لا يختلف اثنان في عالمنا هذا المتغير بسرعة تفوق أو تكاد تفوق سرعة الضوء، حيث تهيمن فيهاالصورة على الفكرة، والمنصة على المنبر، والمحتوى السريع على العمق الفكري، ونحن لا نجزم بهذا الحكم لمجرد الانتقاد من اجل الانتقاد، بل لأن الامر تبدو لنا فيه العلاقة بين المثقف والمنصة شبيهة بذلك الزواج الذي تتداخل فيه الرغبة بالحاجة، آلى درجة قد تتنازع فيه الشرعية بين ما هو "صحيح" و"فاسد" ولعل انتقادنا هذا أو سميه آن شئت غضبا من هذه المنصات التي تطعمها في اعتقادك بمنتود جيد يأخذ منك الوقت الطويل وعلى حساب حياتك اليومية. وهذا بالضبط كثيرا ما يجعلنا ونحن حالة شرود غير مسبوق نتساءل حيارى: ما الذي يجمع إذن المثقف اليوم بالمنصة والعكس صحيح؟ ولماذا هذا الطلاق الكائن بينونة كبرة أو يكاد؟ وهل زواجهما هو زواج عقل أم زواج مصلحة؟ وهل هي علاقة متوازنة أم استغلالية؟ وهل المثقف في حضن المنصة أم تحت سلطانها؟ أمر محير معشر المثقفين لاننا لم نفكر يوما أن نصل الى هذه الحالة الكارثية؟ نعلم علم اليقين أن المثقفين دخلوا اليوم المنصات الرقمية بعد طول هجرة أو تردد، مدفوعين بوعي جديد أن العزلة لم تعد فعلا نبيلة ولا معشوقة ولا حتى عاشقة، وكما يعلمون علم اليقين أن الصوت غير المسموع لا يصنع الأثر. ولعل من جهتنا باعتبارنا من مثقفين يؤطرون بين الأصالة والمعاصرة لا يمكننا بحال من الأحلام لومهم على هذا الدخول في حد ذاته، بل كثيرا مايُحمد إذا كان من أجل نشر الفكر، وتأصيل القيم، وقيم القيم كما قال مفكرنا المهدي المنجرة رحمه الله، إلى جانب توسيع النقاش العمومي الذي كدنا أن نفقده إذا لم نكن قد فقدناه أصلا. غير أن طبيعة المنصات اليوم غدت، بقوانينها الخفية وميكانيزماتها الدعائية، تفرض علينا شروطا غير مرئية وهي أصلا شروطا لا تمت بصلة للبحث العلمي الذي طالما عشنا عشقه في المجلات الورقية التي شب عليها الشباب على الطوق، ولعل شروط هذه المنصات اليوم التي تشترطها بعض المنصات آن لم أقل جلها تشبه في طابعها شروط "الزواج الفاسد" الذي يستمر رغم غياب المودة، وتدوم صيغته ولو على حساب القيمة والكرامة. ولعل صرختنا اليوم وبالواضح، قد تغضب كثيرا من أصحاب الرواد، لكن كلمة حق يجب أن نبوح بها في زمن لم يعد النقد يقوم بوظيفته العلمية، حتى نتمكن إذا أمكن الرجوع إلى الزواج الصحيح بين المثقف والمنصات نشعر بكينونته حين تكون المنصةأداة، لا غاية؛ وسيلة حقة لتمرير الرسائل لا لصنع الأوهام. هكذا نريد بصفة قطعية أن يظل المثقف مالكا لصوته،غير خاضع لحسابات " الترند" ولا الأهواء العابرة، بل وأهواء" الجمهور السريع الغضب"، مواجها المنصة لا خوفا من ابتلاعه بشتى أنواع الفذلكات اللغوية وغير اللغوية. " أما حين السقوط في الزواج الفاسد، فينشأ حين يبيع المثقف صوته من أجل "متابعة"، أو يتنازل عن عمقه مقابل إعجاب، أو يتحول من ناقل للقيمة إلى مجرد منتج "محتوى". وكما قيل منذ زمان فآن الزواج الفاسد فغالبا ما تنتج عنه أولاد غير شرعيين: خطابات مشوهة، تواطؤ مع التفاهة، وتحوّل كثير من المثقفين إلى ما يشبه "مؤثري الفكر"، يتكلمون كثيرا ولا يقولون شيئا. ويصبح المثقف الذي كان يُرجى منه التوجيه ناقدا، هو نفسه في حاجة إلى نقد. فما أخطر أن تتحول المنصات إلى معيار للوجود، وأن يشعر المثقف أن صوته لا يُحسب إن لم يتردد صداه عبر خوارزميات لا تعرف قيمة ولا سياقا. حيث يتحول القلم إلى ميكروفون، والفكرة إلى "بوست"، والنقاش إلى سلسلة تعليقات تائهة بين الجهل والسخرية. لكن لا يجب أن نحمل المنصات كل اللوم؛ فالمنصة، كالأداة، محايدة في ذاتها. هي أشبه بالمرآة: تعكس ما يُلقى فيها. والمثقف، إذا تمسك بضميره ووعيه، يمكنه أن يحوّلها إلى منبر حرّ، وأن ينتج من داخلها علاقة "زواج صحيح"، عنوانها الصدق والنفع، لا المصلحة والمظاهر. فالمثقف الحقيقي لا ينخدع بالتصفيق الزائف، ولا يستبدل المجد الرقمي بالصدق الفكري. يعرف أن للزواج الصحيح شروطا: وضوح النية، واستقلالية القرار، ونظافة الكلمة. ويعرف أن المنصة لا تصنع منه مثقفا، بل هو من يمنحها المعنى والمقام. ولعل سؤالها الآني والنابع من اللحظة هو: هل يستطيع المثقف أن يُقيم علاقة متوازنة مع هذه المنصات دون أن يُبتلع؟ وهل يستطيع أن يحافظ على "طهارة الفكرة" وسط "ضجيج السوق الرقمي"؟ الجواب يظل معلقا على إرادة المثقف ذاته، وعلى وعيه بأن الكلمة تظل مسؤولة، حتى في الفضاءات العابر.