أتأمّل نص القرار 255/25 الذي أصدرته المحكمة الدستورية في المغرب يوم الرابع من الشهر الجاري بعدم إقرار أكثر من 30 من بنود قانون المسطرة المدنية رقم 23.02 بسبب تعارضها مع بنود الدستور. وأقف مليّا عند الاعتبارات التي اعتدت بها المحكمة عند إلغاء تلك المواد، لكونها تنتهك مبادئ دستورية جوهرية، وفي مقدمتها الأمن القضائي، وحق الدفاع، واستقلال السلطة القضائية. يسهل تعقب المتاهات التي سارت فيها وزارة العدل على غير هداية، ويسهل معرفة ما كان يهيمن على تفكير المسؤولين على تحضير قانون المسطرة المدنية وحشد التأييد له داخل البرلمان لضمان الأغلبية للتصويت بإقراره. وتحضر ثلاث مفارقات مثيرة عند تقاطع المشاهد المتنافرة: ما تحمست له الوزارة، وما ألغته المحكمة الدستورية، وفي المحصّلة النهائية ما يتبيّن أنه تجاوز "ألمعية" الوزير و"نباهة" أغلبية أعضاء البرلمان الذين أيدوه خلال أكثر من عام من التشاور والتنسيق والصياغة والتصويت: * أولا، القانون الجديد لم يُراعِ ثلاثة أمور محورية: الأمن القضائي، وحق الدفاع، واستقلال السلطة القضائية، وهي انجرافات تعكس البنية الذهنية التي سعت لتكريس أكبر مستوى ممكن من البنيوية وصلاحيات النيابة العامة ومن خلفها الحكومة. * ثانيا، تهافت التهافت أو معضلة التفكير الجماعي المتطابق Groupthink بين مسؤولي وزارة العدل وأعضاء أحزاب الأغلبية الحكومية الذين تشبعوا بفكرة أنها كانوا يستندون إلى ثقة متخيلة بأن مغرب 2025 سيتبنى قانون المسطرة المدنية بسلاسة بحكم أن "لا اجتهاد فوق اجتهادهم". وتشبع وزير العدل بوجود إسناد سياسي وحزبي وتشريعي متكامل لمرور القانون دون اعتراضات. * ثالثا، المفارقة الأهم هي بشأن مستوى الفقه القانوني الذي يتمتع به وزير العدل ومساعدوه، ومدى التقارب أو التباعد بين الصيغة التي جزم أنها "الأفضل" والصيغة التي اعترضت عليها المحكمة الدستورية بما تجاوز 30 مادة قانونية. وتحضرني الآن مقولة تبنيتها منذ حوالي عشرين عاما: "حيثما التقى محترفان في مجال ما، تختفي الاختلافات وتتوافق المقاسات. وإذا التقى الاحتراف وعدم الاحتراف، فانتظر الساعة..!" يثير مقياس الاحتراف في تحضير مشاريع القوانين وسنّها أكثر من سؤال عن الكفاءة الوزارية والكفاءة التشريعية خاصة عند التحضير والتصديق على قانون محوري. وهناك فرق بين أن يكون المسؤول الأول فقيها متمرسا في القانون من ذوي الحصافة العلمية وبعد النظر العملي أو مجرد تقني مرافعات في المحاكم التجارية أو المدنية أو الجنائية. ولا يمكن أن تتفتق قريحة محام فجأة لتستوعب شتى الفروق والظلال المتشابهة في ظاهرها بين تكريس السلطة وتأكيد الحرية، وبين توسيع صلاحيات القضاة على حساب تقليص حقوق المتهمين، وبين التحمس لتعميق صولة الدولة وعدم الاكتراث بفلسفة القانون وحماية المجتمع. لم يتقوّ استقلال القضاء وحصانته التشريعية والتنفيذية في الدول المتقدمة مثل فرنساوبريطانياوالولاياتالمتحدة إلا بوجود وزراء عدل وأعضاء لجان قانونية في البرلمانات من ذوي الإدراك القانوني العميق والمسؤولية القيمية الراسخة للعدالة. ولا يزال الفرنسيون يتذكرون روبير بادينتر Robert Badinter الذي يعود إليه الفضل في إلغاء عقوبة الإعدام عام 1981. وأدخل كذلك عدة إصلاحات لتحسين ظروف معيشة السجناء، مثل تركيب أجهزة تلفزيون في الزنازين وإغلاق أكشاك الزيارة. ولمكافحة الانحراف، وتخفيف اكتظاظ السجون. في بريطانيا، جادل الفيلسوف والفقيه القانوني جيرمي بينتام بأنه ينبغي تقييم القوانين بناءً على نتائجها، وتحديدًا، تحقيق أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الأفراد. وفي مؤلفاته ومنها "مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع"، دعا إلى تبني قوانين مُقننة وعقلانية خالية من المفاهيم الميتافيزيقية للحقوق الطبيعية. حفزت نظرياته إصلاحات قانونية في جميع أنحاء أوروبا، وألهمت مفكرين وضعيين لاحقين مثل جون أوستن وإتش إل إيه هارت. كان رونالد دوركين شخصيةً محوريةً في الفلسفة القانونية في القرن العشرين، متحديًا الرؤى الوضعية بنظريته عن القانون باعتباره نزاهة. في كتابيه "أخذ الحقوق على محمل الجد" و"إمبراطورية القانون"، فجادل بأن التفسير القانوني يجب أن يتضمن التفكير الأخلاقي، مؤكدًا أن الحقوق سابقةٌ للسياسة، وأن على القضاة تفسير القانون وفقًا لمبادئ العدالة والإنصاف. كان تأثيره عميقًا في التفسير الدستوري، حيث شكلت أفكاره نقاشاتٍ حول الأصالة، والتحكيم القائم على الحقوق، والمسؤوليات الأخلاقية للقضاة. في الولاياتالمتحدة، لا تزال سمعة روبرت كيندي الذي تولى وزارة العدل خلال رئاسة شقيقة جون إف كنيدي في بداية الستينات تنال التقدير والاحترام لدوره القيادي في المعارك الأولى لإلغاء الفصل العنصري في الجنوب، ومكافحة الجريمة المنظمة. ولهذا السبب، سُمّي مقر وزارة العدل باسمه. يعتز الأمريكيون أيضا بتركة وزير عدل آخر هو إدوارد ليفي في عهد الرئيس فورد، ويُعتبر نموذجًا يُحتذى به لوزير العدل المعاصر، ويُنسب إليه الفضل في إعادة إحياء منصبه بعد فضيحة ووترغيت. من مشاهير الحصافة القانونية على رأس وزارة العدل الأمريكية أيضا هومر ستيل كامينغز في عهد الرئيس روزفلت، وقد أحدث نقلة نوعية في وزارة العدل من خلال وضع قواعد موحدة للممارسات والإجراءات في المحاكم الفيدرالية. نعود إلى حالة المغرب حيث يتخفى التخلف في عباءة التقدم، ويلتف خطاب التوشية على صريح الحقيقة. قد يسعى وزير العدل لإسقاطات مفتعلة لما كان يفكر فيها خلال مرحلة إعداد القانون والتصديق عليه بقوله: "نحن لا نخشى الرقابة الدستورية، بل نشجعها ونراها ضمانة حقيقية لدولة القانون. من يشكك في دور المحكمة الدستورية إنما يشكك في روح الديمقراطية نفسها." عبارةٌ منمّقةٌ ترتدي كسوتها من قيم فصل السلطات وروح القوانين وتطورها بين المؤسسات. ولكنّها لا تسعفه في التحلّل من دمغة ضعف الكفاءة القانونية بمنطق أن يكون وزير العدل ووزارة العدل برمتها هي المؤسسة الأكثر إخلاصًا وتمسكا بروح الدستور وبنوده. ونفس الملاحظة تنطبق على أعضاء المؤسسة التشريعية التي من المفترض أن يكون فيها نواب من أقوى المدافعين الدستوريين والدستورانيين ومن الدستور وإليه.