سُئِل أحد القدماء عن رأيه في ما صنفه أحد معاصريه، فقال: "لو قيل لكلام سعيد بن حميد وشعره: ارجع إلى أهلك. لما بقي له منه شيء". إن كان حكم كهذا قد انتزع الابتسامة ممن حضروا المجلس الذي قيل فيه، لما ينطوي عليه من التكثيف الذي تشترطه الدعابة، فإنه يخفي، من زاوية أخرى، وجهه الجاد (ملامحه الحادة؟): وجهَ قارئ يملك سلطة الحسم في "أصالة" النصوص، وجهَ من لا تعوزه الخبرة في ضبط حياة المعنى، وذلك بتتبعٍ صارمٍ لشجرة نسبه، وتحديد دقيق لهوية "نص أول" انتثرت من صُلبه كل النصوص. وراءَ رؤية من هذا النمط تثوي نظرية معينة عن الكتابة وإعادة الكتابة، والأصل والنسخة، والهوية والاختلاف. إنها، وفي كل الأحوال، رؤية متجهمة بالقياس إلى رؤية "مغايرة"؛ تنأى بنفسها عن الحس "البوليسي" في التعاطي مع الكتابة وما يتصل بها من قضايا فكرية متشعبة. ووجه المغايرة هنا أن الكتابة مخترَقة دوما بإعادة الكتابة، وأن الأصل ليس إلا نُسخا تم إعلاؤها، نسخا نسينا أنها كذلك، وأن النص، كل نص، مُنعقَدُ شظايا من هنا وهناك، أو لنقل مع جوليا كريستيفا إنه "فسيفساء من النصوص". من هذا المنظور "الثاني"، والذي يكرس فكرةَ أن كل نص "نص ثان"، ستغدو تهمة السرقات التي أرقت شعراء العربية الكبار (ولم يسلم منها الكُتاب أيضاً)، والتي كشفت عن اقتدار مدهش لدى القدماء على فحص "جينوم" النص، وعن يقظة متجددة إزاء جشع المؤلفين وجنوحهم الأعمى إلى الاستحواذ على معان اجترحها غيرهم – هذه التهمة ستنقلب ميزةً، إذا ما قيض لنا الانفلات من ميتافيزيقا تسربت إلى رؤيتنا للكتابة، فبوأت القارئ مهمةَ تقصي المنابع وتعقب الأصول والحفر عن البذرة الأولى. ضد المؤلف المبتكِر (مفترع المعاني البكر) سينهض مفهوم آخر عن المؤلّف لا يرى فيه أكثر من فجوة يمر عبرها الكلام، وستصير هوية الكتابة مفعولا للعلاقات التي ينسجها المؤلف بين نصوص تغترب عن أهلها كي تتجدد، سيحوز المؤلِّف فضيلة المُضيف الذي يكرم وفادةَ ما يَهُبّ عليه من كلام غيريّ؛ وحينها فقط يمكن للمعاني أن ترفض العودة إلى أهلها، وأن تنتعش بالارتحال، وتأنف من الإقامة. أما "المؤلِّف" فله حين يبلغ هذا المقام، حين ينفصل عن "أنا أفكر" وينزع نحو "يُفكَّر بِي"، حين يستوعب حقيقة ما يتجاوزه، له أن يقول مع رامبو: "أنا آخر" (Je est un autre). في نص أُريدَ له أن يكون تعليلا لشغفه المكين بشعرية الاقتباس، ينبه عبد السلام بنعبد العالي إلى المسلمة التي يفترضها بعض ممن تزعجهم الاستعانة بالاقتباسات، ف"ينصحون كتابنا بأن يقلعوا عن استنساخ غيرهم، ويثبتوا كفاءتهم وقدرتهم على الإبداع بأن ينطلقوا من درجة "صفر الكتابة". وعلى عادته في مباغتة الأفكار الجاهزة، بهدوءٍ تَشفُّ عنه نبرة يلتبس فيها الشك بالسخرية، يشير إلى براءة النصيحة وغيرتها على الفكر والإبداع. المنزعجون من هذه الممارسة يتوهمون أن "الاقتباس أمر يتم، دوما، بوعي وسبق إصرار.": أنت تقتبس متعمدا، كي تحتمي باسمٍ حجة يهب خطابك أهمية؛ تخفي نفسك وراء الآخرين. أين صوتك؟ بيد من تُكتَب نُصوصُك؟.. هل يكفي التذكير، في سياق الرد على هذه الإشارات ( تنبيهات أم اتهامات؟)، بواقع أن "الكاتب غالبا ما يقتبس حتى إن ظن أنه صاحب الفكرة وأنه السباق إليها.. وأن يد الكاتب هي، دوما، يد ثانية" وبأن "اللغة هي التي تكتب"، لا المقتبِس ولا المقتبَس منه؟ إن كاتبا يهيء لاقتباساته شروطَ ضيافة يصير فيها هو نفسه الضيف والمضيف( فتنحل هوية الكتابة، في ورشته المفتوحة، إلى علاقات وتكافلات)، منذورٌ لأن يخلخل القراءات التي تصر على أن إعادة الكتابة، بما هي اسم آخر للاقتباس، ليست إلا محض استنساخ، إن لم تكن اختطافاً وأسرا للمعاني. إنها قراءات تفوت على نفسها حيوية العلاقة، إذ تظل مشدودة إلى تصور عن النصوص يُفقرها، بقدر ما يحرمها من مغامرة أن ترتحل عن أهل"ها"، من أن تسعى في الأرض حيةً ومنفتحة على مآلات تفتحها على اللانهائي. كتب ديلان توماس في "بيان شعري" نشره سنة 1951: "ما أحب أن أفعله هو أن أعامل الكلمات كما يفعل الحِرفي مع الخشب، أو الحجر، وما شابه، بقطعها، ونحتها، وتشكيلها، ولفِّها، وصقلها، وتحويلها إلى قوالب، تسلسلات، منحوتات، تكوينات صوتية تعبر عن دافع غنائي، اقتناع أو شك روحيٍّ، حقيقةٍ غير مدركة بوضوح يجب أن أحاول الوصول إليها وإدراكها. وأنا حِرفي مجتهد، حي الضمير، وملتزم، وماكر في استخدام الكلمات.. أستخدم أي شيء لجعل قصائدي تعمل وتتحرك في الاتجاهات التي أريدها: حيل قديمة، حيل جديدة، تورية، كلمات ممتزجة، مفارقات، تلميحات، جناس، تحريفٌ للكلمات، الاستعمال الخاطئ للألفاظ العامية، السجع، تكرار حروف العلة، إيقاع الخطاب". هذا الضرب من "البريكولاج"، هذا اللعب الحر الذي يصرح به الشاعر، ومعه الجهد المبذول من أجل الاقتراب من القصيدة، هذا "السير صوب القصيدة"، بحسب تسمية عبد الكبير الخطيبي، هو ما تشهد عليه تجربة الكتابة عند بنعبد العالي: حذرٌ مستدام إزاء القارئ، نثر مُصفى تخترقه الموسيقى، كثافةٌ أسلوبية، واقتباسات تتخلص من كل حنين إلى أهلها، لأنها غدت من "أهل الدار"؛ والنتيجة: نصوصٌ "تتحرك في كل الاتجاهات التي يريدها"، على غرار ما يفعل الشاعر.