عفو ملكي على 591 شخصا بمناسبة "عيد الشباب"    بلال الخنوس قريب من الانتقال إلى كريستال بالاس في صفقة كبيرة    توقيف جانح قاصر حاول السرقة من محل تجاري تحت التهديد باستخدام طرد متفجر وهمي    إلغاء مباريات ولوج الماستر واعتماد انتقاء الملفات    ضربة قوية لتجار السموم.. أمن أكادير يحجز 7960 قرصا مهلوسا وكوكايين ويوقف شخصين    مخيمات الطفولة في قفص الاتهام : جريمة صادمة تعيد النقاش حول المراقبة والتأطير    "أورار" يحتفي بالأعياد والجالية بالناظور    محمد السادس.. ملك الإصلاحات الهادئة    دلالات عيد الشباب    الجسر الإنساني المغربي.. التزام ملكي راسخ    إسرائيل تعلن اتخاذ الخطوات الأولى في العملية العسكرية بمدينة غزة    مطلوب من الأنتربول.. أجهزة الأمن المغربية تعتقل دنماركي من أصول فلسطينية    طائرات مغربية تشارك في إخماد الحرائق بإسبانيا    خبير قانوني دولي: مساعدات الملك محمد السادس لغزة تجسد تضامن المغرب الدائم مع الفلسطينيين    مدينة تمارة تحتضن أضخم حدث فني هذا الصيف    الخميس تحت الشمس والغيوم.. حرارة مرتفعة وأمطار متفرقة    الأمم المتحدة تشيد ب"كرم" الملك محمد السادس على إثر المساعدات الإنسانية إلى غزة    قمة "تيكاد 9".. المغرب يعزز موقعه الاستراتيجي والجزائر تواجه عزلة دبلوماسية متزايدة    الرابور مورو يحيي حفل ضخم بالبيضاء بشبابيك مغلقة    تعيين سيدي معاد شيخًا للطريقة البودشيشية: إرادة مولوية سامية ورؤية ربانية    سامويل ولُولي... حين قادهم الطريق إلى بيت الجار    إطلاق ميزة الدبلجة الصوتية بالذكاء الاصطناعي في "فيسبوك" و"إنستغرام"        الملك يهنئ هنغاريا بالعيد الوطني    إيران تهدد باستخدام صواريخ جديدة    تحقيق بفرنسا إثر وفاة مدوّن فيديو    حجز عجول بميناء طنجة .. ومستوردون يوقفون الاستيراد بسبب الرسوم    أوروبا تسجل رقماً قياسياً في إصابات الأمراض المنقولة عن طريق البعوض        المغرب يبدأ تطبيق العقوبات البديلة بقيادة قضائية مشددة        مقاولات المغرب الصغرى والمتوسطة "تحت رحمة" الأزمة: 90% منها لا تجد تمويلا بنكيا    دراسة: أجهزة السمع تقلل خطر الخرف لدى كبار السن بنسبة تفوق 60%    تقرير: ثلث شباب المغرب عاطلون والقطاع غير المهيكل يبتلع فرص الشغل    مدرب تنزانيا: مواجهة المغرب في الشان مهمة معقدة أمام خصم يملك خبرة كبيرة    شباب الريف الحسيمي يواصل تعزيز صفوفه بتعاقدات جديدة    إطلاق فيديو كليب "رمشا الكحولي" بتوقيع المخرج علي رشاد        للمرة الثالثة: الموقف الياباني من البوليساريو يصفع الجزائر وصنيعتها.. دلالات استراتيجية وانتصار دبلوماسي جديد للمغرب        أمين عدلي ينتقل إلى الدوري الإنجليزي في صفقة ضخمة    تخليق الحياة السياسية في المغرب: مطمح ملكي وحلم شعبي نحو مغرب جديد.    إيزاك يخرج عن صمته: "فقدت الثقة بنيوكاسل ولا يمكن للعلاقة أن تستمر"    تمهيدا لتشغيل الميناء.. إطلاق دراسة لاستشراف احتياجات السكن في الناظور والدريوش    مبابي يقود ريال مدريد لتحقيق أول انتصار في الموسم الجديد    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفن المعاصر بمدينة ميدلت    حجز 14 طنا من البطاطس بتطوان قبل توجيهها للبيع لانعدام شروط النظافة والسلامة    البطولة الإحترافية 2025/2026: المرشحون والوجوه الجديدة ومباريات الجولة الأولى في إعلان MelBet    بدر لحريزي يفوز بمنصب ممثل كرة القدم النسوية في عصبة الرباط سلا القنيطرة    المركز الفرنسي للسينما يكرّم المخرجة المغربية جنيني ضمن سلسلة "الرائدات"    وزارة الصحة تطلق صفقة ضخمة تتجاوز 100 مليون درهم لتعزيز قدرات التشخيص الوبائي    دراسة: المعمرون فوق المئة أقل عرضة للإصابة بالأمراض المتعددة    خبيرة أمريكية تكشف مدة النوم الضرورية للأطفال للتركيز والتفوق    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزاوية البودشيشية من الروحانية إلى السلطة الرمزية
نشر في لكم يوم 20 - 08 - 2025


1. المقدمة
تُعد الزوايا الصوفية جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي والاجتماعي والديني للمغرب. لم تكن هذه المؤسسات مجرد فضاءات للعبادة والذكر، بل لعبت أدوارًا محورية في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية للمملكة على مر العصور. فمنذ نشأتها، قدمت الزوايا ملاذًا روحيًا، ومراكز للتعليم، ومحاضن للفقراء والمحتاجين، بل وكانت في كثير من الأحيان قلاعًا للمقاومة ضد الغزاة الأجانب وسندًا للشعب في مواجهة تغول السلطة المركزية.
غير أن المشهد الصوفي في المغرب شهد تحولات عميقة في العصر الحديث، حيث انتقلت بعض الزوايا، وفي مقدمتها الزاوية البودشيشية، من التركيز الحصري على التربية الروحية والزهد إلى اكتساب نفوذ رمزي وسياسي واجتماعي واسع. هذا التحول أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة هذه المؤسسات ودورها في المجتمع المعاصر، خاصة مع تزايد ارتباطها بالنخب السياسية والاقتصادية والأمنية.
تتناول هذه الدراسة الأكاديمية بالتحليل والتمحيص ظاهرة تحول الزاوية البودشيشية من مؤسسة ذات طابع روحاني بحت إلى كيان يمتلك سلطة رمزية ونفوذًا يتجاوز المجال الديني ليشمل الحقل السياسي والاجتماعي. تسعى الدراسة إلى الإجابة عن الإشكالية المحورية: كيف تحولت الزاوية البودشيشية من مؤسسة روحية تقليدية إلى كيان ذي سلطة رمزية ونفوذ واسع في المشهد المغربي المعاصر؟ وما هي العوامل التي أسهمت في هذا التحول؟ وما هي تداعياته على علاقة الزاوية بالدولة والمجتمع؟
لتحقيق أهدافها، تعتمد هذه الدراسة على منهج تحليلي مقارن، يستعرض الدور التاريخي للزوايا التقليدية في المغرب، ثم ينتقل إلى دراسة حالة الزاوية البودشيشية، محللاً نشأتها، تطورها، والتحولات البنيوية والفكرية التي طرأت عليها. كما تركز الدراسة على العلاقة الجدلية بين الزاوية البودشيشية والدولة المغربية، وكيف تم توظيف هذه العلاقة لخدمة مصالح متبادلة. تعتمد الدراسة على مصادر أكاديمية، ومقالات صحفية، ووثائق تاريخية لتقديم تحليل شامل ومتوازن لهذه الظاهرة المعقدة.
2. الزوايا التقليدية في المغرب: الدور التاريخي والاجتماعي والسياسي
تُمثل الزوايا جزءًا أصيلًا من تاريخ المغرب العريق، حيث نشأت وتطورت ككيانات دينية واجتماعية وسياسية مؤثرة منذ القرون الوسطى. لم تكن هذه المؤسسات مجرد أماكن للعبادة والذكر الصوفي، بل كانت بمثابة مراكز متعددة الوظائف، تلبي احتياجات المجتمع الروحية والتعليمية والاجتماعية، بل وتتدخل في الشؤون السياسية في أحيان كثيرة.
نشأة الزوايا ووظائفها الكلاسيكية:
ظهرت الزوايا في المغرب بعد القرن الخامس الهجري، وتحديداً في فترة ضعف السلطة المركزية، مما أتاح لها فرصة لملء الفراغ الذي خلفه هذا الضعف. كانت وظائفها الكلاسيكية تتسم بالتنوع والشمولية:
التربية الروحية والذكر: كانت الوظيفة الأساسية للزوايا هي نشر التصوف وتعليم المريدين مبادئ السلوك الروحي، والزهد، والتقرب إلى الله من خلال الأذكار والأوراد الخاصة بكل طريقة. كانت هذه الفضاءات بمثابة مدارس لتهذيب النفوس وتزكيتها.
التعليم ونشر العلم: لم تقتصر الزوايا على التعليم الديني فحسب، بل كانت مراكز لنشر العلوم الشرعية واللغوية، وحتى بعض العلوم الدنيوية. وقد خرّجت العديد من العلماء والفقهاء الذين أسهموا في إثراء الحياة الفكرية في المغرب. كانت الكتاتيب القرآنية ملحقة بالزوايا، وتوفر التعليم الأساسي للأطفال.
الإغاثة والمساعدة الاجتماعية: لعبت الزوايا دورًا حيويًا في رعاية الفقراء والمساكين وعابري السبيل. كانت بمثابة ملاجئ ومطاعم تقدم الطعام والمأوى للمحتاجين، وتعمل على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. كما كانت تتدخل في حل النزاعات والخلافات بين القبائل والأفراد، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي.
المقاومة والجهاد: في فترات الاحتلال الأجنبي أو ضعف السلطة المركزية، تحولت بعض الزوايا إلى قلاع للمقاومة والجهاد ضد الغزاة. قاد شيوخ الزوايا حركات مقاومة مسلحة، وعبأوا القبائل للدفاع عن الأرض والدين، مستفيدين من نفوذهم الروحي وشبكة مريديهم الواسعة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الزاوية الدلائية والزاوية الوزانية ، التي كان لها دور بارز في مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني.
علاقة الزوايا التقليدية بالمخزن (السلطة المركزية):
تراوحت علاقة الزوايا بالسلطة المركزية (المخزن) بين التعاون والمواجهة. في بعض الفترات، كانت الزوايا حليفًا قويًا للمخزن، تدعم شرعيته وتساعده في بسط نفوذه على المناطق النائية والقبائل. وفي المقابل، كان المخزن يقدم الدعم المادي والمعنوي للزوايا، ويعترف بمكانة شيوخها. إلا أن هذه العلاقة لم تكن دائمًا سلسة، ففي فترات أخرى، كانت الزوايا تمثل تحديًا لسلطة المخزن، خاصة عندما كانت تكتسب نفوذًا كبيرًا وتتحول إلى قوى سياسية مستقلة. وقد شهد التاريخ المغربي صراعات عديدة بين الزوايا والمخزن، انتهت في بعض الأحيان بانتصار أحد الطرفين أو بتسوية توازن القوى.
أمثلة على الزوايا التقليدية ودورها:
الزاوية الدلائية: تُعد من أقوى الزوايا التي كان لها تأثير سياسي وعلمي كبير في المغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. قادت حركة مقاومة ضد الاحتلال، وأسست دولة مستقلة لفترة من الزمن، وكانت مركزًا علميًا وثقافيًا بارزًا.
الزاوية الوزانية: لعبت دورًا مهمًا في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، وكانت لها علاقات قوية مع السلاطين العلويين. اشتهرت بدورها في الوساطة وحل النزاعات، وامتلكت نفوذًا روحيًا واجتماعيًا واسعًا..
لقد كانت الزوايا التقليدية، بفضل أدوارها المتعددة، ركيزة أساسية في بناء المجتمع المغربي والحفاظ على هويته، وكانت تمثل صوت الشعب في مواجهة الظلم، وملاذًا للضعفاء، ومحركًا للتغيير في أحيان كثيرة.
3. الزاوية البودشيشية: النشأة والتطور
تُعد الزاوية القادرية البودشيشية إحدى أبرز الطرق الصوفية في المغرب المعاصر، وقد اكتسبت شهرة واسعة وتأثيرًا كبيرًا في العقود الأخيرة. تعود جذور هذه الزاوية إلى القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى قرية مداغ بإقليم بركان شرق المغرب، في منطقة قبائل بني يزناسن. تنتسب الزاوية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، مؤسس الطريقة القادرية، وهي من أقدم الطرق الصوفية وأكثرها انتشارًا في العالم الإسلامي.
لمحة تاريخية عن الزاوية البودشيشية (القرن التاسع عشر):
بدأت الزاوية البودشيشية مسيرتها كطريقة صوفية بسيطة تركز على السلوك الروحي والذكر، بعيدًا عن الأضواء والشهرة. اكتسبت الزاوية اسمها
من لقب "البودشيشية" نسبة إلى أحد شيوخها الأوائل، سيدي علي بن محمد، الذي كان يُعرف بإطعامه الناس "الدشيشة" (أكلة شعبية بسيطة) خلال فترات المجاعة، مما يعكس روح التكافل والعطاء التي ميزت الزاوية في بداياتها.
شيوخ الزاوية وأثرهم في تطورها:
توالى على مشيخة الزاوية البودشيشية عدد من الشيوخ الذين أسهموا في تطورها وانتشارها. من أبرز هؤلاء الشيوخ:
الشيخ المختار القادري البودشيشي: اشتهر بمقاومته للاحتلال الفرنسي في بداية القرن العشرين، مما أكسب الزاوية احترامًا ومكانة في أوساط القبائل المغربية. وقد تعرضت الزاوية للتخريب والشيخ للاعتقال بسبب دوره في المقاومة.
الشيخ العباس القادري البودشيشي: تولى المشيخة بعد وفاة الشيخ أبو مدين القادري البودشيشي عام 1955. في عهده، شهدت الطريقة انتشارًا ملحوظًا، وبدأ نجمها في الصعود.
الشيخ حمزة القادري البودشيشي: تزعم الطريقة عام 1972 بعد وفاة والده الشيخ العباس. يُعتبر الشيخ حمزة من أبرز الشخصيات التي أسهمت في تحديث الزاوية وتوسيع نفوذها. عمل على تجديد الخطاب الصوفي بما يتناسب مع متطلبات العصر، وركز على التربية الروحية للمريدين، مع التأكيد على قيم التيسير والتحبيب بدلاً من التشديد والتنفير. في عهده، تحولت الزاوية إلى مركز جذب للعديد من المريدين من مختلف الطبقات الاجتماعية، بمن فيهم النخب والمثقفون.
الأسس الفكرية والتربوية للزاوية البودشيشية:
تعتمد الزاوية البودشيشية في منهجها التربوي على عدة أسس فكرية وروحية، أهمها:
محورية الشيخ: تؤمن الطريقة بأهمية وجود شيخ مربي كامل، يكون بمثابة مرآة للمريد يرى فيها عيوب نفسه، ويوجهه نحو تزكية النفس والتقرب إلى الله. يعتبر الشيخ هو حلقة الوصل بين المريد والحقيقة الإلهية.
الذكر والأوراد: يُعد الذكر من أهم الممارسات الروحية في الزاوية، حيث يلتزم المريدون بأوراد وأذكار خاصة، يعتقدون أنها مأذونة من الله ورسوله عبر سلسلة الشيوخ. هذه الأذكار تهدف إلى تطهير القلب وتزكية النفس.
التحلي قبل التخلي: يركز منهج الزاوية على مبدأ "التحلي قبل التخلي"، أي تذوق حلاوة الإيمان والعبادة أولاً، مما يدفع المريد تلقائيًا إلى التخلي عن المعاصي والقبائح. هذا المنهج يهدف إلى جعل السلوك الروحي تجربة ذوقية ومعيشة، وليس مجرد تقليد أو تخمين.
إصلاح القلب: يُعتبر إصلاح القلب الركن الأساسي في المنهاج التربوي للزاوية. فالقلب هو مركز الإيمان، وبصلاحه تصلح الجوارح كلها. تركز الزاوية على معالجة أمراض القلب وتوجيهه نحو الله عز وجل.
تتميز الزاوية البودشيشية بتنظيمها المحكم وانضباطها، وبقدرتها على استقطاب أعداد كبيرة من المريدين، وتنظيم لقاءات سنوية كبرى تجمع الآلاف منهم، خاصة في ليلة القدر وذكرى المولد النبوي الشريف. ورغم تأكيدها على البعد الروحي وعدم التدخل في السياسة، إلا أن انتشارها الواسع وتأثيرها على شرائح مختلفة من المجتمع جعلها محط أنظار العديد من الباحثين والمراقبين، خاصة فيما يتعلق بعلاقتها بالسلطة والمجتمع.
4. تحولات الزاوية البودشيشية: من الروحانية إلى السلطة الرمزية
شهدت الزاوية البودشيشية، على غرار العديد من الطرق الصوفية في المغرب، تحولات عميقة في العقود الأخيرة، نقلتها من مجرد فضاء للتربية الروحية والذكر إلى كيان ذي تأثير رمزي وسياسي واجتماعي واسع. هذه التحولات لم تكن وليدة الصدفة، بل هي نتاج تفاعل عوامل داخلية وخارجية، أسهمت في إعادة تشكيل دور الزاوية ومكانتها في المشهد المغربي المعاصر.
التحول البنيوي: من فضاء للذكر إلى ملتقى للنخب:
في بداياتها، كانت الزاوية البودشيشية تركز بشكل أساسي على الجانب الروحي، وتجذب المريدين الباحثين عن تزكية النفس والتقرب إلى الله. ومع مرور الوقت، خاصة في عهد الشيخ حمزة القادري البودشيشي، بدأت الزاوية تستقطب شرائح اجتماعية أوسع، بما في ذلك النخب السياسية، ورجال الأعمال، والمسؤولين الأمنيين، والإعلاميين، والشخصيات النافذة. تحولت الزاوية بذلك إلى ما يشبه ملتقى للنخب، حيث تتداخل الأبعاد الروحية مع المصالح الدنيوية.
هذا التحول البنيوي انعكس في طبيعة اللقاءات والأنشطة التي تنظمها الزاوية. فبينما كانت مجالس الذكر والتربية الروحية هي السمة الغالبة في الماضي، أصبحت هذه اللقاءات اليوم تشهد حضورًا مكثفًا لشخصيات عامة، مما يضفي عليها طابعًا رسميًا وغير روحي في بعض الأحيان. هذه التجمعات، التي تُقام في أجواء روحية، تتحول ضمنيًا إلى فضاءات لتبادل المصالح وتنسيق المواقف بين الدولة ورجالها وشبكة المريدين من النخب.
تداخل الروحانية بالسياسة والمصالح:
من أبرز ملامح هذا التحول هو تداخل الروحانية بالسياسة والمصالح. ففي حين تؤكد الزاوية رسميًا على حيادها السياسي وعدم تدخلها في الشأن العام، إلا أن علاقتها الوثيقة بالنظام الحاكم، وحضور النخب السياسية في فعالياتها، يشير إلى وجود علاقة عضوية بين الطرفين. يُنظر إلى الزاوية البودشيشية في هذا السياق كأداة للتوظيف السياسي، حيث تستفيد الدولة من نفوذها الروحي لتعزيز شرعيتها واستقرارها، بينما تستفيد الزاوية من هذا الارتباط لاكتساب مكانة خاصة وحماية من السلطة.
هذا التداخل يثير تساؤلات حول مدى استقلالية الزاوية في قراراتها، وحول ما إذا كانت الروحانية لا تزال هي المحرك الأساسي لأنشطتها، أم أنها أصبحت وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية. فالعلاقة بين الزاوية والدولة ليست علاقة أحادية الجانب، بل هي علاقة تبادلية، حيث يقدم كل طرف للآخر ما يحتاجه.
من الزهد إلى الوجاهة: اكتساب النفوذ والامتيازات:
في الزوايا التقليدية، كان الزهد والتواضع والبعد عن الجاه والمال من السمات الأساسية للمريدين والشيوخ. أما في الزاوية البودشيشية الحديثة، فقد تحول الانتماء إليها إلى وسيلة لاكتساب الوجاهة الاجتماعية والنفوذ والامتيازات. فالمريد في الزاوية لم يعد مجرد باحث عن الصفاء الروحي، بل قد يجد نفسه أمام فرص عملية ومناصب لم يكن ليحلم بها خارج هذا الإطار. هذا التحول من الزهد إلى الوجاهة يعكس تغيرًا في القيم والمعايير التي تحكم العلاقة بين المريد والزاوية.
المفارقة التاريخية مقارنة بالزوايا التقليدية:
تُظهر الزاوية البودشيشية في تحولاتها مفارقة تاريخية واضحة مقارنة بالزوايا التقليدية في المغرب. فبينما كانت الزوايا القديمة ملاذًا للضعفاء، وحصنًا ضد تغول المخزن، ومحركًا للمقاومة ضد الاستعمار، فإن الزاوية البودشيشية تعيش اليوم وضعًا معكوسًا:
من المواجهة إلى التحالف مع السلطة
التحول التاريخي:
الزاوية البودشيشية لم تكن في بداياتها ذات طابع سياسي واضح، بل كانت أقرب إلى فضاء ديني وروحي، يركز على التربية الصوفية والزهد. لكن مع اتساع نفوذها الاجتماعي والروحي، أصبحت محط أنظار الدولة التي رأت فيها فاعلاً قادراً على امتصاص بعض التوترات الاجتماعية والدينية.
مرحلة الحذر والحياد:
خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان المشهد المغربي يعيش توترات سياسية (اليسار الراديكالي، السلفية الجهادية الناشئة، صراعات القصر مع المعارضة). في هذه المرحلة، كانت الزاوية البودشيشية تميل إلى الحياد السلبي، لا تصادم السلطة ولا تقترب منها كثيرًا.
مرحلة التقارب مع السلطة:
مع صعود الشيخ حمزة القادري البودشيشي (توفي 2017) توسعت الزاوية بشكل لافت، وأصبحت تستقطب آلاف المريدين من داخل المغرب وخارجه. هذا النمو الهائل جعلها رقماً صعباً في الحقل الديني. الدولة بدورها وجدت في هذا الصعود فرصة لبناء "إسلام بديل" قائم على التصوف المعتدل في مواجهة التيارات السلفية والإسلام السياسي.
التحالف الواضح:
خاصة بعد أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، تحوّل الموقف الرسمي نحو دعم متزايد للزوايا الصوفية، وعلى رأسها البودشيشية، باعتبارها خط الدفاع الروحي ضد التطرف. الزاوية البودشيشية أصبحت حاضرة بقوة في المناسبات الوطنية والدينية الرسمية، وأفرادها يشاركون في المجالس الملكية للذكر والمديح. كما أن إعلام الدولة (القنوات الرسمية) أعطاها مساحة واسعة للترويج لصورتها.
مظاهر التحالف:
1. مشاركة رموز الزاوية في الأنشطة الرسمية تحت الرعاية الملكية.
2. دعم غير مباشر في توسعة مقراتها، خصوصاً مقر مداغ (وجدة) الذي صار قبلة لآلاف الزوار.
3. التقاء خطابها مع خطاب المؤسسة الملكية حول التسامح، الوسطية، والأمن الروحي.
4. تحول بعض شيوخها إلى "سفراء دينيين" غير رسميين للمغرب في أوروبا وأفريقيا.
بذلك يمكن القول إن العلاقة بين البودشيشية والسلطة انتقلت من موقع المراقب أو الحياد إلى موقع الشريك الديني والسياسي في الحفاظ على الاستقرار، حيث توظّف الدولة "الزخم الروحي" للزاوية ضمن مشروعها لمواجهة التطرف، بينما تستفيد الزاوية من الحماية والدعم الرسمي الذي يعزز حضورها ونفوذها.
. من حماية الفقراء إلى احتضان النخب
في بداياتها، كانت الزاوية البودشيشية مثل باقي الزوايا الصوفية في المغرب، ملاذًا للفقراء والمهمشين، تؤمّن لهم الغذاء والكساء والمأوى، وتوفر فضاءً روحياً للتخفيف من قسوة الحياة اليومية. كان حضورها مرتبطًا بالبعد الإحساني والتكافلي، حيث لعبت دور "المطعم الشعبي" و"دار الضيافة الروحية".
لكن مع مرور الزمن، ولا سيما منذ سبعينيات القرن الماضي وما تلاها، بدأ التحول:
استقطاب النخب السياسية والإدارية: صار وزراء ومسؤولون كبار يترددون على الزاوية، خاصة في المناسبات الكبرى مثل "الموسم السنوي للمولد النبوي" بمداغ، حيث يُنظر إلى الحضور كإشارة ولاء للنظام وكسبٍ لرأسمال رمزي.
النخب الاقتصادية: رجال أعمال كبار وأصحاب شركات أصبحوا من بين المنتسبين للزاوية، لا طلبًا للخلوة الروحية بقدر ما هو بحث عن شبكة علاقات تفتح أمامهم قنوات مع السلطة والإدارة.
النخب الأكاديمية والثقافية: جامعيون وباحثون اختاروا التقرب من الزاوية لأهداف مختلفة، بعضها روحي وبعضها بحث عن موقع ضمن شبكة النفوذ الجديدة.
بهذا، تحولت الزاوية من فضاءٍ يُعنى ب"الفقراء والمريدين البسطاء" إلى ما يشبه "صالوناً مغلقاً للنخب"، حيث تُبنى الجسور بين رجال الدولة، رجال المال، ورجال الدين.
من روحانية مطلقة إلى شبكة مصالح
كانت الروحانية البحتة هي جوهر الزاوية في بداياتها: ذكرٌ جماعي، خلوات روحية، تربية على الزهد والتجرد من الدنيا. غير أن التحولات السياسية والاجتماعية في المغرب جعلت الزاوية البودشيشية تتجاوز هذا الطابع الروحي لتصبح جزءًا من "شبكة مصالح مركبة":
البعد السياسي: الدولة المغربية شجعت بروز الزاوية البودشيشية في وجه تيارات الإسلام السياسي، خصوصًا في فترة صعود السلفية الجهادية، باعتبارها خطابًا بديلًا يُركز على "التسامح والروحانية". وبهذا، أصبحت الزاوية أداة لتثبيت الاستقرار السياسي.
البعد الاقتصادي: من خلال شبكة رجال الأعمال المنتمين إليها، تحولت الزاوية إلى فضاء يُتيح مشاريع اقتصادية وشراكات غير مباشرة، خاصة في المناسبات الكبرى التي تستقطب آلاف الزوار، بما تحمله من حركية اقتصادية (فنادق، مطاعم، مواسم تجارية)..
إذن، انتقلت الزاوية من كونها مدرسة روحانية إلى شبكة متعددة الأبعاد، حيث تتداخل المصالح السياسية مع الاقتصادية والاجتماعية، في مفارقة تعكس التحولات التي عرفها المغرب منذ نهاية القرن العشرين.
الفقراء لم يعودوا هم الفئة المركزية في الزاوية؛ تم استبدالهم بالنخب التي ترى في الزاوية قناة نحو السلطة.
الروحانية الخالصة تراجعت لصالح مصالح سياسية واقتصادية جعلت الزاوية جزءًا من أدوات الضبط الاجتماعي والسياسي.
5. العلاقة بين الزاوية البودشيشية والدولة المغربية
تُعد العلاقة بين الزاوية البودشيشية والدولة المغربية نموذجًا معقدًا ومتشابكًا لتداخل الديني بالسياسي، حيث تتجاوز هذه العلاقة مجرد الدعم الروحي لتشمل أبعادًا استراتيجية تخدم مصالح الطرفين. ففي حين تسعى الزاوية إلى الحفاظ على مكانتها ونفوذها، تعمل الدولة على توظيف هذا النفوذ لتعزيز شرعيتها واستقرارها، خاصة في سياق المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر.
آليات التوظيف السياسي للزاوية:
تعتمد الدولة المغربية على عدة آليات لتوظيف الزاوية البودشيشية في سياستها الداخلية والخارجية، ومن أبرز هذه الآليات:
تعزيز الشرعية الدينية: تُعد الزوايا، بما فيها البودشيشية، مصدرًا مهمًا للشرعية الدينية للنظام الحاكم في المغرب، الذي يستند إلى إمارة المؤمنين. فدعم الزاوية للنظام يضفي عليه طابعًا دينيًا ويحصنه ضد الانتقادات المعارضة، خاصة تلك التي تأتي من التيارات الإسلامية الأخرى.
التحكم في المجال الديني: من خلال دعم الزاوية البودشيشية وغيرها من الطرق الصوفية المعتدلة، تسعى الدولة إلى احتواء وتوجيه المجال الديني، ومنع انتشار التيارات المتطرفة أو المعارضة. فالصوفية، بطبيعتها المسالمة والروحانية، تُعتبر حصنًا ضد التطرف الديني.
الدبلوماسية الروحية:. البعد الدبلوماسي: عبر استقطاب مريدين من أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء، أصبحت للزاوية وظيفة موازية للدبلوماسية الرسمية، حيث يقدَّم المغرب باعتباره بلد "الإسلام الصوفي المعتدل". وهذا يخدم صورة الدولة في الخارج، خصوصًا مع الاتحاد الأوروبي وإفريقيا
استقطاب النخب: يُعد حضور النخب السياسية والاقتصادية والأمنية في فعاليات الزاوية آلية لتوحيد هذه النخب حول رؤية معينة، ولتعزيز ولائها للنظام. فالزاوية توفر فضاءً غير رسمي للتواصل والتنسيق بين هذه الشرائح، مما يسهم في استقرار المشهد السياسي.
دور الزاوية في المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر:
تلعب الزاوية البودشيشية دورًا متزايد الأهمية في المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر في المغرب، يتجاوز مجرد البعد الروحي:
التأثير على الرأي العام: بفضل قاعدتها الجماهيرية الواسعة، تتمتع الزاوية بقدرة على التأثير في الرأي العام، خاصة في القضايا التي تمس الجانب الديني أو الاجتماعي. وهذا التأثير يمكن أن يُوظف لدعم سياسات معينة أو لتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.
الوساطة الاجتماعية: لا تزال الزاوية تلعب دورًا في الوساطة الاجتماعية وحل النزاعات على المستوى المحلي، مما يسهم في استقرار المجتمع وتخفيف العبء عن المؤسسات الرسمية.
العمل الخيري والاجتماعي: تستمر الزاوية في تقديم خدمات خيرية واجتماعية للمحتاجين، مما يعزز شعبيتها ويجعلها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.