شاءت الصدف أن تجمعني ،على صفحات الفايسبوك، بأحد الأصدقاء المصريين المشاركين في ثورة ال25 من يناير.أول الأمر لم يكن يربطنا سوى أننا كنا من معجبي صفحة أحد الشعراء الكبار حيث كنا ،نحن و الستون ألف محب ، نتبادل أشعار هذا العظيم و نعلق عليها تارة بالإعجاب و التقدير فقط وتارة أخرى نبحث في ما بين أبياتها في محاولة لسبر أغوارها ز و اكتشاف كنهها. و كنا ،أنا و الصديق، من أكثر نشيطي الصفحة الأمر الذي قادنا إلى التعارف الشخصي الذي ما لبث أن تحول إلى صداقة أنشأتها و رعتها هذه الشبكة الاجتماعية. بعد الإنجاز التاريخي الذي حققوه هناك في أرض الكنانة،لم يعد حديثنا في الأشهر الأخيرة أدبيا محضا بل صارت تطغى عليه السياسة و أوضاع مصر الراهنة و التي تأتي بجديد في كل ساعة تقريبا.ما شدني في الأمر هو هذا التغيير الجذري الذي طرأ على هذا المجتمع في أشهر قليلة، فكلما حدثني عن جديد أدهش وأنصت للحكاية حتى نهايتها و ما أكثر قدرة أهل النيل على الحكي و السرد و اختلاق القصص من أمور قد تبدو لنا عادية . أكثر ما حدثني عنه،هو التغيير الكبير الذي لحق علاقة الجيل الشاب بمن سبقه من أجيال الأمر الذي لمسه الصديق في علاقته بأبيه ،و كيف صار هذا الأب يحترمه و يقدره بعدما كان يحتقره و يحتقر دراسته للأدب "الغير مجدية" و حبه للشعر الذي "لا خير فيه "فالشعراء "يتبعهم الغاوون "، كما كان ينكر عليه جلوسه المطول أمام الحاسوب معتبرا ذلك مضيعة لوقت كان الأجدر به أن يقضيه في دكان والده يساعده و يأخذ عنه الحرفة علها تفيده بعد دراسة الأدب،" هذا فيما مضى " يقول الصديق ،" أما الآن فكل شيء تغير ،أصبح والدي يسألني ،كلما سنحت له الفرصة ،عن كل جديد يدور على صفحات الفايسبوك ويتباهى بذلك بين أقرانه في السوق ، قائلا في فخر"هذا ما رأيته و ابني على الفايسبوك"،صار يفتخر بي بعد أن كان يتجنب ذكري أمام رفاقه،و صار يعز الحاسوب بعد أن كان يكرهه و يكره خالي الذي أهدانيه على مضض منه " .كيف لا؟ و الحاسوب و الإنترنت و كل وسائل الاتصال الحديثة كانت أدوات فاعلة و فعالة ساعدت شباب هذا الجيل في تحقيق ما لم تستطع تحقيقه الأجيال السابقة. فيما كان يرويه لي أيضا ، تحول اهتمامات الشباب الذين كان آخر ما يهمهم السياسة و أخبارها و الذين انشغلوا لسنوات طويلة بآخر صيحات الموضة و آخر أخبار الفنانين الشخصية مرددين في عبث "الدنيا حلوة" ، تاركين هموم البلد لناهبي البلد، في حين شغل البعض الآخر وقته في سماع و مشاهدة المشايخ و الوعاظ في الندوات و على الشاشات الدينية ،متتبعين خطاهم، آخذين بما يملى عليهم من فتاوى بعضها عجيب غريب ،راضين بوضعهم، راجين من السماء - و السماء وحدها- أن تبعث حلا يزيل عنهم كربهم.اليوم صاروا أكثر اهتماما بأوضاع البلاد و السياسة ، بل أصبحت هي كل ما يهمهم ،فغدت السياسة طبق كل وجبة و موضوع كل ساعة ، تجدها في المقاهي و في الشارع ، في مدرجات الجامعات و على كنبات البيوت ، في الأحياء الشعبية كما في البيوت الراقية، على قنوات الأخبار و على القنوات المنوعة.لقد أحسوا بأنهم هم المعنيون و أن كل ما سيحل بالبلد في المستقبل سيكون من صنع أيديهم. غير أن ما يخشاه صديقي و كل مثقفي مصر هو أن تضيع مجهوداتهم وسط الصراعات الدينية و تنامي المتعاطفين مع الإخوان المسلمين و التيارات السلفية و الأصولية و التي قد تهدم كل ما بناه الشباب الحداثي الواعي.فلطالما أرادت الثورات أن تشكل قطعا مع المراحل السابقة و أن تؤسس لنظام جديد ، هذا عندما تكون وراء الثائر ايديولوجيا يمشي على خطاها،غير أن الأمر مختلف في هذه الثورات العربية التي تتعدد تياراتها، مما يخلق فضاء لصراعات ايديولوجية و فكرية من قبيل " مسلم- مسيحي " أو " إخواني – ليبرالي " و هو أمر قد يشكل عائقا يحول دون وصول الثورة لأهدافها و التي ترمي إلى استئصال الفساد و إنشاء دولة مدنية مبنية على أسس حضارية ديمقراطية ، وهو أمر لا ينكره كل ذي عقل، فلا سبيل لتحقيق النهضة العربية غير الدولة المدنية البعيدة عن التعصب الديني و الأصولية ، فالله للجميع ، و الدين رابط بين الفرد و السماء ، أما السياسة فبين أهل الأرض هم صناع مصيرهم و هم حاصدو نتاج صنعهم إيجابا و سلبا.