لازال العالم يتابع تداعيات مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، و تناسل التصريحات و التسريبات، التي أكدت مقتل الرجل بطريقة همجية، إذ تم تقطيعه و تذويبه في الأسيد، فرحم الله الرجل و أسكنه فسيح جناته و حسبنا الله و نعم الوكيل.. و من دون شك ليس هناك عاقل في العالم يؤيد هذا الجرم أو يدافع عن مرتكبيه مهما كان السبب و الدرائع، فهذه جريمة ضد الإنسانية و جرم لابد من القصاص من مرتكبيه الفعليين و من أمره بذلك، فهناك مسؤولية جنائية و أيضا مسؤولية سياسية، و أصبح من المؤكد أن ولي العهد السعودي هو من أمر بجلب رأس هذا " الكلب" بحسب الوصف الذي أطلقه ولي العهد، وهو نفس النعث الذي يوصف به كل عربي مسلم يعارض إرادة المستبدين من الحكام و أعوانهم، و ليس في ذلك سبة لأحد بل هو وسام شرف أن يوصف الأحرار ب"الكلاب" فعلى الأقل "الكلاب" لا تجرؤ على تقطيع رؤوس بني جنسها، أو ترميهم في غياهب السجون … وهذا المقال ليس تحليلا لجريمة قتل "خاشقجي"، فقد سبق و تكلمنا في ذلك، و حلل غيرنا الأمر بما يكفي، و أصبح إسم الشهيد بإذن الله "خاشقجي" يعرفه الطفل قبل الشيخ، و جريمته مُدانة بكل لسان…لكن المقال سينحو منحى أخر و يحلل موقف الصين من هذه الجريمة، وكيف تعاملت الحكومة الصينية مع القضية؟ و كيف تنظر الصين للأزمة؟ و مادور الصين في الحد من إندفاع الإدارة الأمريكية؟ و هل موقف الصين يشكل طوق نجاة لولي العهد السعودي؟ و ماهي البدائل المتاحة أمام النظام الحاكم في السعودية للخروج من عنق الزجاجة و تجاوز العقوبات و المضايقات؟ أولا – موقف الصين من مقتل جمال خاشقجي: يلاحظ في تعامل الصين مع قضية مقتل جمال خاشقجي، أنها تبنت نفس الأسلوب البرغماتي المعهود في الدبلوماسية الصينية، فقد إختارت الصين تغليب مصالحها التجارية مع السعودية ، و توظيف القضية لإبراز إزدواجية الغرب في تعاطيه مع قضايا حقوق الإنسان، فقد أشارت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية إن قضية الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، تمثل اختباراً لموقف واشنطن تجاه القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، وانتقدت الصحيفة التابعة للحزب الشيوعي الصيني ما سمته "ازدواجية المعايير" لدى الولاياتالمتحدة والدول الغربية في التعامل مع القضية، وأشارت إلى أن هذه الدول تتعامل بسياسة الكيل بمكيالين، فحين تتعلق القضية بدولة لا علاقة لها بالغرب تنتهج سياسة مختلفة عما يمكن أن تنتهجه في القضايا التي تتعلق بدولة غربية.. و لتأكيد رأيها أشارت الصحيفة الناطقة بلسان حال الحزب الشيوعي، إلى قضية تسمم العميل الروسي "سيرغي سكريبال"، حيث قامت دول غربية بقيادة بريطانيا بطرد الدبلوماسيين الروس من عواصم بلدانهم، احتجاجاً على حادثة التسمم، بينما لم تكن ردود أفعال العديد من هذه الدول بذات الحدة تجاه قضية خاشقجي. وهو نفس التوجه الذي عبرت عنه الحكومة الصينية، فعندما تم توجيه سؤال للمتحدث باسم خارجيتها في ندوة صحفية، اكتفى بالقول إن الصين لاحظت تطورات القضية، و هو ما يعني ضمنياً، أن لدى بكين أيضاً مصالح تجارية مع المملكة تحول دون حتى إبداء رأي في القضية، و قال المتحدث في سياق حديثه "أن الصين تتابع باهتمام تصريحات الرئيس الأمريكي بشأن فرض عقوبات على السعودية.."، و قد حاولت الصحف الرسمية تناول الإجراءات و العقوبات التي يمكن أن يتخدها الغرب ضد السعودية، ورد الفعل المتاح أمام إدارة "بن سلمان" في حال فرض عقوبات عليها، و قد أشارت هذه الصحف إلى أن هذه التدابير تشمل نحو ثلاثين تدبيراً يمكن للسعودية إتخادهم لمواجهة أمريكا و حلفاءها الغربيين، و من ذلك تداول النفط باليوان الصيني بدلاً من الدولار الأمريكي، هذه إجراءات سبق بالفعل لدوائر مقربة من صنع القرار في المملكة، أن هددت باللجوء إليها في حالة التضييق على المملكة، و بنظرنا يمكن لبعض هذه الإجراءات أن تخفف الضغط عن المملكة لكن لن تنهي القضية ، فقد تصمت الأنظمة الحاكمة في الغرب، لكن من الصعب إسكات الصحافة والهيئات الحقوقية، التي لن تتنازل عن متابعة و مقاضاة محمد بن سلمان اينما حل و إرتحل، سيجد أمامه دعاوي قضائية و مظاهرات حاشدة تندد وتذكره بجرمه إن أصبح ملكا … أما موقف الصين فتمليه محفظتها المالية، فهي أكبر شريك تجاري للسعودية، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين السنة الماضية حوالي 42 مليار دولار. كما أن البلدين وقعا في مارس/آذار الماضي على صفقات في مجال الطاقة والفضاء والتكنولوجيا بقيمة 65 مليار دولار…فالصين تتابع باهتمام تداعيات القضية و مدى تأثيرها على العلاقات الأمريكية السعودية، خاصة فيما يتعلق بتجارة السلاح بين البلدين، على أمل الظفر بحصة كبيرة من سوق المملكة التي تعتبر أكبر مشتر للسلاح في الخليج والمنطقة العربية، فضلاً عن كونها ثاني أكبر مشتر للسلاح في القارة الآسيوية بعد الهند… لكن الموقف الصيني يظل بعيدا عن النظر إلى القضية بمنطق حقوق الإنسان، و إن كان بنظرنا الغرب يوظف بدوره ملف الدفاع عن حقوق الإنسان لتغطية عن مصالحه و تطلعاته، فأين موقف حقوق الإنسان من مقتل نحو مليون سوري منذ إندلاع الثورة الروسية، و من تهجير نحو 15 مليون سوري، و أين حقوق الإنسان من تدمير اليمن بسلاح غربي و بحماية غربية، فما كان لإبن سلمان و تحالفه العربي أن يقصف اليمن و يدمرها لولا مباركة أمريكا و حلفاءها… نحترم الموقف الصيني و لكن لانؤيده، نحترمه لأن الصين تعبر عن موقف مبدئي يحكم سياستها الخارجية منذ 1978 فهي تغلب المصالح على الأيديولوجيا، و تتجنب التدخل في القضايا السياسية، أو التدخل في الشؤون الداخلية للغير ، وهي في ذلك تحاول حماية نفسها، لأنها بدورها تتعرض لإنتقادات الغرب من غياب حقوق الإنسان، و سجل حقوق الإنسان يمثل نقطة ضعف لدى الحكومة الصينية، التي لازالت تضيق على الحريات السياسية والمدنية، و لازالت تمارس أساليب معادية لحقوق الإنسان و من ذلك التنكيل بالمعارضين السياسيين و التضييق على الأقليات المسلمة ومن ذلك الحصار و التضييق المفروض على إقليم الإيغور ذو الأغلببة المسلمة…فالصين غير معنية بإنتقاد مقتل خاشقجي أو قصف اليمن و تدمير روسيا لأنها بحسب المنظمات الدولية المعنية بحقوق الأنسان متهمة بإحتجاز نحو مليون فرد من أقلية الإيغور المسلمة في الصين في "مراكز لمكافحة التطرف"…فقد قالت "غاي مكدوغال"، وهي من لجنة الأممالمتحدة للقضاء على التمييز العنصري، إنها تشعر بالقلق إزاء تقارير عن تحول منطقة الإيغور ذات الحكم الذاتي إلى "معسكر اعتقال هائل"…. ثانيا- البدائل المتاحة للنظام الحاكم في السعودية للخروج من عنق الزجاجة وتجاوز تداعيات مقتل خاشقجي في الحاضر و المستقبل: رأينا أعلاه أن الصين أو الغرب لن يدافع عن دماء و أعراض و حقوق المسلمين، إلا إذا كان في ذلك خدمة لمصالحه السياسية و الإقتصادية ، و الواقع أنه من العبث أن نطلب من الصين أو غيرها إحترام حقوق المسلمين، و حكامنا العرب لا يتورعون في سفك دماء شعوبهم و تعريض بلدانهم للحصار و العقوبات.. كان بالأحرى بولي العهد السعودي و هو يدعي بأن جهوده ومساعيه الغاية منها تأسيس "السعودية العظمى" أن يدافع عن حقوق المسلمين و الدفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية وتوظيف القدرات المالية والنفوذ الديني للملكة، لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، للدفاع عن فلسطينالمحتلة والمسجد الأقصى الذي يحاول الصهاينة هدمه بحثا عن هيكلهم المزعوم، بدلا من تسول و إستجداء الدعم الصهيوني و الأمريكي و التلويح بالإرتماء في الحضن الصيني أو الروسي أو الإيراني… فالعزة لله و رسوله و للمؤمنين، وما كان لأهل الحجاز و نجد و الجزيرة العربية عامة أن تكون لها هذه المكانة السامقة طيلة 14 قرنا لولا الإسلام و بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فما أحوج شعوب الجزيرة وحكامها العودة إلى هدي نبي الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام، و إتباع منهجه و هديه، بعيدا عن الإستكبار و الإستعلاء و التفاخر بثروات النفط، فما كان لحكام السعودية أن يتجبروا و يقصفوا اليمن و يدمروا ثروات الربيع العربي، لولا صمت شعوبهم و سكوتهم عن كلمة الحق و نصرة المستضعفين.. ومع ذلك، فإن أهل السعودية و بلاد الحرمين عزيزة على قلوبنا و أرواحنا فداءا للحرمين، و نتمنى أن يدرك حكام السعودية أن طبول الحصار و العقوبات تُقْرع، و أن ثروات المملكة سوف يتم نهبها من الغرب و الشرق ، و ليس هناك من مخرج إلا القصاص من قتلة جمال خاشقجي، و محاسبة من أعطى الأمر بذلك، فالكل أصبح متفق على أن ولي العهد محمد ابن سلمان هو من أعطى الأمر، و فريق الإخراج و التنفيذ من خاصته و بطانته، فأخف الضررين بنظرنا، التضحية بالرجل بدلا من التضحية بمقدرات البلاد و ثرواتها، و التضحية بالنظام السياسي كله و الأسرة المالكة في مقدمة ذلك… فالأسرة الحاكمة في السعودية ملزمة الأن بتغيير ولي العهد و عزله و القصاص منه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، و إن كنا نرى أن صورة المملكة تضررت بشكل كبير فأصبحت السيوف التي تزين علم المملكة ونخلتها التي ترمز للخير و العطاء و الشموخ، تعني في مخيلة اغلب الناس منشارا و جمجمة، فهذه الجريمة خدمت أعداء الأمة العربية و الإسلامية… نتمنى أن يدرك الملك سلمان خطورة المأزق، فالسعودية إذا ما إستمر "محمد بن سلمان" في العرش سيكون مصيرها نفس مصير العراق و ليبيا، حيث سيتم فرض العقوبات الإقتصادية عليها و نهب ثرواتها و الضغط على الحاكم/ القاتل و ابتزازه لتقديم المزيد من التنازلات لتمرير صفقة القرن، و تمويل مزيد من الحروب بالمنطقة و التي لن تخدم إلا مصالح أعداء السعودية و الأمة قاطبة ..فعزل محمد ابن سلمان أخف الضررين، و نتمنى ان ينفذ فيه القصاص إمتثالا لقوله تعالى:" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة : 178]، ففي ذلك رجوع إلى الحق و إنقاذ للبلاد و العباد من تكالب و تأمر الحلفاء قبل الأعداء، و عبرة لكل من تجبر وطغى و إستكبر…والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي