في عرس كروي استثنائي، تزامن مع احتفالات دولة قطر بعيدها الوطني، كتب المنتخب المغربي فصلاً جديدًا من فصول مجده الكروي، وتُوِّج بطلاً لكأس العرب بعد فوزٍ مثير على المنتخب الأردني بثلاثة أهداف مقابل هدفين. انتصارٌ مستحق، أكّد مرة أخرى أن فوز المغرب لم يكن يومًا صدفة، بل ثمرة عملٍ وتراكم إنجازات، ورسالة واضحة بأن "أسود الأطلس" باتوا رقمًا صعبًا في كل المحافل. ولا يمكن الحديث عن هذا النهائي دون الإشادة الصريحة بما قدّمته دولة قطر من تنظيم رفيع المستوى، سواء من حيث الجوانب الأمنية، أو الانسيابية اللوجستية، أو حسن الاستقبال والتعامل الراقي مع الجماهير والمنتخبات على حدّ سواء. فقد أثبتت قطر، مرة أخرى، قدرتها على احتضان كبريات التظاهرات الرياضية بكفاءة عالية، ووفّرت بيئة آمنة ومريحة للجميع، عكست خبرتها المتراكمة واحترامها للرياضة وجماهيرها. غير أن ما جرى فوق أرضية ملعب لوسيل لم يكن وحده ما استوقف المتابعين، بل ما دار في المدرجات، وفي الكواليس غير المرئية للحدث. فرغم الفوز المغربي، كان الحضور الجماهيري الأردني لافتًا، بل متفوقًا من حيث العدد والتنظيم. هتافات "النشامى" غطّت مساحات واسعة من المدرجات، وفرضت إيقاعها السمعي، في مشهدٍ لا يمكن فصله عن دعمٍ منظم ومدروس. لقد بدا واضحًا أن الجمهور الأردني لم يأتِ صدفة؛ بل حظي بدعم مباشر من سفارته، وبمواكبة من وكالات الأسفار، وبأسعار تحفيزية وفّرتها الخطوط الملكية الأردنية، ما سهّل عملية التنقل والحضور، وحوّل المدرجات إلى امتدادٍ طبيعي لمدرجات عمّان. في المقابل، كان الشغف المغربي حاضرًا بقوة، لكن دون أدوات. آلاف المغاربة المقيمين في قطر كانوا يتوقون للحضور، للتشجيع، للاحتفال مع أبنائهم وعائلاتهم وضيوفهم، غير أن غياب التنسيق وضعف التحضير، وغياب سياسة واضحة لتوفير التذاكر والنقل، جعل هذا الشغف يصطدم بواقع محبط. وما زاد من صعوبة استساغة هذا المشهد، وجعل الإحساس به مهينًا ومستفزًا في آنٍ واحد، هو ما عايشه عدد كبير من المشجعين المغاربة عبر طوابير منصّات التذاكر الإلكترونية المشرفة عليها الفيفا. ساعات طويلة من الانتظار الافتراضي، يُطلب خلالها من المشجع التحلي بالصبر، فيما تُعرض عليه أرقام ترتيب تتجاوز أحيانًا خمسين أو ستين ألفًا، مع إشعارات متكررة تُفيده بضرورة انتظار دوره، الذي قد يمتد لأكثر من ساعتين، دون أي تقدير فعلي لقيمة الوقت أو للالتزام العاطفي الذي يربطه بمنتخبه. وفي نهاية هذا الانتظار المرهق، كثيرًا ما كانت النتيجة واحدة: فشل المحاولة، ورسالة مقتضبة تفيد بعدم توفر التذاكر في جميع الفئات. ورغم ذلك، لم يكن المشجع المغربي من الذين يستسلمون بسهولة؛ بل كان يعاود المحاولة مرة تلو الأخرى، مدفوعًا برغبة صادقة في الحضور والمشاركة في لحظة وطنية جامعة، قبل أن يجد نفسه، مكرهًا، أمام خيار الانسحاب أو التوجه إلى السوق السوداء، حيث تحولت التذكرة من حق مشروع إلى سلعة مضاربة تُباع بثلاثة أضعاف ثمنها الحقيقي، في مشهد لا يليق بقيمة الحدث ولا بصورة الجمهور. والمفارقة المؤلمة في هذا السياق، أن بعض التذاكر التي حُرم منها أصحابها الحقيقيون كانت متوفرة لدى غيرهم. فقد سجّل الحاضرون مواقف إنسانية لافتة، حين بادر بعض المشجعين الأردنيين، بدافع التعاطف والأخوة الرياضية، إلى منح أصدقاء مغاربة تذاكر مجانية حصلوا عليها بزيادة أو لم يعودوا في حاجة إليها. موقف نبيل يُحسب للجمهور الأردني، لكنه في المقابل يفتح سؤالًا مؤلمًا: كيف يُترك جمهور منتخب متوج، حاضر بشغفه، غائب بدعمه، ليعتمد على مبادرات فردية بدل سياسات واضحة؟ نحن ممن حضروا النهائي لمسنا هذا التناقض بوضوح: رغبة مغربية جارفة يقابلها غياب للدعم اللوجستي، في مقابل تنظيم أردني محكم. ومع ذلك، ورغم قلة العدد، فإن هتافات الجمهور المغربي كانت تصل، ويصل صداها إلى كل أرجاء ملعب يتسع لأزيد من 90 ألف متفرج، في مشهد يؤكد أن الروح لا تُقاس بالأرقام وحدها. ومع كل ما سبق، لا يمكن إنكار أن السفارة المغربية، وكذا الوزارة المكلفة بالجالية، تبذلان مجهودات كبيرة ومقدَّرة في مجالات متعددة لخدمة المغاربة بالخارج. غير أن مثل هذه التظاهرات الكبرى قد يغيب عنها أحيانًا استحضار ما يعيشه المشجع كتجربة نفسية وإنسانية كاملة، بكل ما تحمله من انتظار، وتوتر، وأمل، وإحباط. ومن هذا المنطلق، فإن التعبير عن هذا الرأي لا يهدف إلى تحميل المسؤوليات أو توجيه اللوم، بقدر ما هو حرص صادق على أن يصل هذا الصوت إلى المعنيين، وإلى الغيورين ممن يتحملون مسؤوليات التدبير والتخطيط، ونحن على يقين بأن مثل هذه الملاحظات ستؤخذ بعين الاعتبار مستقبلًا. ما حدث في نهائي كأس العرب ليس معزولًا؛ فقد تكرر المشهد نفسه خلال مونديال قطر، حيث وجد الجمهور المغربي نفسه في كثير من المباريات أقل عددًا، لا أقل حماسة. وهذا يدفعنا اليوم إلى طرح سؤال جوهري: متى نُدرك أن الجمهور هو "اللاعب الثاني عشر" فعلًا، لا شعارًا يُستحضر فقط عند الانتصار؟ إن تشريف المنتخب لا يكون بالنتائج وحدها، بل بالمدرجات التي تمتلئ بألوان الوطن، وبالأطفال الذين يهتفون، وبالعائلات التي تعيش لحظة الانتماء كاملة. فكما كان اللاعبون في الموعد، نحتاج مستقبلًا إلى أن يكون الجمهور كذلك: حاضرًا، منظمًا، ومدعومًا، حتى يظل صوت المغرب عاليًا... في الملعب، وفي المدرجات، وفي كل المحافل. باحث مغربي مقيم في الدوحة