نقصد بسياسة الدين ما جاء في التراث الإسلامي في كتب الأولين من السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية أو فقه الإمارة…إلخ مما له علاقة بنظام الحكم في الإسلام. ولعل أقدم وأول مؤلف في هذا الباب هو كتاب ′′غياث الأمم في التياث الظلم′′ لإمام الحرمين أبو المعالي الجويني الذي حاول فيه وضع الأسس الأولى لفقه الإمامة. وبهذا التعريف، فنحن نتحدث هنا عن ماضي المسلمين لا حاضرهم، أي ما كان عليه الأمر خلال ما يقرب من 12 قرنا قبل أن تسقط الخلافة العثمانية نهائيا في بداية القرن العشرين. أما دين السياسة، فنعني به ما آل إليه الأمر في حاضر المسلمين من توظيف سياسي للدين بهدف الوصول إلى الحكم وتولي مقاليد السلطة في إطار ما يسمى بالدولة الحديثة. في الحالة الأولى، فنحن أمام بنية سياسية واضحة المعالم والأركان تتوزع فيها السلطات الثلاث على النحو التالي : 1 – السلطة التشريعية بيد العلماء والفقهاء. 2 – السلطة القضائية بيد القضاة. 3 – السلطة التنفيذية بيد الخليفة أو الحاكم أو السلطان أو الأمير أو ولي الأمر أو الملك…سمه ما شئت. وبتعبير جلي، كان هناك فصل حقيقي للسلط لسبب بسيط غفل عنه الكثيرون وهو أن مصدر التشريع الإسلامي أساسا من القرآن والسنة وليس من فلان أو علان من خبراء وفقهاء القانون كما هو الحال في الدولة الحديثة التي لا تتوقف برلماناتها ووزاراتها ومؤسساتها وإداراتها عن إصدار القوانين بوتيرة لا تنقطع. في الحالة الثانية، يتعلق الأمر بعملية اجتزاز للشريعة الإسلامية كما في عشب الملاعب الرياضية لتكون سطحا مستويا لا تنزلق عليه أقدام اللاعبين السياسيين من تجار الدين وسماسرة المقدس سواء من اليمين أو من اليسار. كيف؟ إذا كانت عملية انتقاء العشب الرياضي تخضع لمجموعة من المعايير الدقيقة والتي تتمحور كلها حول حرية الحركة والمناورة للاعب الرياضي فكذلك الشأن بالنسبة لبائعي الأحلام من الماضي أو من المستقبل. من الماضي، كشعار الإسلام هو الحل..أو لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها…إلى آخر ما هنالك من العبارات الفضفاضة والأفكار المعشوشبة بعشب جميل طبيعي تطؤها الأقدام وتعدو فيها الأفهام بحرية وأريحية كبيرتين لا يعيق حركتهما أو تحركهما تاريخ الزمان ولا أطلال المكان. وأول هذه المعيقات السؤال التالي : – هل يمكن تلقيم شجرة الزيتون على شجرة السنديان أو الصنوبر؟ وبالعربية تاعرابت كما يقال عندنا، ما هذا الخلط بين الشرق والغرب؟ أي ما هذا الإقحام المتعسف للإسلام كنظام حكم في جسم الدولة الحديثة؟ تاريخ هذا الكيان السياسي الحديث – الدولة – لا يتجاوز قرنين من الزمن، ومن التنظير له من قبل مجموعة من المفكرين الغربيين كجون جاك روسو وماكس فيبر وكارل شميت وآخرون…ولا علاقة له، وهذا هو المهم، بنظام الحكم في الحضارة الإسلامية لا من قريب ولا من بعيد. إنه نتاج فكر غربي وبيئة غربية وتاريخ غربي لا يمت بصلة إلى ما أنتجه العقل المسلم من أدبيات في فقه السياسة. وليس هذا تحقيرا أو انتقاصا للعقل الغربي بأي شكل من الأشكال، إنه فقط وضع للأمور في سياقاتها التاريخية الخاصة. وهذا مبدأ أكاديمي لا يختلف حوله اثنان. بائعو الأحلام من المستقبل يقفون على الطرف المقابل لنفس الإشكالية. أي تلقيم شجرة السنديان أو الصنوبر على شجرة الزيتون..والخلط بين الغرب والشرق..وإقحام هيكل الدولة الحديثة قسرا وعنوة في جسد العالم العربي الإسلامي المقسم والمنقسم..وعمليا اللعب على عشب اصطناعي مع الحرص الشديد على وضع العربة أمام الحصان! وبوضوح أكثر حسب لسان الحال والمقال، لقد آن لشجرة الزيتون أن تتحول إلى شجرة السنديان أو الصنوبر لتتأقلم بشكل أفضل مع البيئة الحارة وتثمر فاكهة استوائية لذيذة جدا ومقاومة للحشرات وللطقس الجاف! أيعقل هذا؟ ولم لا! في عصر التلقيح الإصطناعي للأشجار والإنسان..وتلاقح الحضارات..ولقاحات الأنفلونزا والسرطانات..والعشب الإصطناعي كذلك! يقول صناع الأفكار والأدوار في عالمنا. وجريا على نفس المنطق، نقول نحن أيضا لنلقي بدلونا في الموضوع..نعم..لقد أصبتم..لكن.. ما الذي يمنع الغرب مثلا من الاستفادة من علم الكلام عوضا عن متاهات الفلسفة ودروبها؟ والإعجاز العلمي في القرآن والسنة بدلا من البحث المضني في المختبرات؟ والعقيدة الأشعرية مكان العدمية والوجودية؟ والتصوف السني مكان التأمل المادي؟ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وما فيها من أفكار جليلة وبديلة عن أفكار المفكرين والمثقفين والمنظرين…الغربيين؟ وهكذا دواليك..إلى أن يلبس الغرب لباس الشرق في كل شيء. من حيث المبدأ، فهذا الإحتمال وارد جدا لكن من حيث الواقع فلا شيء من ذلك على أرض الواقع..على الأقل إلى حدود الساعة. لماذا؟ هذا هو السؤال. أو بالأحرى هذا هو الجواب. سياسة الدين من التاريخ. وتاريخ سياسة الدين هو تاريخ الدين كما كان من قبل كمصدر للسياسة وكمحدد لها نظريا وعمليا. لا كتابع للسياسة اليوم توجهه أينما تشاء وكيفما تشاء من أجل المكاسب المادية والمعنوية. وهذا هو دين السياسة الذي يتقلب معها أينما تقلبت وينقلب معها كلما اقتضت المصلحة – مصلحة تجار الدين من اليمين أو من اليسار – على بديهيات وأساسيات وأخلاقيات الدين السماوي إسلاما كان أم مسيحية أم يهودية. لنقل ذلك بصيغة أخرى.. سياسة الدين هي سياسة دين المسلمين..ودين السياسة هو دين الإسلاميين أو معارضيهم السياسيين من المسلمين.