مضت قرابة السنتين على بدء ما أصطلح عليه بالربيع العربي: انطلاقا من ثورة الياسمين بتونس مرورا بمصر و ليبيا و اليمن و وصولا إلى الثورة السورية المستمرة، و بعد أن خلت الشوارع من المتظاهرين طفت إلى السطح إشكالية وضع بدائل للأنظمة الزائلة، خصوصا أن هذه الثورات جاءت قوية في رفضها و لفظها للديكتاتوريات البوليسية و هزيلة في تصورها للمستقبل. و كان طبيعيا أن يبرز الصراع حول السلطة بين مختلف التنظيمات القائمة: اليساريون و الليبراليون العلمانيون من جهة و التنظيمات الإسلامية من جهة أخرى، و قد تمكن الإسلاميون من بلوغ السلطة أقوياء بحسن تنظيمهم و باعتمادهم خطابا أخلاقيا و شعبويا يدغدغ المشاعر الدينية للمجتمعات، فهل يمكن في ظل هذه الوضعية الحديث عن ربيع فعلا؟ أليس الإسلام السياسي مناقضا لشعار الحرية و الكرامة التي رفعته الثورات في بداياتها؟ أم أنه يمكن تصور نموذج لإسلام ديموقراطي حداثي؟ و أن العلمانية ليست شرطا للديموقراطية؟ في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات سنحاول تسليط الضوء على التجارب التونسية و المصرية في محاولة رصد مكامن نجاح و فشل هذه الثورات و مدى تبلور ملامح الديموقراطية في الدول السالفة الذكر. انتخب محمد مرسي مرشح حركة الإخوان المسلمين رئيسا لمصر و بذلك حسمت الحركة الإسلامية معركتها مع العسكر و تعزز انتصارها بإقالة المشير طنطاوي و الفريق أنان: و هو أمر لا يخلو من رمزية رغم بعض الآراء التي ترى الأمر برمته صفقة سياسية، و تشير أولى خطوات الرئيس المنتخب إلى رغبة هذا الأخير في استئثار جماعته بكل السلطات: ما يظهر من خلال محاولة إعادة مجلس الشعب المنحل بقرار المحكمة الدستورية و هو مجلس غالبية أعضائه محسوبون على الإخوان و حلفائهم الإيديولوجيين في حزب النور السلفي و كذلك من خلال دعمه لعمل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور- المكونة على مقاس الإسلاميين- رغم الدعوى القضائية التي تطعن في طريقة تشكيلها. و في تونس فازت حركة النهضة بانتخابات المجلس التأسيسي و هي بصدد الضغط لكي تقر دستورا رجعيا في ميزان الديموقراطية الحديثة: رافضة المساواة بين المرأة و الرجل و دافعة بأسلمة المجتمع. أما على مستوى التسيير الاقتصادي و الأمني- و إن كان يحتاج وقتا أكبر حتى يمكن تقييمه- فإن الحكومات الإسلامية في كل من مصر و تونس لم تستطع لغاية اللحظة بلورة برنامج واضح المعالم و هي تتخبط في محاولة إعادة التوازن للاقتصاد الذي تضرر كثيرا بظروف الثورة، خاصة أن البلدين يعتمدان بشكل كبير على مداخيل السياحة التي شحت نظرا لغياب الأمن الذي لم تستطع السلطات حفظه إلى غاية اليوم. من جهة أخرى فإن تعزيز الحريات و ضمانها غائب تماما عن أجندة هذه الحكومات بل نرى أن سلطة موازية- يمثلها السلفيون خصوصا- تريد أن تسيطر على المجتمع من خلال التضييق الذي تمارسه هذه الجهات على حرية الإعلام و الإبداع سواء في قضية قناة نسمة أو ما تلاها من تظاهرات عنيفة ضد كل ما يعتبره السلفيون منتقصا من الإسلام و شريعته: فهل نحن في دولة القانون أو دولة الشريعة أم أن السلفيين أهم من أن يتم إخضاعهم للقانون؟ بناء على ما تقدم نستطيع القول ان بلوغ الإسلاميين للحكم لم يكن إلا نتيجة لغياب البديل الديموقراطي المأمول و أن واقع المجتمعات العربية الذي تمخض عن عقود من التجهيل و من استغلال الدين في السياسة من قبل الأنظمة و من قبل الحركات السياسية و المجتمعية جعل الخطاب الديني الوحيد القابل للنجاح خصوصا أن الحركات العلمانية المنافسة لم تجرؤ يوما على الدفاع عن العلمانية و لم تصرح يوما بها و ظلت المطالب بفصل الدين عن الدولة مطالب أفراد مستقلين فيما استقالت الأحزاب و التنظيمات من دورها في تعريف العلمانية و تقريبها للرأي العام لأسباب ذاتية حينا و موضوعية في أحيان أخرى، فالعلمانية تم تشويهها من قبل الإسلاميين الذين يتوفرون على الموارد المالية لطبع الصحف و الكتب و إنشاء القنوات الفضائية ما جعل العلمانية مرادفا للإلحاد غير المقبول مجتمعيا، فضلا عن ترسانة القوانين التي تحاصر حرية التعبير عموما لكنها لا تستطيع كبح خطاب إسلاموي يستغل حتى منابر المساجد لنشر إيديولوجيته.و من ثمة فإن النجاح الإسلامي و إن كان يعكس اقتراعا حرا و نزيها فإنه لا يعبر أبدا عن بداية التأسيس للدولة الديموقراطية لأن هذه الأخيرة لا تختصر أبدا في نزاهة الانتخابات. لقد طالبت الجماهير الثائرة بالديموقراطية و رفعت شعار الحرية و كانت هذه الأخيرة مطلبها الرئيسي و عنصر وحدتها وسر جاذبيتها و مصدر الدعم لها في العالم، و لقد وافق الجميع على تدخل الناتو في ليبيا لأن تدخله تم دفاعا عن حق الشعوب في المطالبة بالحرية، غير أن هذا الإجماع على الديموقراطية و الحرية كطموح للجميع يخفي تناقضات جمة و خطيرة بين الفهم الذي يمنحه كل فريق لهذين المصطلحين: فالإسلاميون يعتبرون أن الإسلام هو "الحل" الذي سيأتي للشعوب بحريتها و كرامتها، و لا يتورعون عن القول بأن الإسلام هو أسمى ما وصلته البشرية -أو بالأحرى ما وصل للبشرية- كنظام و شريعة تكرم الإنسان و تحرر المرأة و تضمن كرامة "العبد" الضعيف لله، و هذا طبعا بعيد جدا عن فهم العالم المتحضر للحرية التي دعمها بصواريخه و عقوباته. إن مصطلح الحرية في القرن الواحد و العشرين ليس نقيضا للرق -و حتى الرق لم يمنعه الإسلام- بل الحرية تعني احترام الإنسان و حقوقه كما نصت على ذلك المواثيق الدولية و كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: و من بينها حرية الاعتقاد و حرية اعتناق الأفكار و التعبير عنها و ممارستها، و هنا يكمن الاختلاف الكبير بين التصور الإسلامي و نظيره الكوني للحرية: فالحرية في الإسلام محدودة بحدود النص الديني الذي يحتكر الحقيقة و يريد فرض تصوره الخاص لما سيسميه "حرية"، من خلال تشريعات توصف بكونها سماوية إلهية لا يمكن للإنسان مناقشتها، في حين أن المنظومة الديموقراطية الحديثة تجعل الإنسان الفرد في مقدمة أولوياتها، جاعلة من حريته في الاختيار و الاختلاف بؤرة اهتمامها و الوسيلة لقياس مدى ترسخ المجتمع الديموقراطي. فأية حرية يضمنها الإسلام و هو يرى أن الإنسان ليس إلا عنصرا من مجتمع مسلم لا يحق له التواجد بمعزل عن هذا الأخير و لا في استقلال و اختلاف عنه و يضع الحفاظ على ما يسميه توابث الدولة و المجتمع فوق إرادة الفرد و فوق حريته: و يكفي النظر إلى آراء الإسلاميين في شأن الحريات الفردية كالحق في الاعتقاد وتغيير الدين (ما لم يكن نحو الإسلام) و الحرية الجنسية وغير ذلك من الحريات الفردية الأساسية حتى نتوقف على رفضهم الحاسم و المطلق للحرية في إطار التصور الحداثي لهذه الأخيرة. ما يعري الإجماع الكاذب للبدايات و الذي غذته الحركات العلمانية بحسن نية و- ربما- بغباء كبير. نستخلص إذن، أن الفهم الإسلامي للحرية و الكرامة هو فهم خاص لا يأخذ من الديموقراطية إلا المصطلحات ليفرغها من محتواها و يعيد ملأها على مقاس إسلامي ينفي عنها كل حمولتها الحداثية. إن بتاء الدولة الديموقراطية الحديثة لا يمكن أن يتم دون القطع مع الدولة الدينية المرادفة تاريخيا و واقعيا للاستبداد و قمع الحريات و من هنا فإن الحركات و الأحزاب السياسية التي تتبنى الخيار الديموقراطي العلماني يجب أن تتحلى بشجاعة أكبر في مواجهة خطابات التكفير و التسفيه التي تصرفها حركات الإسلام السياسي و ذلك بتوضيح موقفها من الدين و نشرها لثقافة الاختلاف و قبول الآخر، لأن الأمر الإيجابي الوحيد في ما حدث منذ انطلاق الثورات إلى اليوم هو أن الخطاب العاطفي الحالم للحركات الإسلامية سرعان ما سينكشف أمام إفلاس تصوراتهم لتسيير الدولة و أن التضييق على الحريات لن يولد إلا رغبة أكبر في الانعتاق.