إن اول ما عرفت البشرية لتنظيم علاقاتها الجماعية والفردية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في مجال القانون هي مدونة "حامو ربي " (1) 1750 قبل الميلاد كقانون متكامل الأركان، وبعده كان الرومان من الأوائل في اختراع قانون فعلي منفصل عن الدين، وفي العصور القديمة كان الإنسان دائما يبحث عن أفضل القوانين لتحسين أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أجل ضمان الأمن العام والعدالة للجميع. وهكذا لما توصلت البشرية من خلال رحلتها الشاقة للبحث عن السلم والأمان والعيش الكريم تفتقت ذهنية الفلاسفة والمفكرون وعلماء السياسة الى هذا المخلوق العجيب والذي بمجرد ذكره تحضر الدولة من خلاله في كل سلطتها وحضانتها للمجتمعات لتنظم سيرها وحياتها وتحمي أرواح البشرية والأموال وتضمن الطمأنينة والسكينة في النفوس والأمان في الأبدان والأموال والأعمال. وخلال التطور البشري ونضج عضد الدولة واركانها وضعت الدساتير كقانون أسمى، من خلال ذلك بدأ الإنسان يكتسب مناعة جراء الغطاء القانوني الذي يسهر على حمايته مادام ضمن المشروعية التي يحددها الفعل القانوني وفق مقتضياته في علاقته بالدولة وفي جميع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الجماعات والأفراد والدولة والجماعات الترابية والعلاقات الخارجية بين الدول ومواطنيها بالخارج. وهكذا جاء الدستور المغربي كباقي الدساتير في الدول المتقدمة قانونيا في باب الثاني المتعلق بالحريات والحقوق في الفصول (19،20، 21…25) بمجموعة من الحقوق كالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. والحق في الحياة وحماية القانون لهذا الحق وسلامة الشخص هو واٌقربائه وحماية ممتلكاته. والقانون جاء بصفة عامة ليكون عبارة عن مظلة لحماية للفرد والجماعة داخل الدولة وخارجها من كل فعل يمس كرامته وجسده وكينونته وحريته وممتلكاته المادية والفكرية. وعليه يظل القانون مهما كان هو التعبير الوحيد عن رقي الإنسان وأن اللجوء اليه عوض القفز على مقتضياته هو الانحطاط المدني وبداية نمو الطاغية، فكل خطوة نحو تجاوز مسار القانون وحيثياته هي خطوة تؤدي حتما لهاوية سحيقة يكون الطاغية هو الذي يحل محل النظام والأمن والازدهار والإبداع، لتبدأ مرحلة ظلامية تمحى فيها كينونة الإنسان وتنزع الحريات منه واحدة تلو الأخرة كما تنزع الإسنان بدون مخدر وهي سليمة، والطاغية كما يعرفها المنجد السياسي هو " كل ما تقوم به من أجل إخضاع شعب لإرادة إحدى قطعها ،بحيث تعتبر الأفكار المسبقة وجهل ضحاياها من بين وسائلها وحساباتها ". والطغيان هو كل سلطة غير عادلة وفظة ولا تحترم القوانين. وليس هناك من أطغى سلطة من سلطة طاغية تسود بقفازات حريرية وفي خفاء مستعملة نفس الآليات والوسائل التي تستعملها العدالة. لذا يقول "طوماس جفرسون " أن الانتفاضة والعصيان يصبح واجبا لما تصير الطاغية قانونا "(2) إلا أن الواقع السياسي الحديث للأنظمة السياسة القائمة لها من الخبرات التقنية والقانونية والقوة الرادعة مما يجعل الشعوب في ظل كل تلك الوسائل المتطورة مختبرا لتحويل وعيها الى استيلاب وتعمية بصيرتها لحد اكتساب وعي مغلوط بل وبسبب كثرة وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الأخبار الزائفة تصارع الحقائق وتفرغها من صحتها ولا يلو المرء على الحقائق إلا بعد فوات الأوان وبذلك يحيا المرء بين دوامة الوهم والاستلاب يتصارع مع كائن لا يعرف راسه من رجليه. وبالتالي يحبس بين تكنولوجيا ذكية وظلام جهله الذي يزداد مع الزمن ليصير جزءا من كينونته وشخصيته التي تشكل طعما دسما لبنوك معطيات كل الضحايا الجدد لتوظيفها لتضخيم أسهمها في البورصات. إن المنظومة القانونية قبل أن تكون مدونات ومجلدات في الرفوف، فهي التزامات من كل الأطراف المكونة للشعب من خلال ممارسات يومية يترجم من خلالها الاحترام الواجب لتلك القوانين التي صادقت عليها المؤسسة التمثيلية والتي ساهموا في تشكيل مكوناتها من خلال التصويت على الهيئات الحزبية والنقابية التي تمثل توجهاتهم السياسية، آدبياتها ومواقفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالقانون بكل مستوياته التأسيسية أي الدستورية التي تمثل قمة الهرم القانوني في البلد الى أخر قانون تنظيمي ومرسوم ،بالضرورة يجب أن يستمد قوته الإلزامية أولا وقبل كل شيء من المثل الاجتماعية والمبادئ المترسخة في العقل الجمعي بحيث يشعر كل أفراد المجتمع في حالة من الوعي المترتب عن التضامن الذي يوحد هم وذلك ما "يتحول لواقع تاريخي وتلك القوة هي التي ستصبح السلطة السياسية " (3 ) ومن ثمة تأتي مرحلة تأسيس الدستور والتصويت عليه من قبل الشعب ليصير الوثيقة الأساسية التي تستمد منها باقي النصوص القانونية قوتها الإلزامية وملاءمتها لها ، كما أن الأحكام القضائية عليها أن تنحني أمام مقتضيات تلك الوثيقة التي على أساسها تسير الدولة كلها بكل مؤسساتها ، من رئيس الدولة الى برلمان والحكومة والقضاء وكل أجهزتها الإدارية ،كما أن القانون يسري على كل فرد كان أو جماعة لا فرق أمامه بين هذا وذاك ، فالكل أمامه على نفس الميزان في التطبيق والالتزام به في كل تعاملهم في الحياة اليومية سواء بعقد العقود أو الاتفاقات المبرمة بين الشركات والمؤسسات التجارية والأبناك ، طبعا كل قطاع خصص له قانون يبرز خصوصيته ويعالج نزاعاته ، فالقانون التجاري يعالج قطاع التجارة وهكذا ، ولكن كل القوانين تستمد قوتها القانونية من الدستور أولا وأخيرا. لذا كثيرا ما يتم الحديث عن دولة القانون والحق والمطالبة بها ، لأن أغلبية دول العالم المتخلف لا يجد القانون مجالات التطبيق من كل أطراف المجتمع ،ولا الحق سبيلا للتطبيق ، لأن التنظيم والالتزام به ليس من مكونات المجتمع اليومية لأن أغلبية الدول هاته كانت مستعمرة ، استجلبت القوانين واستنسختها على الدولة التي كانت مستعمرة لها ، وهذا القانون ليس نتاج عاداتهم وتقاليدهم لذا يصعب عليهم الرضوخ له ، ولأن تلك الدول الحديثة الاستقلال لم تركز في نظامها الاجتماعي والاقتصادي في التعليم والحياة اليومية على تربية المواطن كجزء مكون للنظام العام وطرف من النظام القائم بقدر ما أعتبر كعنصر منفذ بالقوة الإلزامية وتوضع قواعد يمكن التساؤل عن جدواها لأنها "لا تعذر أحدا بجهل القانون" بالرغم من أن الجهل المطبق يسري على أكثر من الأغلبية في بعض الأحيان خاصة في مجال القوانين المعقدة إن دولة القانون ليست تلك التي تطبق القانون فقط من جانب واحد بل دولة القانون هي التي مواطنوها لهم تربية على احترام القانون من إشارات المرور الى أعقد القوانين الخاصة بالقانون العقاري وتنظيماته وقانون الماء وغيرها من الترسانة القانونية التي أصبحت الدول كلها تتوفر عليها، ورغم ذلك لم تصل بعد لتكون دولة الحق والقانون، وتلك إشكالية أخرى فالحق والقانون هما كالطريق السيار كل واحد له اتجاه ، فالنص القانوني لن يكون مستوفيا لقانونيته إن لم يكن يضمن حقا من الحقوق التي ينص عليها ويتم تطبيقه بكل فعالية ودون تلكؤ. إن الطبيعة البشرية لا تنحو نحو الوئام مع بعضها البعض بقدر ما تميل الى الصراع والتناحر والتنافس، وهذا الأمر ما يزيد في تعقيد عمليات صياغة القوانين وتنفيذها ضمن منظومة تراعي كل مكونات المجتمع بالتساوي الذي يتناسب مع موازين القوى التي تشكل تلك المجموعة البشرية. لذا نجد مونتسكيو يقول : " أنه من التجارب الخالدة أن كل شخص يمتلك سلطة يسعى الى التسلط ، وحتى لا يمكن أن يفعل ذلك ، وجب من الطبيعي أن توقف السلطة السلطة التي طغت ،" (4)وهذا لن يكون ممكنا إلا في إطار فصل السلط الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، فالدول التي لا فصل فيها لهذه السلطة يصعب العمل بشفافية لفعالية القانون وبناء دولة الحق والقانون . فكما كان يفكر جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي" بكون المجتمع يتنازل للدولة عن إرادته ، (5) كذلك اليوم البرلمان الذي صوت على ممثليه في هذه المؤسسة التشريعية يفوضه قانونيا على أن يقوم مقامه بالتشريع وسن القوانين ، لذا يمكن التأكيد وفق هذا المؤلف أن التشريع تكون عملية عالية الدقة التي يمكن الوصول اليها . والقانون وكل مقتضياته ليست إلا اتفاقات على العيش المشترك واحترام الآخر وتمكين الفرد والجماعة من التعبير بحرية عن الرأي للدفع بالديموقراطية نحو سقلها أكثر والسمو بها لأبعد الحدود. أما أن تداس القواعد القانونية التي قدمت البشرية جميعها تضحيات جسام كانت تسقط فداء لسلم الاجتماعي والعيش الكريم ضمن مجتمع مطمئن على أرواحه وأمواله ، ضمن مجتمع يتبادل المصالح والخدمات في إطار منظم يسوده السلم الاجتماعي ، فتلك لحظة انتعاش الفوضى واستيقاظ الطغاة ليفعلوا ما يقوض كل بناء قانوني ، ويسود البلاد والعباد الفساد وتكثر الرشوة والظلم والاعتداءات ويحجب الرأي الحر من الظهور وإنارة العقول ، والتعبير بحرية يصير معناه الانتحار لأنه وسط منظومة الطغيان التي لا تقبل أي معارضة او انتقاد مهما كانت ومن أي جهة كانت ، لذا فالديموقراطية التي هي أساسها القانون وتطبيقه على كل الحالات التي تخالفه دون اعتبار من قام بفعل الخرق القانوني ولا مكانته الاجتماعية لا عقيدته ولا لونه العرقي .تلك الديموقراطية هي السد المانع لكل من سولت له نفسه الدوس على مجوهرات القواعد القانونية التي لا تقدر بثمن ولا يعرف قيمتها القانونية إلا من عاش في ظلامية الديكتاتورية وأنظمة الطغيان والفوضى ، فالأزمنة السياسية في تاريخ البشرية لها سجل حافل بمثل هذه الأنظمة التي تستعبد الإنسان الذي خلق حرا وتكمم فمه للنطق بالرأي المخالف او المنتقد لقرار الحاكم الذي يعتبر نفسه هو القانون ذاته ولا قانون فوقه. فهؤلاء الطغاة فردا أو مجموعة غالبا ما يقدمون أنفسهم كحل لا مناص منه للأزمة التي تجثم على البلد، وبالتالي توقف العمل بالدستور، إن هناك دستورا، وتبطل كل الأعمال والقوانين السارية المفعول لتضع محلها السلطة المطلقة غير واضحة المعالم كلما يظهر على الأرض عمليا هو القمع والتنكيل لكل من تحرك في اتجاه المطالبة بالحقوق والحريات، فالسجون مشرعة الأبواب لتلقي كل من لفقت له التهم وأقيمت لهم المحاكمات الصورية. فالأنظمة الديكتاتورية تتخذ صفات متعددة: عسكرية ، سلطوية وشمولية وغالبا ما تقوم في ظروف الأزمات الاقتصادية والسياسية وحيث يتفشى الفساد والبطالة والجهل وسواد الظلم ، اما جغرافية هذه الأنظمة الشمولية والمتسلطة فهي أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا مع بعض الاستثناءات التي لا يعتد بها كما يقول الفقهاء .وتعتبر تلك الأنظمة المطلقة قاعدة أساسية لطمس كل معالم القوانين وتطبيقها أو حتى ذكرها إعلاميا واو تعليمها في المدارس والجامعات ، بل إن الحكم الفردي هو القانون الأسمى وخطاباته تدرس بالتحليل الممل في كل مكان في المزارع والمعامل والجامعات . فالطغاة يروجون من خلال الإعلام ووسائل التواصل أيديولوجيتهم التي ما هي إلا غوغائية من أجل السيطرة على الشعب وتحويل رأيه العام الى أمور تافهة والتلاعب بالمعلومات والإكثار من الأخبار الزائفة. والقانون يصير هنا في الأنظمة المتسلطة في خبر كان، ولا وجود له على جدول أعملها، فالفردانية والفوضى والقمع هي العملة السائدة في كل القطاعات، لذا فحين يداس القانون ينتعش الطغيان. مراجع : (1) انظر مدونة حامو رابي La Déclaration d'indépendance des Etats-Unis (1776) (2) Droit constitutionnel et institutions politique (3) Par Georges bureau .premier partie L'Etat et son gouvernement (4) مونتسكيو . روح القوانين Montesquieu: esprit des lois (5) جان جاك روسو jacques rousseau : du contrat social, discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité