراك بالباطن وهو بالفكر الذي وراء الحس وذلك بقوى جعلت في بطون الدماغ تنتزع بها صور المحسوسات .. والجولان بالذهن فيها..
وغاية الفكر عند ابن خلدون تصور الوجود والتعرف على أسبابه وعلله الظاهرة والباطنة..
فحركة العقل بين المعلوم والمجهول في الفكر والنظر.. وتنشأ العلوم والصنائع بالغوص في أعماق الذهن بحثا عن كنه الأشياء على ما يكون خبيئا من حقائق العلم.. ومتصلا بصلة الوجود والحياة.
العامل الثقافي بوصفه بعدا وعنصرا تغييريا..
الثقافة هي المجال الذي تنبع منه الخصائص التطوريةللمجتمعات الإنسانية ويحدد الأولويات في الفكر والسياسة والدين.. وإن إدراك أهمية العامل الثقافي في مجمل عملية التنمية والتطور الحضاري سوف يمنح المتغير الثقافي دوره في تطوير تاريخ المجتمعات البشرية...
فالثقافة الخلاقة وحدها تقدم معاني الإبداع في كل مجالات الفكر والعمل، والعامل الثقافي بوصفه عاملا تكوينيا لعملية التغيير الاجتماعي في إطاره تتحقق عملية التطور. وقد أكدت الدراسات المقارنة لعملية تطور المجتمعات في مختلف إطاراتها الحضارية والثقافية عبر التاريخ.. التفاعل الجدلي بين الخصوصية الثقافية ونموذج المعرفة الذي يحقق التقدم.. ومعنى هذا أن النموذج الذي تم اختياره هو نتيجة لعلاقات سياسية وثقافية متبادلة عبر التاريخ.. فنقل المعرفة جزء من العملية التكوينية للشخصية الثقافية في سعيها للتحرر والانبعاث.. في مرحلة تغير العالم وإرهاصات تشكل عالم جديد..
إن التنمية الحضارية والثقافية للمجتمع تتحقق نتيجة التراكم الفعال لطاقات المجتمع في مجالات الفكر والعمل.. فمفتاح إدراك الفعالية الثقافية يتمثل في الأخذ بالنمط المثالي (idéal type) أي الروح المثالية الذي يمكن انطلاقا منه تكوين وعي ثقافي وتاريخي...
إن الشمولية في المعرفة يقودنا إلى الحرية في تمثل المعرفة وفي التفكير بها، واستغلالها كوسيلة لقيادة الفكر إلى عالم أفضل.. فالوعي الثقافي يحرر المجتمع من الجمود والخضوع لنوع قاصر من الأفكار في مجال الثقافة والحياة..
وأهمية التحرر أوالوعي الثقافي أنه يجعل المثقف يسمو فوق الأحداث والوقائع ليصنع واقعا جديدا..
فرسالة الثقافة توعية المجتمع وتحيري العقول من كل العوامل التي تكبلها..
والفرق بين الثقافة الإيجابية، والثقافة السلبية هو الإدراك الواعي لقيمة الشخصية الإنسانية.. فتاريخ الفكر هو تاريخ العقل الإنساني وما اعترضه من ضروب التطور وألوان الرقي حتى انتهى إلى ما انتهى إليه على يد طائفة من قادة الفكر لهم أثر في تكوين الحياة الفكرية عامة.. وفي تصوير النظم الاجتماعية والدينية والسياسية..
و قد جعلوا من الحياة الفكرية والعقلية مصدرا للرقي والتطور، انتجوا أفكارا مهدت للثورات التي ستخرج العالم من العصور المظلمة إلى عصور النور، فأعادوا الاعتبار إلى الفرد والمجتمع .. ونشروا الحريات العامة التي أسهمت في ظهور شخصية إنسانية قوامها كرامة الإنسان وحرية العقل كما أنهم أخرجوا الثقافة من التجريد إلى عالم الإيجابية باعتبارها سلطة معرفية لها فعالية قادرة على تحويل الأفكار إلى حقيقة واقعية..
الثقافة انعكاس للحياة الاجتماعية والمثقف يستمد عناصر ثقافته من المجتمع الذي يعيش فيه.. وفعالية الأفكار رهن بشروط نفسية واجتماعية مكونة لثقافة واعية وإيجابية.. والثقافة الواعية تدفع إلى إحداث تغيير عميق في الأسلوب وطريقة التفكير. وبالتالي أحدث تغييرا في جميع العلاقات السائدة في المحيط الاجتماعي.
شبكة العلاقات وفاعلية الأفكار في النهوض الحضاري
إن التغييرات في الحياة الاجتماعية حسب "مالك بن نبي" لا تعزى ابتداء إلى العامل المادي أو الاقتصادي، وإنما تعزى إلى "العلاقات" التي تحول الشروط السابقة للظاهرة الاقتصادية حين توحد عناصرها في خلق حياة إنسانية منظمة من أجل الاضطلاع بالوظائف الاجتماعية في نطاق العمل الذي يصنع التاريخ..
إلا أن الأفكار وحدها لن تكون فاعلة ما لم تخضع لشبكة علاقات تنظم المجتمع وتحدد أهدافه وغاياته، وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق كان العمل فعالا ومؤثرا.
نستنتج من ذلك أن الحد المثالي للتطور الاجتماعي يخضع للتجانس والترابط الضروري بين الأفكار وشبكة العلاقات الاجتماعية بغرض تحقيق الإنسجام والتوافق وبتحقيق التقدم في أعظم أشكاله..
وكل مرحلة من مراحل التطور تتميز بغلبة عامل محدد يؤثر في تكون الثقافة.. ولا مشاحة أن الأخلاق مصلحة اجتماعية ودليل على قوة العلاقات الاجتماعية، فإذا أصيبت بأسباب التحلل أو اختلت وتمزق نسجها، وامتد التحلل إلى الأفكار والأشياء فسوف تتعطل القدرة الإبداعية على إيجاد الحلول للمشكلات الواقعية، بل سينصب الاهتمام على المشكلات الخيالية أو الوهمية.. مما يعتبر علامة على أن حالة المجتمع آلت إلى الأفول وأصبح عاجزا عن القيام بوظيفته بصورة فعالة، فكل ثقافة إنما هي وسيلة فعالة لتعليم الإنسان كيف يعيش، وكيف يكون شبكة علاقات تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ..
وأن يكون الإنسان سيد نفسه، يتصرف بما يليق بالكرامة الإنسانية، فيعمل ما يريد، وليس قصاراه أن يساق إلى ما يراد.. ويهتدي بحاسة الجمال لأنها دليل على صحة التكوين وخلو النفس من الخلل والتشويه.. فينقاد لما يجول في الذهن من أن المعرفة الإنسانية علاقة بين الأفكار والأشياء.
إن الغاية من الثقافة أن نصل إلى عالم الغد عاملين مؤثرين لا تابعين متأثرين. وعلينا أن نسبقه بالتفكير والتدبير..
فقيمة المفكر تكمن في قدرته على استيعاب علوم عصره وفي قوة بصيرته في معرفة حقائقه.. ووسيلته امتلاك مناهج للتفكير ورؤية نقدية تحليلية، يستطيع من خلالها أن يفهم الواقع الاجتماعي..
أما الغاية من البناء الحضاري، فهو معرفة القوانين التي تحكم الاضطراد الحضاري وتحقق شروط الإقلاع والنهوض.. ولا يمكن أن يتم ذلك في غياب المقومات العقدية والفكرية التي صاغت وبلورت التجربة الإنسانية.
ومن نافل القول أن حقيقة الفكرة متجذرة في عمق الشخصية الإنسانية.. منها نشأت الثقافة وولدت الحضارة وتبلورت الفاعلية الاجتماعية في التاريخ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.