قبيل الخطاب الذي سيلقيه الملك محمد السادس أمام البرلمان، نشر شباب حركة "جيل زد" وثيقتهم المطلبية الكاملة بعنوان "ملف مطلبي لشباب المغرب: من أجل تفعيل العقد الدستوري"، في خطوة غير مسبوقة من حيث التنظيم والمنهجية. الوثيقة التي اطلع عليها موقع "لكم"، وتقع في 11 صفحة، ليست مجرد لائحة مطالب، بل بيان سياسي/اجتماعي صيغ بلغة القانون الدستوري أكثر من لغة الاحتجاج، ويكشف عن تطور نوعي في الوعي السياسي لجيلٍ وُلد في عصر الشبكات الرقمية وفقد الثقة في النخب التقليدية.
من النقاش الرقمي إلى الوثيقة المرجعية الوثيقة التي نُشرت على المنصات الرسمية للحركة تمّت صياغتها بعد نقاشات استمرت أياماً على منصة "ديسكورد"، حيث شارك المئات من الشباب في تعديلها والتصويت على فقراتها. في عالمٍ تتراجع فيه المشاركة السياسية للشباب، تمثل هذه التجربة تمريناً ديمقراطياً رقمياً يُعيد تعريف السياسة من القاعدة إلى القمة. تقول ديباجة الوثيقة: "لم نعتمد على الانطباعات أو الشعارات، بل بنينا حجتنا خطوة بخطوة بالاستناد إلى المرجعيات العليا للبلاد، من الدستور إلى الخطب الملكية والتقارير الرسمية". هذه الجملة وحدها تختصر فلسفة الوثيقة: مواجهة السلطة بأدواتها ومفرداتها. فما يميز النص أنه يستند إلى مرجعيات رسمية لا معارضة، ولا يستدعي نظريات أو شعارات خارجية، بل يقتبس مباشرة من دستور 2011، ولا سيما فصله الأول الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، والفصلين 29 و31 اللذين يضمنان الحق في التظاهر والتعليم والصحة. كما يستشهد بخطب ملكية حول "النموذج التنموي الجديد" و"مغرب الكفاءة والمساءلة"، ويستند إلى تقارير رسمية للمجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط والهيئة الوطنية للنزاهة. بهذا المعنى، فإن الوثيقة هي أشبه بمرافعة قانونية ضد عجز الدولة عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين، وفشل الحكومات المتعاقبة في الوفاء بوعودها، وهو ما يُبرز ذكاءً استراتيجياً نادراً في خطاب الحركات الاجتماعية المغربية: توظيف لغة النظام وأدواته لمساءلته. في الجزء التشخيصي، يرسم الشباب صورة دقيقة عن أزمة الثقة المتفاقمة بين المواطن والدولة، استناداً إلى معطيات رسمية، بحيث يؤكدون أن أقل من 5% من الشباب يثقون في الأحزاب، وأن نسبة البطالة في صفوفهم تجاوزت 36%. وتتحدث الوثيقة عن فشل منهجي في القطاعات الحيوية: تعليم متخلف عن حاجات سوق العمل، منظومة صحية متداعية تغطي أقل من ثلث السكان بشكل فعلي، واقتصاد "ريعي غير منتج" يخدم أقلية متمركزة في مراكز القرار والمال. لكن أهم ما في هذا التشخيص أنه لا يكتفي بالتحليل، بل يقارن بشكل صريح بين ما وعدت به الدولة في خططها التنموية، وما التزمت به الحكومات في برامجها، وما تحقق فعلياً، لتخلص الوثيقة إلى أن "الهوة بين الخطاب والواقع بلغت حدّ الانفصال". خمسة مطالب وأسلوب ترافعي جديد يمكن تنظيم أهم المطالب التي جاءت بها الوثيقة تحت عنوان كبير هو "من الحرية إلى الكرامة"، لكن بنية المطالب تنقسم إلى خمسة محاور كبرى: الحرية والمساءلة: الإفراج عن معتقلي الرأي والمحتجين السلميين. فتح تحقيق قضائي مستقل في أحداث العنف الأخيرة. ضمان الحق في التظاهر والتعبير دون ترهيب. الصحة: إصلاح جذري للمنظومة الصحية، وتفعيل التوصيات الرقابية. إدماج الصحة النفسية ضمن السياسات العمومية. مراجعة التعريفة الوطنية المرجعية لتقليص كلفة العلاج. التعليم: تفعيل قانون الإطار 51.17 بجدول زمني واضح. إصلاح المناهج لتواكب اللغات والتكنولوجيا. وضع ميثاق وطني للتعليم العالي بمشاركة الأساتذة والطلبة. الاقتصاد والتشغيل: إعادة توجيه النموذج الاقتصادي نحو الإنتاجية والعدالة الاجتماعية. تسهيل إنشاء المقاولات الشابة وتبسيط الإجراءات. مواءمة التكوين مع سوق العمل وسَنّ قانون لتشغيل الشباب. الحكامة ومحاربة الفساد: تفعيل قوانين التصريح بالممتلكات وتجريم الإثراء غير المشروع. نشر الصفقات العمومية والتعيينات الكبرى بشفافية. تقوية استقلالية القضاء والمجالس الرقابية. ويتوج الشباب ملفهم بمطلب صريح: استقالة الحكومة الحالية باعتبارها "المسؤولة دستورياً عن فشل السياسات العمومية". وكما تقول الوثيقة: "مطلبنا ليس شعاراً، بل التفعيل الديمقراطي لمبدأ دستوري: ربط المسؤولية بالمحاسبة." وعلى خلاف بيانات الغضب التي ميّزت حركات الاحتجاج السابقة، تتحدث وثيقة "جيل زد" بلغة هادئة، ولا تُخاطب الملك بوصفه الخصم، بل بوصفه صاحب السلطة الدستورية القادر على الإصلاح، ولا تهاجم المؤسسات، بل تُطالبها بتطبيق قوانينها. هذا الأسلوب الترافعي القانوني يمنحها مصداقية أمام الرأي العام، ويصعّب على السلطة تجاهلها أو اتهامها بالعدمية. كما أن استخدامها المكثف لمفاهيم مثل "التفعيل"، "المحاسبة"، "المواطنة"، "الكرامة" يعكس انتقال الاحتجاج من اللغة الأخلاقية إلى اللغة المؤسسية، ومن الغضب إلى المنهج. رسالة مزدوجة إلى الشعب والدولة أما من حيث "المرسل إليه" في لغة الخطاب، فالوثيقة موجّهة بوضوح إلى جمهورين: إلى الرأي العام: تقول إن زمن الصمت انتهى، وإن الشباب قادر على بلورة مشروع بديل. وإلى الدولة: توجّه رسالة قانونية مفادها أن الإصلاح لم يعد ترفاً بل التزاماً دستورياً. بهذا المعنى، تتحول "جيل زد" من حركة احتجاج افتراضي إلى فاعل مدني رقمي يسعى لتجديد العقد الاجتماعي على قاعدة المشاركة والمساءلة. وبالنظر إلى كل ما ورد آنفاً، فإن ما يميّز هذه الوثيقة ليس فقط مضامينها، بل طريقة إعدادها: نقاش جماعي، تصويت ديمقراطي، واعتماد كلي على مصادر رسمية. غير أن ضعف الخبرة التقنية في تقدير كلفة الإصلاحات، وغياب تصور تفصيلي لآليات التنفيذ، قد يحدّان من طاقتها التفاوضية في حال أرادت الدولة فتح حوار رسمي مع أصحابها. ومع ذلك، تبقى هذه الوثيقة أول وثيقة احتجاجية حديثة تستند إلى الدستور لا إلى الشارع، وتعبّر عن جيل يطالب بالإصلاح من داخل المنظومة لا ضدها. وبينما ينتظر المغاربة الخطاب الملكي الذي قد يتفاعل مع هذه المطالب، تبدو وثيقة "جيل زد" علامة على تحوّل أعمق في علاقة الشباب بالسياسة. ففي بلدٍ ظل فيه الشارع فضاءً للاحتجاجات الشعاراتية، خرج جيلٌ رقمي ليقدّم مطالبه بلغة الدستور، وأرقامه من تقارير الدولة نفسها. لقد وضعت الوثيقة الدولة أمام اختبار جدي لمدى استعدادها لسماع صوتٍ جديد يتحدث بلغتها وأرقامها، ولكن بضمير مختلف.