بعد كل هذه الضجة التي أثارها فيلم "تنغير، القدس: أصداء الملاح"، قررت أن أشاهد النسخة التي بثتها القناة الثانية والتي تنقص بقليل عن النسخة الأصلية للفيلم التي تعرض في المهرجانات، ونظرا لأهمية الموضوع، فقد قررت أن لا أكتفي بمشاهدة واحدة قد تكون ظالمة للفيلم سواء بالانبهار به، أو بإسقاط كل الأحكام القَبلية عليه من تطبيع مع إسرائيل وخدمة الأجندات الصهيونية. اكتشفت أن الفيلم يعرض حكايات مجموعة من المغاربة اليهود الذين انتقلوا من مدينة تنغير إلى إسرائيل إبان وبعد إعلان قيامها، لا يدخل الفيلم في تفاصيل الصراع العربي-الإسرائيلي، ولا يتحدث حول أسباب النكبة ولا يدعو إلى إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل ولا إلى زيارتها، فكرة الوثائقي تتمحور حول جزء من التاريخ المغربي الحقيقي الذي يعرفه الكثيرون، تاريخ ليس بالبعيد كثيرا حتى ينساه من يهوى التناسي، وليس بالمُبهم لأن عدد المغاربة الذين انتقلوا إلى إسرائيل كبير جدا ولن يسهل إخفاءه بغربال. الفيلم الوثائقي عموما هو جنس صحافي بتقنيات سينمائية، وغالبا ما تجد وراء الأفلام الوثائقية الناجحة صحفيون، وبالتالي فبنيته الصحافية تفترض أن يقول الحقيقة، حيث تعتبر الأفلام الوثائقية من أهم الطرق للتأثير على الرأي العام، وما نصطلح عليه ب"البروباغاباندا" أي الافتراء على الرأي العام ومحاولة توجيهه، ازدهرت مع الأفلام الوثائقية خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي، ومع تطور التكنولوجيا وقدرة الناس على التحقق، اتجهت الأفلام الوثائقية نحو الإلمام بالحقيقة والتركيز على زاوية معالجة معينة قصد إضاءتها. في هذا السياق، يندرج فيلم كمال هشكار، وثائقي حول جزء من تاريخنا، وهو بالمناسبة قريب جدا من عشرات التقارير والملفات الصحفية التي تناولت مسألة هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، وهي التقارير التي نشرت في عدد من الصحف المغربية، ولا أحد تجرأ وقال عنها أنها تدعو إلى التطبيع، غير أنه وعندما تعلق الأمر بفيلم وثائقي سينمائي، ارتفعت الأصوات المناوئة التي تجرم المخرج وتجعله واحدا من المغضوب عليهم، رغم أن أغلب هذه الأصوات لم تشاهد الفيلم و"غِير مْعاودين ليها عليه". مشكلة البعض في المغرب، هي أنهم يضعون سهام نقدهم في انتظار شيء ما يتحرك كي يصوبوا عليه، خاصة بعض الإسلاميين ممن ينتظرون هفوة صغيرة من الفن كي يؤججوا العباد ضده، وكذلك من بعض اليساريين الذين ينتظرون إشارة صغيرة حول إسرائيل كي يظهروا للمغاربة أنهم أوصياء على القضية الفلسطينية، وكم كنت أنتظر من واحد من هؤلاء المنتقدين أن يناقش أفكار الفيلم وأن يوضح لنا أين يظهر التطبيع بشكل صريح، وليس فقط أن يعطي الدروس في حب فلسطين حتى ولو تعلق الأمر بفيلم وثائقي يعرض لقصص واقعية تنتمي إلينا قبل غيرنا. وبالتالي أن أسأل هؤلاء المنتقدين: ألا يظهر في هذا الفيلم الوثائقي مجموعة من المغاربة المسلمين الذين يعترفون بأنهم تعايشوا مع اليهود؟ ألا يتحدث هؤلاء اليهود الدارجة المغربية؟ هل التطبيع هو أن تتحدث إلى يهودي من أصل مغربي يتحدث عن حنينه لأجواء الحب التي كانت في المغرب؟ وهل التطبيع هو أن يذرف كمال هشكار الدموع في فيلمه وهو يسمع كيف كان اليهود والمسلمين يتعايشون جنبا إلى جنب وها هم الآن يتقاتلون على أرض كل منهما بحججه وبراهينه؟ هناك أيضا من بنى انتقاده للفيلم بالنظر إلى زيارة مخرجه لإسرائيل من أجل الحديث لليهود المغاربة هناك، وذلك لأن كل زيارة لإسرائيل تعتبر تطبيعا في نظرهم، طيب، أسأل هؤلاء، هل يوجد وثائقي في العالم يتم إنجازه دون العودة إلى موضوعه؟ كيف كان بإمكان هشكار الحديث عن هؤلاء دون زيارتهم والسماع منهم؟ هل تحمل أرض إسرائيل لعنة تلتصق بكل من يطأها؟ وهناك من ينتقده لمشاركته في مهرجانات بدولة إسرائيل، وهو انتقاد غير موضوعي لأن هذا الفيلم يتحدث عن مواطنين يسكنون بإسرائيل وشيء طبيعي أن يعرض أمامهم. وهناك قلة قليلة انتقدت الفيلم –بعد أن شاهدته- بالنظر إلى قلة الخبراء داخله ممن كان من الممكن أن يقدموا بعض الآراء، وهو انتقاد موضوعي يحتمل الكثير من الصحة، لأن الوثائقي يشترط عددا من وجهات النظر المختلفة لوضع الأمر في سياقه، فهناك من وصف حرب 48 داخل الفيلم بعيد الاستقلال، وهو استفزاز حقيقي للكثير من العرب والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية، لأن تلك الذكرى كانت تقريبا أسوأ ذكرى في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي، وكان على هشكار أن يستنجد بمحلل فلسطيني، لأنه يهمنا أن نعرف وجهة نظر الطرف الفلسطيني في أرض تنتمي إليه. لكن كل الآراء في النهاية لا يمكن أن تغير من وجهة سير الحقيقة، فنحن لسنا هنا أمام موضوع جدلي، ولسنا أمام وثائقي يعرض نزاعا فكريا أو تاريخا غير معروف، بل نحن أمام حقيقة تاريخية تتلخص في الهجرات الجماعية لليهود المغاربة نحو إسرائيل، ولا أعتقد أنه سيأتيك أحد ليجادل اليوم هل انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، أو هل عاد الملك محمد الخامس من المنفى سنة 1955. المغرب عُرف بالتعايش الكبير بين المسلمين واليهود قبل وبعد ظهور شيء اسمه دولة إسرائيل، وأولئك اليهود المصورين في الفيلم، هم جزء من وجعنا، من آلامنا، من أحلامنا، ليسوا مرضى بالجذام، أو بفقدان المناعة المكتسبة كي نتبرأ منهم، هم مغاربة اختاروا الرحيل نحو إسرائيل والتجمع تحت وطن قومي لهم، قد نختلف معهم في رحيلهم، وقد نتمنى لو لم يتركوا بلدهم ولم يساهموا في تقوية دولة إسرائيل، لكن في النهاية، ذلك اختيارهم، ومن حق هشكار، مادام واحدا من أبناء مدينة تنغير التي عرفت هجرات يهودية كبيرة أن يتحدث عنهم ويحيي جانبا من الذاكرة المغربية. لذلك، إلى هؤلاء المتحدثين عن التطبيع، لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك، ولا تكونوا فلسطينيين أكثر من أهل فلسطين، شاهدوا الفيلم يرحمكم الله، شاهدوا الفيلم يغفر لي ولكم الله، وبعدما أصدروا ما تريدون من أحكام، فإن بعض الظن إثم يا إخوان. [email protected] http://www.facebook.com/ismailoazzam