ضيف هذا العرض، وثيقة علمية وإبداعية تجمع وتوفق بين العمل الأنتروبولوجي والعمل الروائي، بأسلوب ممتع، بما يخول للباحث الإسباني بيثينتي موكا روميرو، التأكيد في تمهيد الكتاب (والمؤرخ بين مليلية وبني بوفراح في ماي 2010)، على أن "الكتاب لا يمكن اعتباره عملا أنتروبولوجيا محضا، وإن كان هذا الأمر لا يقلل شيئا من غنى محتواه، إذ نستخلص من خلال قراءته معطيات وفيرة وأحاسيس قلما نجدها في الدراسات الممنهجة الدقيقة التي تخضع لمعايير صارمة لما يعتبر نموذجا لعمل أنتروبولوجي". الحديث هنا عن كتاب ألفته أورسولا كينغسميل هارت، ويحمل عنوان: "وراء باب الفناء.. الحياة اليومية للنساء الريفيات"، وترجمه عبد الله الجرموني، وصدر عن منشورات تفرازن اء ريف، (طبع الكتاب بمساهمة من جمعية ملتقى المرأة بالريف". ط 1، 2010). ينحصر العمل على تدوين ملاحظات دقيقة ووصف دقيق كذلك للأشخاص والأشياء معتمدة عن الذكريات بحكي غير كرونولوجي، كما نقلت عن النساء نظرتهن للحياة الزوجية ومكانتهن في بيوتهن وأسرتهن، زيادة على تخوفهن وهمومهن في مجتمع رجولي بامتياز، كما نقرأ في التمهيد الذي حرره مترجم الكتاب، الكاتب والمترجم عبد الله الجرموني، والذي نحسب أنه أصاب كبد "الحقيقة" بشكل كبير عندما اعتبر أن هذا الكتاب يمكن اعتباره أكثر من وثيقة، فهو من الناحية الإنسانية حكى للحياة اليومية لنساء رافقتهن في أفراحهن وأحزانهن. تتفرع فصول الكتاب على خمسة عشر فصلا، بدأت بتعريف المنطقة كمجال جغرافي وفضاء اجتماعي "صعب" تتفاعل فيه كل الشخصيات المذكورة، قبل أن تبرز الأعمال اليومية للنساء داخل وخارج البيت مرورا بأفراحهن وأتراحهن في الزواج والولادة والطقوس والعادات التي اندثر الكثير منها، بالإضافة إلى بعض الاعتقادات والشعوذة والأساطير حتى الوصول إلى النهاية: الموت. وعلى هامش صدور النسخة الإسبانية لكتاب أورسولا الصادر أصلا بالإنجليزية، وهي طبعة مشتركة بين مصلحة النشر لمدينة مليلية وأونيد مليلية، ولجمالية غلاف الكتاب، اخترت له أحد رسوم إيميايو بلانكو الحامل لعنوان: "الرقصات الريفيات" الذي أنجزه سنة 1934 حين كان يشغل منصب مراقب عسكري في إبقوين. (كانت أعمال بلانكو بمثابة مرشد لهارات فيما يخص الثقافة الريفية). خَصّصَ الأنتروبولوجيا الأمريكي ديفين منتغومري هارت (زوج مؤلفة الكتاب) مقدمة مؤثرة للنسخة الإسبانية، كتبها سنة بعد وفاة زوجته أورسولا، وقد عبر لي في عدة مناسبات عن الحماس الذي أبدته زوجته قبل وفاتها لإصدار النسخة الإسبانية، ومن أهم معالم التفاعل النقدي مع الكتاب، ما صدر في يومية "إل بايس"، التي تعتبر الأكثر أهمية في اللغة الإسبانية في ملحقها الثقافي "بابيليا"، من خلال صدور مقال نقدي من توقيع ميكل بايون، لَخّصَ فيه القيّم التي جاء بها الكتاب مبرزا تلك التي تنبثق من الشهادات (التي أوردتها المؤلفة) والأحاسيس التي تنبض في صفحاته حول عالم نسائي لا يمكن للرجل اجتياز. وفي سنة 1999 أورد أنخيليس فيسينتي مقالا نقديا في المجلد العشرين من "مجلة أوراق" ضمنه تقديما لفصول الكتاب قبل أن يصفه "بالوثيقة الهامة جدا"، ويضيف أن صلب هذا العمل ونقطة قوته يكمنان في الوصف المثير "للآخر" لكن من الداخل الذي أنجزته الكاتبة من خلال مشاركته نفس أنشطته وأحاسيسه. وفي السنة الموالية (2000)، وصفت دراسة نشرت مجلة مؤشر التأريخي الإسباني (مجلد XXVI رقم عدد 109)، العمل، بأعين الناقد خوان راميريث أنه "جيد ودقيق الوصف، متضمنا أحيانا شهادة مثيرة لامرأة غربية حول التقاليد والعادات والحياة اليومية الصعبة للنساء الريفيات، في منطقة نائية ووعرة بشمال المغرب". ويتميز كذلك ب"مجموعة صور أصلية ومهمة" بالإضافة إلى رسوم الكاتبة الأمر الذي يجعل من هذا العمل نموذجا قيما في مجال الإثنوغرافيا. من "كنوز" الكتاب، تلك التي تحيلنا على أمير الريف، الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي، ونقتبس شهادة ميدانية دالة للمؤلفة، بخصوص موضوع التعامل مع الثأر، والذي حتى حدود 1921 التاريخ الذي سَجّل بداية اتحاد القبائل الريفية تحت قيادة عبد الكريم الخطابي، وكذا بداية مقاومتها البطولية، رغم أنها أجهضت، ضد الجيش الاستعماري الإسباني، وكذا الفرنسي حتى 1926 كان سائدا بين عائلتين مجاورتين، مضيفة أن المسألة كانت أشبه بمؤسسة مهيمنة في الحياة السياسية الريفية، ولكن، عندما دعت المصلحة العامة إلى الوحدة القبلية لمواجهة الغزاة النصارى، ألغى عبد الكريم الخطابي، عُرف الثأر هذا وأمر بهدم تلك الأبراج الصغيرة "أشبار" المتواجدة جوار أي منزل. ومن باب عدم اختزال ثنايا كتاب أورسولا في هذا العرض الاستطلاعي العابر، نعتقد أن الأفضل للمتصفح(ة) الكريم(ة)، من المهتم أساسا بثقافة المنطقة وهويتها، قراءة الكتاب جملة وتفصيلا، ومتى قرأنا يوما قراءة اختزالية لعمل قصصي أو روائي أو دراسة أنتروبولوجية، اللهم إن تعلق الأمر تحديدا بدراسة نقدية، وليس هذا مقام تحرير قراءة نقدية في كتاب "وراء باب الفناء.. الحياة اليومية للنساء الريفيات" للراحلة أورسولا، والتي لم يُكتب لها متابعة معالم التقدير الذي حظيت به، بحثيا وإعلاميا وجمعويا في إسبانيا والمغرب، بحكم أنها توفيت بألميريا الإسبانية في سنة 1996، حيث خُصّصَ لها تكريم من طرف العديد من الأشخاص والجمعيات الأمازيغية، كما هو الشأن لممثلي الجمعية الثقافية الأمازيغية التي خصصت لها تكريما في صحافة مليلية في نونبر من سنة 2000. تستحق ذلك طبعا، وتستحق ما هو أكثر.