تحوّلت زيارة سائحة إيطالية إلى مراكش إلى مأساة دامية عندما تعرضت إلى سرقة بواسطة درّاجة نارية وسط المدينة العتيقة، الحادث أدى إلى سقوطها على الأرض وارتطام رأسها بالإسفلت حيث نجت من الموت بأعجوبة، لكنها تحتفظ اليوم بذكرى موجة التضامن الهائلة التي تلت اعتداءها الوحشي. السائحة المعنية لم تكن سوى الكاتبة نيكوليتا بورتولوتي، التي دونت شهادتها على صفحتها في فيسبوك عقب عودتها إلى بلادها، تسرد فيها تجربة شخصية قاسية عاشتها خلال زيارة قصيرة إلى المغرب رفقة زوجها وعائلتها.
فبينما كانت تتأهب لرحلة سياحية إلى الصويرة، تعرّضت لهجوم عنيف في أحد أزقة مراكش أفضى إلى إصابتها إصابة بالغة، وسرقة حقيبتها التي كانت تحتوي وثائقها وهاتفها وجواز سفرها. غير أن هذه التجربة، بكل ما حملته من ألم وخوف وارتباك في المستشفى والمطار، ستتحوّل تدريجياً في وعي الكاتبة إلى لحظة اكتشاف عميق لِما تصفه ب"شبكة إنسانية مذهلة" أحاطتها بالرعاية والتضامن: من المارة الذين أسعفوها، إلى التجار وسائقي سيارات الأجرة، والممرضات، ورجال الشرطة، وصولاً إلى عائلات مغربية عرضت مساعدتها من دون مقابل. وفي هذا السرد الذي يتنقّل بين الوجع الجسدي والارتجاج النفسي، وبين التعقيدات الإدارية ومحاولات العودة إلى الوطن، تحاول الكاتبة أن تمنح روايتها معنى آخر، يتجاوز حادثة الاعتداء نفسها، لتصوغ تأملاً إنسانياً حول الضعف، والخوف، وفكرة "البيت"، وإمكانية العثور على الإلفة والعزاء في أماكن غير متوقعة. كما لا تخفي امتنانها لكل من مدّ يد المساعدة، ولا تبرّئ المعتدين، لكنها تتأمل أيضاً مصائر الشباب الذين يرتكبون أفعالاً عنيفة من دون أن يدركوا عواقبها. النص التالي، بكل تفاصيله، شهادة أولى تسجّلها الكاتبة بأسلوب شخصي وشفاف، وتنشرها في فضاء عام، محاولةً استعادة صوتها بعد أيام قاسية عاشتها بين مراكشوالدارالبيضاء. وفي ما يلي ترجمة نص الكاتبة الإيطالية: أنزع المِقْوام عن يدي اليسرى لأتمكّن من الكتابة بارتياح أكبر. ربما كان الأفضل أن أكتب باليمنى، لكنّي تركتُ الدفتر في الغرفة. كان يفترض أن تكون أربعة أيام في مراكش مع زوجي ووالدي وزوجة والدي، لنختتم خريفاً غريباً ونطوي صفحة رواية في طريقها إلى نهايتها. سافرنا يوم الأربعاء 26 نونبر، وكنّا سنعود السبت 29 نونبر، في وقت متأخر من المساء. يوم الجمعة 28 نونبر قررتُ أنا وزوجي القيام برحلة قصيرة إلى الصويرة، المدينةالبيضاء والزرقاء على الأطلسي. لكننا لم نصل إليها قط. التقينا بزوجين آخرين من السياح على الساعة الثامنة والنصف صباحاً أمام باب مكتب الرحلات، في زقاق ضيق بالمدينة العتيقة، على بُعد خمسين متراً من جامع الفنا. ما حدث رواه لي زوجي، لأنني لم أرَ سوى السواد، أو بالأحرى لوناً بنياً، ربما شعرت بألم بالغ وفقدتُ الوعي. وجدتُ نفسي أخطو بصعوبة، يسندني أحدهم (زوجي)، إلى أن جلست على كرسيّ متحرك، ثم انتهى بي المطاف في مستشفى، على سرير إسعاف، حيث ضمّدوا رأسي بشدّة فشعرتُ ببعض الراحة. لا أرى بعيني... هل فقدت بصري؟ في الواقع، قبل تلك الخطوات، كان زوجي، ومعه التجار المتواجدون في المكان ورجل مشرّد خرج من صندوقه عند ناصية الطريق ليعرض المساعدة، قد حملوني وأعادوني إلى الرياض حيث نقيم. من هناك استدعوا سيارة أجرة (لم يكن واضحاً إن كانت الإسعاف ستصل في الوقت المناسب)، فنُقلت على وجه السرعة إلى المستشفى. وقبل ذلك كله، كانت كاميرا الجزّار المقابل قد سجّلت وصول رجلين مقنّعين على درّاجة نارية بسرعة كبيرة. هجما عليّ من الخلف لانتزاع حقيبتي. انتزعوها بالفعل، وفي لحظة الاصطدام اندفعتُ بقوّة نحو الأرض، فوق رصف حجري قاسٍ، وبقيتُ ممدّدة هناك. زوجي، وقد استبدّ به الذعر، ظنّ أنني فارقت الحياة. يقلبونني على ظهري، أمتلك جرحاً في رأسي عرضه سنتان وطوله ثلاث، يظهر منه العظم، كما روى زوجي. الدم لا يتوقف، البنطال والقميص والشعر كلّها ملطّخة بالدماء. العين اليُمنى تبدو وكأنها مهشّمة (لم تكن كذلك، لحسن الحظ). في المستشفى، دفع زوجي ما يجب دفعه: التصوير بالرنين، الأشعة، المِقْوام لليد، الفحص الإشعاعي للكتف، وقبل كل شيء خياطة جرح الرأس وفحص العين. تشخيص: ارتجاج في المخ مع فقدان مؤقت للوعي. بدأت أستعيد نفسي. تحيط بي ممرضات شابات رقيقات، محجّبات، وطبيب بيدين كأنهما يدا ساحر، يبتسم ابتسامة متعاطفة، تلك الابتسامة التي يحملها كلّ المغاربة، ويخيط رأسي من دون أن يسبب لي ألماً. يصل رجال شرطة إلى المستشفى في الوقت المناسب وبنظام واضح لإعداد محضر الشكاية. في الحقيبة كان هناك بعض الدراهم (ليست كثيرة)، والوثائق كلّها، والهاتف، وقبل كل شيء جواز السفر. يسألني الشرطي عن مهنتي، فأجيب دون تفكير: "كاتبة". هل هي مهنة فعلاً؟ لا أدري، لا أظنّ، لم أقلها من قبل، ولم أعتبرها يوماً عملاً حقيقياً، العمل الحقيقي هو ما يوفّر لقمة العيش... لكن في تلك اللحظة كان ذلك أول جواب حضرني. شرطي لطيف يحرّر لنا محضراً يمكّننا، في اليوم التالي، السبت، من العودة إلى إيطاليا على متن رحلة "ريان إير". لكن ما إن عدتُ إلى الرياض حتى قضيت الليل كلّه أتقيأ، وكذلك اليوم التالي. كان ذلك هو الجحيم الحقيقي، حتى أكثر من ألم العين. لم أستطع الاحتفاظ حتى بالمضادات الحيوية ومسكنات الألم. صرتُ أدعو الله أن يخلصني من تلك الغثيان، وأفكّر في كل شخص يضطر للخضوع للعلاج الكيميائي، ومن أكون أنا لأستحق التفاتة رحيمة من الله بينما هناك من هو أسوأ حالاً بكثير؟ في تلك الحالة كانت فكرة الذهاب إلى المطار وركوب الطائرة مرعبة، لكننا قررنا رغم ذلك المغادرة. في المطار أحمل كيساً تحسّباً للتقيؤ. نصل إلى مكتب التسجيل ومعنا محضر الشرطة باللغة العربية، حوالي الساعة الخامسة مساءً. الطائرة تقلع في التاسعة. موظف "ريان إير" يقول إن الأمر غير ممكن، وإننا لا نستطيع السفر، ويجب الحصول على تأشيرة من القنصلية الإيطالية. كان التواصل يجري بمزيج من الفرنسية والإنجليزية والعربية. تساعدنا عائلة إيطالية وتعطينا رقم الطوارئ الخاص بالقنصلية الإيطالية، التي تكون مغلقة يوم الجمعة بسبب العيد المسلم، والسبت والأحد بسبب العطلة الأوروبية. تردّ علينا شابة لا تستطيع تحمّل أي مسؤولية، ولا توجد أصلاً في المكتب، وتكرر: "القوانين هي القوانين"، وتخبرنا بأن الإجراء يلزمنا بالانتقال إلى الدارالبيضاء (وأنا بوجهي المنتفخ، وبصري المجهد، وقيئي المتواصل بسبب الارتجاج، وصائمة منذ يومين) للحصول على التأشيرة من القنصلية ومغادرة المغرب. ابن عائلة إيطالية، شاب في العشرينيات، ذكي وصلب كما يكون الشباب دائماً، كما لو كان ابني، يأخذ الهاتف ويقول لها: "أنا مواطناً إيطالياً، كيف يُفترض بنا نحن المواطنين الإيطاليين أن نشعر بالحماية من قنصليتنا بينما لا توجد أي آلية طوارئ للتعامل مع وضع كهذا، حيث امرأة تعرّضت لاعتداء ولا تستطيع العودة رغم وجود تذكرة مدفوعة وزوج يحمل جواز سفر إيطالياً ومحضراً رسمياً من شرطة المغرب؟" لا فائدة. علينا البقاء في مراكش حتى يوم الإثنين، والذهاب يوم الإثنين إلى الدارالبيضاء. الرياض الذي نقيم فيه ممتلئ. يجد والدي مكاناً في رياض مجاور. نبحث عن سيارة أجرة للعودة من المطار إلى المدينة. ليس كل شر يأتي بالضرر: يوم الأحد هدأ القيء، وبدأت أتحسن، وربما كان الانتظار بضعة أيام قبل ركوب الطائرة، بعد ارتجاج، أكثر حكمة. بقيت منكمشة في غرفة الرياض، لا أرغب في رؤية شيء من مراكش، حتى شعرت مساء الأحد بالعطش، وكان ذلك علامة جيدة. شجعني زوجي ووالدي وزوجة والدي على الخروج. لا كسكس، فقط قليل من الأرز الأبيض. نزل. ممتاز. وبدأت أرى حولي بلداً آخر: نسيجاً من اللطف والانتباه والتضامن المؤثر من الجميع: أصحاب المطاعم، أهل الحي، أصحاب الفنادق، رجال الشرطة، المشرّدون، سائقو التاكسي الذين يضعون أيديهم على صدورهم حين يرونني، يصافحونني، يعانقونني، ويطبعون قبلة على رأسي: je suis désolé... je suis désolé. سائقون يدعوننا للغداء في بيوتهم، مع زوجاتهم وأطفالهم. يقولون: لا بُدّ أنهم غرباء، فنحن نحرص على معاملة السياح أفضل معاملة، وأولئك اللصوص شوّهوا صورة بلدنا. وكانوا صادقين. النساء يمشين في المساء بأمان، يعملن، يقُدن الدراجات، يلبسن الحجاب بأناقة، وليس كلهن. الانطباع هو لبلد متوازن ومتسامح، قريب جداً منا، على الأقل في المدن. يقول البعض ربما كان يمكن أن يحدث ذلك في أي مكان، وأوافق: حتى في ميلانو، فقد سُرقت حقيبتي قبل أشهر هناك أيضاً، ولم تعد مدينة آمنة كما كانت. أصبحت فردانية جداً. الحقيقة أنّ فيديو الكاميرا انتشر على مواقع التواصل (نشرته تحتًا)، ويقولون إنه يدور ليس فقط في مراكش، بل في كل المغرب. في أحد المطاعم يطلبون التقاط صور معي. أبنائي عبر هاتف زوجي من إيطاليا يقولون: ماما، أنتِ أصبحتِ "ميم" في المغرب، أكثر شهرة من الكتب. إن شاء الله. أشتري نظارة شمسية من بائع سنغالي (سرقت نظارتي مع الحقيبة) كي أتحصّن من الشمس ولا أخيف الناس بوجهي. هو أيضاً يضع يده على قلبه: je suis désolé. يقول: الإيطاليون طيبون. أجيبه: والسنغاليون أيضاً طيبون. يأتي يوم الاثنين. نحجز رحلة العودة لإيطاليا يوم الثلاثاء، لأن الحصول على تأشيرة القنصلية يتطلّب وجود تذكرة طائرة. قطار مراكش–الدارالبيضاء قطار جميل، مريح، دقيق في مواعيده، بمقصورات قديمة مبطّنة ومليئة بموظفين يرتدون بذلات ويحملون حقائب العمل، شيء يشبه "الأوريونت إكسبريس". ثلاث ساعات من صحراء حمراء صخرية، وقرى وردية وحمراء، ونخيل، وحقول زيتون هزيلة، وسلسلة الأطلس من بعيد. الغثيان خفّ، حالتي العامة تحسّنت قليلاً، وإن بقي بصري مُغبّشاً، لكني استمتعت بالرحلة كأنها فسحة راحة. الدارالبيضاء بيضاء، أنفاس محيط وتنفّس. في القنصلية الإيطالية نُتمّ الإجراءات ونحن نخشى أن ينقص وثيقة أو صورة أو توقيع يمنعنا من العودة. أصبحتُ أدرك كيف يمكن للعودة إلى الوطن أن تصير سراباً. أفكّر في المهاجرين، وفي من لا يستطيع العودة، وفي من يعيش بعيداً عن بلده. سائق التاكسي الذي يعيدنا إلى المحطة لطيف للغاية. بثمن زهيد يأخذنا لرؤية المسجد والبحر، ويريد دعوتنا للأكل في بيته، ويريد إخبار زوجته ويقول إننا إذا احتجنا مكاناً للنوم يمكننا البقاء عندهم. لكن علينا الإسراع للحاق بالقطار إلى مراكش. من جديد، صحراء الغروب، وفي المقصورة أشخاص يضحكون بلطف وود، فتيات محجّبات وأخريات غير محجّبات، جميعهن مبتسمات. في اليوم التالي، في المطار مع زوجي ووالدي وزوجة والدي، يلازمنا الخوف عند كل مرحلة تفتيش تطلبها الشرطة (لقد رأوا الفيديو وعرّفنا به موظفون هناك!)، خشية أن نقصّر في متطلب ما. نتجاوز حاجزاً، ثم آخر، ثم ثالثاً، والحمد لله أننا وصلنا قبل الإقلاع بثلاث ساعات. عندما أضع قدمي على درج الطائرة، لا أصدّق أنني عائدة حقاً، رغم الخوف الذي ما يزال ينتابني على جرح رأسي. يبدو الأمر بسيطاً أن يقال، لكن لم يسبق أن أدركت معنى كلمة بيت كما أدركته الآن. في الرياض، من دون هاتف، ومع انقطاع الاتصال، استطعت من خلال الحاسوب إيجاد أرقام الأساتذة الذين كان يفترض أن ألتقيهم هذا الأسبوع في المدرسة. ألغيتُ أيضاً لقاءات الأسبوع المقبل. من يعمل حُرّاً في إيطاليا لا يملك أي حماية اجتماعية... والنقابات؟ لا داعي للكلام. ألغيت اللقاءات (هل أستطيع فعلها عن بُعد؟ بوجهي هذا؟) فقط حتى لا أرعب التلاميذ بوجهي الذي يشبه وجه الراكون (آمل أن يكون مؤقتاً). في الحقيقة، لم ألغِها، بل أجّلتها فقط. وما دامت هناك إمكانية لتأجيل موعد في مفكرة وردية، فهناك حياة. وما دمت أستطيع رشّ ماء زهر البرتقال على وجهي، فروح المغرب تفوح بزهر البرتقال. وما دمت أستطيع إعداد الشاي بالنعناع في مطبخي من شاي اشتريته هناك، فشكراً لله. Deo gratias. Baruch Hashem. Inshallah. نعم، قبضوا عليهما. قد تكون التهمة محاولة قتل، لكنّي آمل، إن كانا شابين في عمر أبنائي، ألا تكون العواقب مدمّرة لحياتهما، بل كافية فقط ليُدركا حجم الضرر الذي ألحقاه بي، والأذى الأكبر الذي كانا قد يتسببان به، والذي لم يتوقعاه إطلاقاً على الأرجح.