صاغ الفرنسيون مصطلح «Les Lumières» (يعني الأنوار) لوسم حركة فكرية وفلسفية بارزة في القرن الثامن عشر، ركّزت على العقلانية والفردية وحقوق الإنسان. وسعى فلاسفة «الأنوار» (The Enlightenment)، مثل مونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو، إلى تحدي التقاليد والمؤسسات الراسخة، وخاصة الاستبداد الملكي والظلامية الدينية. وقد روّجوا للتعليم وحرية الفكر والتسامح، مساهمين في الأفكار التي شكلت الثورتين الأمريكية والفرنسية. وفي زماننا هذا صاغ الفيلسوف البريطاني نيك لاند (Nick Land) مصطلح «الأنوار المظلمة» (The Dark Enlightenment) وجعله عنوانا لكتاب نشره سنة 2012 يُنظِّر فيه لأفكار ومفاهيم حركة «الرجعية الجديدة» (The Neo-reactionary) كما صاغها وعرضها مهندس البرمجيات كورتس يارفين (Curtis Yarvin) في مقالاته التي دأب على نشرها في مدونته على الإنترنت منذ سنة 2007. تتميز أفكار حركة «الرجعية الجديدة» بمعارضة الديمقراطية والمساواة والتقدمية. وفي كتابه المذكور، يدين نيك لاند الديمقراطية ويستشهد برأي للملياردير بيتر ثيل (Peter Thiel) عبر عنه خلال مناقشة جرت عام 2009 بقوله: «لم أعد أومن بأن الحرية والديمقراطية متوافقتان.» وبيتر ثيل هو رأسمالي مغامر ومالك صندوق استثمار يمول الشركات الناشئة في وادي السيليكون من ضمنها شركة فيسبوك. وهو ممول أساسي وداعم كبير لشركة أنشأها كورتس يارفين تسعى إلى إنشاء شبكة رقمية ذات بنية لا مركزية تعتمد تقنية العملة المشفرة بتكوين وتكون بديلا للإنترنت. ويرى كورتس يارفين أن الديمقراطية التمثيلية غير فعالة ورخوة، وأنها هي سبب المشاكل التي تعاني منها الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولهذا وجب تجاوز الديمقراطية عبر تركيب مؤسساتي جديد تكون فيه الدولة عبارة عن شركة تمتلك بلدا والحكومة عبارة عن مجلس إدارة شركة يديرها شخص في صورة مَلِك-مدير-شركة يسعى إلى تحقيق مصلحة الشركة التي ستكون أيضا مصلحة الرعية. ويلاحظ منتقدو أفكار حركة «الرجعية الجديدة» تأثر كورتس يارفين بأفكار الأكاديمي الألماني هانز هيرمان هوب (Hans-Hermann Hoppe) كما عرضها في كتابه الموسوم «الديمقراطية: الإله الذي فشل» (Democracy: The God That Failed) الصادر سنة 2001. وسرعان ما تبنى كورتس يارفين فكرة هانز هيرمان هوب عن المستبد العادل، ذلك الحاكم القوي المحب للخير، والذي يحكم بكفاءة، ويتجنب الحروب التي لا معنى لها، ويعطي الأولوية لرفاهية رعيته. ولتحقيق رؤيته، يدعو كورتس يارفين للإطاحة بالحكومة الأمريكية وإعادة إنشائها في صورة جديدة (يستعمل مصطلح «reboot» الذي يعني إعادة تشغيل الحاسوب بعد تعطله،) وذلك عبر تنفيذ سلسلة من الإجراءات من ضمنها تسريح جميع موظفي الحكومة، وإغلاق المدارس العمومية والجامعات والمؤسسات الإعلامية، وعلى رأسها جامعة هارفارد وصحيفة نيويورك تايمز. وقد عرض رؤيته هاته في محاضرة ألقاها سنة 2012 بكالفورنيا أمام حضور من خبراء التكنولوجيا موضحا أنه «إذا أراد الأمريكيون تغيير حكومتهم، فسوف يتعين عليهم التغلب على رُهابهم من الديكتاتورية.» ويَعتبر بيتر ثيل أن «الشركة الناشئة إنما يتم تنظيمها بشكل أساسي على أنها مَلَكِيَّة» مضيفا «لا نسميها كذلك بالطبع، لأنه سيبدو غريبا، وأي شيء لا يمثل الديمقراطية يثير انزعاج الناس» وقد صرح بذلك في محاضرة ألقاها بجامعة ستانفورد سنة 2012. واستقطبت حركة «الرجعية الجديدة» مؤيدين ضمن أبرز الأثرياء من أرباب شركات قطاع التكنولوجيا في وادي السيليكون، على رأسهم إيلون ماسك (Elon Musk) ومارك أندريسن(Marc Andreessen). وهؤلاء يسعون بخطى حثيثة إلى إبعاد الولاياتالمتحدةالأمريكية عن الديمقراطية وتحويلها إلى دكتاتورية يقودها خبراء التكنولوجيا. ويَشْغَل مارك أندريسن حاليا منصب مستشار للرئيس دونالد ترامب، ويُعتبر من أشد المعارضين لسياسة التنوع والمساواة والإدماج التي تتبعها الجامعات لصالح بعض الفئات المهمشة في المجتمع ، ويقود حملة ضد الجامعات بسبب ذلك. ويُعتبر كورتس يارفين ضمن المؤثرين الفكريين المهمين في الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، وصارت حركة «الرجعية الجديدة» حاضرة في النقاش السياسي الذي يحيط بالإدارة الأمريكية بعد أن كانت تعتبر حركة هامشية. ودعم بيتر ثيل المرشح دونالد ترامب في حملة الانتخابات الرئاسية سنة 2016. ويُعتبر داعما رئيسيا لجيمس فانس (J.D. Vance) – نائب الرئيس دونالد ترامب – في مساره السياسي. وقد دعمه في حملته الانتخابية لعضوية مجلس الشيوخ، كما أنه هو من قدمه لدونالد ترامب. وكان جيمس فانس يشتغل موظفا في شركة بيتر ثيل. ويتبنى جيمس فانس أفكار حركة «الرجعية الجديدة» حتى قبل أن يصبح نائبا للرئيس ترامب. ففي ظهور له عام 2021 على بودكاست يميني متطرف، استشهد بكورتس يارفين ونظرته للوضع القائم وقال: «على المرء أن يقتنع أن كل شيء على وشك الانهيار،» مضيفا أن «مهمة المحافظين الآن هي الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأشياء، ثم عندما يأتي الانهيار الحتمي، فإنك تقوم بإعادة بناء البلاد بطريقة أفضل بالفعل.» وفي تصريح لمجلة «فانيتي فير» (Vanity Fair) سنة 2022، يقول جيمس فانس: «أعتقد أن علينا الاستيلاء على مؤسسات اليسار وتحويلها ضده. نحن بحاجة إلى ما يشبه برنامج اجتثاث حزب البعث في العراق، من أجل اجتثاث حركة اليقظة (Woke).» وتنقل صحيفة الغارديان في شهر غشت 2024 عن جيمس فانس قوله: «لا سبيل للمحافظين لتحقيق رؤيتنا للمجتمع إلا إذا كنا على استعداد لضرب قلب الوحش، ألا وهو الجامعات.» واعترافا بالجميل الذي أسداه بيتر ثيل، وقع الرئيس دونالد ترامب في شهر مارس 2025 أمرا تنفيذيا يلزم جميع وكالات ودوائر الحكومة الفيدرالية بمشاركة بيانات الأمريكيين. ولإنجاز هذه المهمة، اختار ترامب شركة «بالانتير تكنولوجيز » (Palantir Technologies) التي أسسها بيتر ثيل ولا يزال يملك حصة كبيرة فيها، وكان لإلون ماسك دورا مؤثرا في هذا الاختيار. وتبيع شركة بلانتير منصة قائمة على الذكاء الاصطناعي تمكن مستخدميها – ومن بينهم جهات عسكرية ووكالات إنفاذ القانون – من تحليل البيانات الشخصية، بما في ذلك حسابات مواقع التواصل الاجتماعي والمعلومات الشخصية والخصائص الجسدية. وتُستخدم هذه البيانات لتحديد هوية الأفراد ومراقبتهم. يرى أنصار الديمقراطية الليبرالية أن الحرية والعدالة ليستا رفاهية، بل هما شرطان أساسيان لمجتمع جيد. وقد استشعروا الخطر الذي تمثله حركة «الأنوار المظلمة» بعد أن صار لأفكار منظريها أنصار في أعلى مناصب السلطة في الإدارة الأمريكية يسعون لتطبيقها. ويؤكد أنصار الديمقراطية أنهم يدافعون عنها ليس على أسس أداتية عملية بحتة، ولا يَدَّعون أنها فعالة دائما، أو أنها تنتج دائما أفضل النتائج، وإنما يدافعون عنها لأنها تستند إلى مبدأ أساسي يعتبر بديهية مفادها أن «جميع الناس يمتلكون قيمة أخلاقية متساوية، وبالتالي لا يملك أحد الحق الطبيعي في الحكم على شخص آخر دون موافقته.» هذه البديهية هي أساس الشرعية، فبدونها يصبح الحكم هيمنة، سواءً مارسه الملوك أو الخوارزميات أو مدراء الشركات. إن السلطة التي تُمارس دون موافقة ودون مساواة تعتبر استبدادا، مهما بدت خيرية أو فعالة. إن جميع أنظمة الحكم تشوبها العيوب. والديمقراطية ليست استثناء. لكنها نظام يحتوي في طياته أدوات التصحيح الذاتي، والتجديد الأخلاقي، والإنصاف السلمي لمن تعرض للظلم. إنه نظام يقر بأن قابلية الخطأ متأصلة في الطبيعة البشرية، ولذلك يرسي في بنيته دعائم ضمانات مثل الحوار، والتدقيق، والحقوق، والمعارضة. يشبه أنصار الليبرالية انتشار فكر «الأنوار المظلمة» بغَزْوٍ فيروسي من طرف الفلسفة المناهضة لليبرالية يستهدف «جهاز المناعة الليبرالي». ويعتبرونه بمثابة فيروس خبيث كان كامنا لعقود في دوائر الفلاسفة وكتبهم غير المقروءة. والآن، وقد انتشر بين البشر، فهو بمثابة ضربة قاصمة لجهاز المناعة الليبرالي. ويرون أن هذا ليس سيئا تماما. ففي غياب أي معارضة، تضاءلت دفاعات الليبرالية، ونسي الليبراليون، مؤقتا، لماذا تستحق قضيتهم الدفاع عنها. والآن بدأت الأجسام المُضادة تنشط. أتساءل ما إذا كانت «الأجسام المضادة» المحفزة لليبرالية قادرة بمفردها على القيام بالمهمة المناعية المتمثلة في تحييد هذا الفيروس. لا تبدو المهمة سهلة، لأنها تتطلب بداية أن يواجه الليبراليون المخلصون أدعياءَ الليبرالية الذين لا يتورعون عن مساندة جيش ينفذ إبادة جماعية تبث فظاعاتها على الهواء مباشرة.