هناك عادات محمودة بما يكفي وأخرى سيِّئة جدا،تعمل الأولى بالتأكيد على تهذيب صاحبها بطريقة إيجابية والارتقاء به صوب مدارج العلا والرِّفعة،بينما تشكِّل الثانية في غالب الأحيان مبعثا للمشاكل ومنزلقا فوريا نحو الدَّرك الأسفل. انتمى هذا الزميل إلى حلقة الأصدقاء إبَّان سنوات الجامعة،تَعَقَّبَتِ المسكينَ ظلما بعض المشاكل الجانبية،كان في غنى عنها تماما نتيجة عادة مقرفة التصقت به التصاقا، تتمثَّل في عدم توقُّفه خلال كل آن،على حكِّ حاشية أسفل البطن تحديدا بجوار المثانة،دون أيِّ داع يذكر.حركة غير إرادية،تصاحبه مثل ظِلِّهِ. ربَّما،لن تأخذ العادة مناحيها الفظيعة،إذا كان منفردا بنفسه أو فقط باغتته الحركة بشكل عابر بغير تكرار أو إلحاح،مثلما استفاض توضيحا واستدلالا خلال كل مرَّة،حين معاتبته وتأكيده الواضح عن عدم حاجة تلك المنطقة المحرجة للحكِّ والهرش،بل فقط اعتاد الأمر منذ أن وعى وجوده. يعترف دون مواربة بأنَّ فعله غير مقبول اجتماعيا،لكنه للأسف غير قادر بتاتا على التخلُّص منه سوى في حالة بتر يديه أو قُيِّدَت خلفه مثلما تفعل الشرطة لحظة اعتقال المطارَدين والملاحَقين.غير هاتين الحالتين،يستحيل عليه التوقُّف لأنَّه سلوك أقرب إلى صنف الدَّواعي الغريزية،ثم يعضِّد تبريره عندما يجد حوله كثيرا من اللَّغط والسُّخرية المريرة،بأنَّ كل واحد من البشر تستعبده حتما سقطات من هذا القبيل : البصق،التَّفل،التجشُّؤ،فرك الأصابع،تحريك اليد أو الرجل،إخراج جهوري لغازات الأمعاء،التلصُّص،إصدار أصوات حيوانية أثناء الأكل،مصّ مرق الأصابع بعد الأكل،قضم الأظافر،إخراج مخاط الأنف..،وأثناء الزمن الحالي؛غير زمن صاحبنا موضوع هذا الحكي،يأتي في طليعة مختلف ذلك،تصفُّح الهاتف المحمول لحظة التكلُّم مع شخص أو الاستماع إلى متحدِّثٍ،بحيث أضحى سلوكا معتادا ومألوفا لدى الأغلبية لاسيما ضمن صفوف الأجيال التي ترعرعت على أدبيات المنظومة الرقمية،بينما يعكس حقيقة قِمَّة الازدراء والحقارة في نفس الآن. جملة مساوئ ممقوتة وسلوكيات مشينة،تُلَوِّثُ حضور فاعلها و تجعله مُنَفِّرا ومثيرا للاشمئزاز لأيِّ جماعة يدنو منها. مع ذلك،يبتهج هذا الصديق كثيرا بفضل نفس العادة المرفوضة،على طريقة ربّ ضارَّة نافعة،مادمت قد خَوّلت له استحقاق صفة"المناضل الجذري"،الذي أطلقه عليه تَفَكُّها ومزاحا بعض مناضلي يساريي الاتِّحاد الوطني لطلبة المغرب،داخل حرم كلية الآداب خلال تلك الفترة؛أقصد بداية التسعينات. التزم طيلة مساره الدراسي،بحضور حلقات النِّقاش والانخراط في الأجواء النقابية،أساسا المهام المادية واللوجيستيكية،مثل تكليفه بتوثيق الشِّعارات والإعلانات والأخبار الفصائل اليسارية على سبُّورة أوطم. امتلك حينها مفهوم الجذري رمزية تاريخية خاصة،ودلالة قوية داخل الساحة النضالية،وشكَّلت أدبياته الثورية داخل الساحة الجامعية امتدادا للخطِّ الإيديولوجي الذي بلورت وفعَّلت تصوُّراته على أرض الواقع،قوى اليسار التقدمي الجذري الرَّافض لخطابات وقصديات الأحزاب الرسمية الرجعية أو الإصلاحية،لكن التَّعليل هنا،مبعثه دَأَب صديقنا على حكِّ جذر مثانته أثناء أحاديثه. موقف محرج للغاية،تتبادل عيون الحاضرين التَّلميح و الإيماء،فقد اتَّجهت أغلبية الظَّنِّ نحو شروعه في اقتراف سلوك متحرِّش بإحداهنّ،ثم يزداد الوضع إحراجا،بل قد يستفحل حين ارتدائه بعض سراويل الثَّوب الكلاسيكية ذات المقاسات الضيِّقة،فتغدو زاوية المنطقة عشوائيا أشبه برأس عمود خيمة جرَّاء تواصل الهرش،مما يحيل من كل الزوايا على إمكانية انتصاب جهازه. يعمُّ الحرج،تحدث جلبة طفيفة،لاينهيها سوى تحوُّل معطيات المشهد نحو تركيز ثان،مع ذلك لاتمرّ الواقعة بردا وسلاما،لكن تتداعى خلفها تأويلات وتفسيرات أغلبها من نسج سوء الطويَّة والتقدير السريع،مادام أقرب أصدقائه يعلمون علم اليقين مدى عفوية حركته تلك وتواترها الآلي. هناك رواية كشف عنها أحد أبناء حيِّه القدامى،فقد أكَّد خلال مناسبة معيَّنة بأنَّ علَّة سلوك"المناضل الجذري"موصولة بسنوات الطفولة،بالضبط طور التَّعليم الابتدائي،حينما كان ينادي عليه السي عباس معلِّم العربية إلى السَّبُّورة العريضة قصد تشكيل النصِّ المكتوب حسب الحركات النحوية اللازمة وإعراب جلِّ كلماته بالتَّفصيل الممِلِّ،وكل خطأ أو لحن بخصوص تقدير أواخر الكلمات سيكلِّفه حتما صفعات من العيار الثقيل،ويلزمه عدم الاحتماء بيديه وضرورة تركهما ثابتتين جامدتين عند الأسفل. صحيح،أنَّ الاختبار التربوي القاسي،رسَّخ بين طيات لاوعيه هذه العادة المشينة، لكن في الوقت ذاته جعلته متمكِّنا من النحو العربي بكيفية جيِّدة،مما أهله كي يغدو مرجعية للطلبة خلال تلك الفترة وأن يحظى سريعا بلقب "سيبويه"،صدقا وليس استهزاء أو تهكُّما،مثلما جرى الشأن مع صفة"جذري".ارتقاء فعلي وتقدير مستحق،يشعره بالزَّهو ويستعيض معه عن تلك الترسُّبات المحبِطة المرتبطة باستخفاف"المناضل الجذري". يقف"سيبويه"أمام بعض الرَّاغبين في فهم مادة النحو استعدادا للامتحانات،ينطلق شرحه وإعرابه،تتحلَّق صوبه الوجوه مستحسنة توضيحه السَّلس والأيسر على الإفهام مقارنة مع طريقة أستاذ المادة الرَّسمي الذي أبدى دائما داخل المدرَّج ضعفا وارتباكا بخصوص تقديم المعلومة وترتيبها،مثلما لاحظت الأغلبية وصارت سيرته بهذا الخصوص جارية على الألسن.حينما يشتد عليه الخناق،في خضمِّ تقاطر أسئلة الطلبة،واستخلاصه من خلال نظراتهم وردود أفعالهم بكونه غير مقنع،يزيل بسرعة قناعه التربوي ثم يصرخ دائما في الوجوه ويقذف المستمعين بجملة نشاز،مختَلٍّ سياقها تماما،أمام انذهالم،لازمته كي تفرغ مجمل غضبه : -"على الأقل،أنا ذهبتُ إلى بلجيكا،وحصلت من جامعتها على دبلوم في اللغة، وأدرِّس حاليا في الجامعة المغربية،بالتالي استطعتُ وأنا المنحدر من أسرة فقيرة إنقاذ مسار حياتي والتمكُّن من وظيفة محترمة،أمّا أنتم أيها القاعدون مع القاعدين،ضحكا واستهتارا واهتماما فقط بصغائر وسفاسف الأمور !". يقلِبُ أستاذ النحو عمدا الحصص إلى تطهير نفسي متصنِّع،غير مبرَّرٍ،ثم تضيع المعرفة بين الأرجل،لكن لحسن الحظِّ ف"المناضل الجذري"هنا،من أجل حفظ ماء الوجه، ومدِّ الطلبة ببعض أسرار مفاتيح النحو،في غمرة تواصل عمليات حَكٍّ لمنطقة عضوه لافتة للاهتمام،يتمّ مع ذلك التَّغاضي عن السلوك الشاذ خلال سياق تعليمه مقارنة مع مناسبات أخرى. من يدري! ربما شكَّلت تلك الحركة سرّ إلهامه؟.