لا يختلف إثنين على أن ولي العهد السعودي أصبح مادة إعلامية واسعة الإنتشار و تمكن من دخول كل بيت مجانا ، إذ لم يكلف بلاده المزيد من الأموال المدفوعة لشركات العلاقات العامة في الغرب بغرض ترويج و تلميع شخصيته، و أن جريمة قتل الشهيد "جمال خاشقجي" بالقنصلية السعودية بإسطنبول جعلته شخصية عالمية تحقق إجماعا دوليا منقطع النظير، فالرجل أصبح معروفا من قبل الصغير قبل الكبير، و الأجنبي قبل السعودي و العربي، فالكل متفق على كره الرجل و إستهجان فعله، و بالتالي تجنب لقاءه أو الظهور معه ، و ما حدث في قمة مجموعة 20، و قبل ذلك زيارته لبلدان عربية ومغاربية، وحجم الغضب الشعبي المصاحب لزياراته دليل على المأزق الذي وقع فيه، و أوقع فيه النظام و الشعب السعودي، فالسعودية في حاجة لسنوات عديدة لتجاوز أثار الأزمة، و من المستبعد أن تسطيع تجاوز الأزمة دون عزل هذا الرجل و إبعاده عن المشهد السياسي، تجنيبا للبلاد و العباد أثار هذه الجريمة المدمرة… و سبق و أشرنا في مقال لنا حول مقتل خاشقجي ، إلى أن النظام السعودي لن يتمكن من الخروج من هذه الأزمة إلا بالقصاص من ولي العهد، و أي سيناريو أخر فلن يجدي نفعا، و معنى ذلك أن إستمرار الرجل في السلطة سيقود السعودية إلى نفس مصير العراق في عهد "صدام حسين" و ليبيا "القدافي" ، و أنه حتى إذا تمكن من الإستمرار في الحكم و أصبح ملكاً فعلياً، فلن يسلم من المتابعات القضائية العابرة للحدود فأغلب البلدان الديموقراطية ، أصبحت تأخد بمبدأ الولاية القضائية العالمية، و عريضة الدعوى تشمل إغتيال "جمال خاشقجي"، وحرب السعودية على اليمن و هي تصنف ضمن جرائم الإبادة و جرائم ضد الإنسانية، كما هو وارد بنظام "المخالفات الجسيمة"، على النحو المبين في اتفاقيات جنيف الأربع والوارد بشكل موسّع في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، و الذي ينص على أن الدول الأطراف ملزمة بالبحث عن "الأشخاص الذين يُدعى ارتكابهم، أو إصدارهم أوامر بارتكاب، انتهاكات لاتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولها الأول، والتي تعتبر مخالفات جسيمة، وبمحاكمة هؤلاء الأشخاص، بصرف النظر عن جنسيتهم، أمام محاكمها، أو تسليمهم إلى دولة طرف معنية أخرى كي تحاكمهم"… و قد رأينا المخاوف التي صاحبت ولي العهد السعودي في رحلته إلى الأرجنتين، و إختياره الإقامة بسفارة بلاده هناك بدلا عن النزول بفندق، دليل على التوجس من الإعتقال، كما أن الصفة التي حضر بها إلى القمة بإعتباره رئيسا للوفد السعودي، بدلا من صفة ولي العهد، و التي لا يعترف بها قانونيا كوظيفة رسمية لها حصانة دبلوماسية، دليل على الخوف من أنياب العدالة الدولية، التي ستلاحقه شخصيا، و تلاحق أفرادا أخرين ينتمون إلى النظام السعودي… و بنظرنا، فإن حضوره في قمة مجموعة 20، و مقاطعته من قبل معظم قادة البلدان الحاضرة للقمة، مقدمة للمصير المجهول الذي ينتظر السعودية نظاما و شعبا، و أن نظام العقوبات و الحصار و تجميد الأرصدة، و وضع قوائم سوداء و ملاحقة مسؤوليين سعوديين،هو المصير الذي ينتظر السعودية في عهد "محمد بن سلمان".. فالمخرج المتاح للنظام السعودي لتفادي هذا المصير، هو عزل ولي العهد الحالي و تعيين أخر بعيد عن مسرح جريمة قتل "جمال خاشقجي" ، وأعتقد أن الجولة التي قام بها ولي العهد السعودي جاءت عكس ما كان يتمنى أو يتوقع، فالعالم و الرأي العالمي لن ينسى بسهولة هذه الجريمة، و إن كانت الأنظمة السياسية تغلب منطق الصفقات و المصالح التجارية، على إحترام حقوق الإنسان، إلا أن الصراع السياسي بداخل هذه البلدان و في مقدمتها أمريكا سيجعل من قضية "خاشقجي" حصان طروادة للضغط على الرئيس "ترامب" و الضغط على النظام السعودي… و نفس الأمر في باقي البلاد الغربية، و إذا إستمر " محمد ابن سلمان" في الحكم فالوضع سيزداد تعقيدا و الضغوط الدولية ستحاصر السعودية من كل جانب… و على خلاف ما رأينا أمام عدسات الكاميرا، و سعي أغلب قادة البلدان الغربية على تحاشي الإحتكاك ب"قاتل" خاشقجي، فإن برغماتية الغرب، و تعامله مع المنطقة العربية والإسلامية على أنها مصدر للطاقة وساحة للتنافس الدولي، يجعل من المشاهد التي رأيناها، مجرد مواقف للإستهلاك الإعلامي و إمتصاص غضب الشعوب الغربية أو على الأقل بعض ممن يؤمن بقيم الحرية و حقوق الإنسان.. فعمليا، أغلب القوى الدولية تميل إلى تفضيل بقاء الرجل في السلطة من منطلق برغماتي صرف، فتغيير الرجل و إستبداله بوجه أخر، نظيف اليد من جريمة قتل خاشقجي و من قرار العدوان على اليمن و معاداة ثورات الربيع العربي، سيحرر النظام السعودي من قيوده الحالية، و ربما سيدفع النظام بعدما رأى تكالب الحلفاء عليه إلى البحث عن تحالفات جديدة، تناقض المصالح الأمريكية و الغربية، لذلك فإن استمرار محمد بن سلمان ورقة رابحة للقوى العظمى عامة والصهاينة خاصة… فعلى الرغم من الرأي السائد في وسائل الإعلام الغربية، بأن في إستمراره في حكم السعودية تهديد للأمن و السلم الدوليين.. فإننا نرى العكس هو الصحيح، فالغرب يريد أنظمة عربية وإسلامية ضعيفة و فاقدة للشرعية حتى يكون ولاءها له، فمُسْتَعر الأمس هو الضامن لأمن الحكام العرب، و الساهر على بقاءهم في السلطة، و الدرع الواقي لهم ضد شعوبهم، و تصريحات "ترامب" حول دور السعودية في حماية إسرائيل، دليل على الدور الوظيفي للنظام السعودي و لباقي الأنظمة العربية… فسبحان "المعز المذل" فمن مفارقات القمة ان مختلف الزعماء الحاضرين يسعون للتقرب من الرئيس التركي " أردوغان" في مقابل تحاشى الجميع اللقاء أو الظهور مع ولي العهد السعودي، و في ذلك تأكيد لقوله تعالى " إن تنصروا الله ينصركم"، فمواقف تركيا المشرفة في قضية القدس و حصار غزة و تعاطيها الإيجابي مع ثورات الربيع العربي، و توظيفها الذكي لقضية إغتيال خاشقجي ، جعل لها قوة ناعمة و إحتراما لدى الأعداء قبل الأصدقاء… بينما خسرت السعودية مكانتها و أضرت بمجالها الحيوي الذي يشمل معظم البلاد العربية و الإسلامية، و هذه الخسارة ترجع إلى ابتعادها عن الحق و العدل و التوجه العدواني في سياساتها تجاه باقي الشعوب العربية، في مقابل تبعية عمياء لأمريكا و إندفاع نحو مناصرة و دعم الكيان الصهيوني.. فالسعودية بلاد الحرمين و مكانتها في قلوب المسلمين سامقة، و ملكها خادم الحرمين، لكن للأسف إختارت الإنحياز للمعسكر المعادي للحق والعدل و فضلت الإصطفاف مع حزب الشيطان بدلا من حزب الله.. فهل من المعقول أن يقبل أي مسلم أن يكون خادم الحرمين سافكاً للدماء و مفرقا للأمة و مطلوبا للعدالة الدولية، و أينما حل أو إرتحل تلاحقه المظاهرات و الإحتجاجات الشعبية…!؟ للأسف هذا حال السعودية اليوم، و ما تكشف عنه الأيام من أحداث و تسريبات يجعل "الحليم حيران"، لكن بنظرنا "رب ضرة نافعة" فقد شاءت قدرة الله تعالى، أن يَنْكَشِف لعموم المسلمين ما كان يتم في الخفاء من قبل أنظمة تدعي الدفاع عن الأمة ومصالحها، لكنها تخدم في الواقع مصالح أعداء الأمة، وفي مقدمتهم الصهاينة المحتلين… فالشعب السعودي و عقلاء البلاد حكاما و محكومين ملزمين بإنقاذ البلاد، من المصير الأسود الذي ينتظرها، فإستمرار "محمد بن سلمان" في الحكم ليس بالأمر المستحيل، لكن إستمراره سيكون على حساب الشعب السعودي و ثروات البلاد ، أما بخصوص قضايا الأمة العربية و الإسلامية و في مقدمتها فلسطين و القدس فإن تأثير السعودية أخد في التقلص و الإنحصار، فميزان القوة أصبح يميل للشعوب و للمقاومة الشعبية وكل من يقف بجانب هذا التيار يحقق مكاسب سياسية وجيواستراتجية، فالقادم من الأيام لن يكون في صالح أنظمة الإنبطاح العربي وأنظمة التطبيع ، فالمستقبل للشعوب و للمقاومة الشعبية، و ما يحدث في الساحة الأوروبية من حراك ينذر بأن العالم الغربي، و المنطقة العربية مقبلة على جولة جديدة من الثورات الشعبية ، لكن على خلاف السابق ستكون ثورات أكثر تعقلا و أكثر حسما و أكثر عمقا، فسنوات التيه التي مرت بها المنطقة العربية طيلة السنوات السبع الماضية لم تكن بغير جدوى، بل إنها كشفت المستور و جعلت الرؤية أكثر وضوحا، فالأمة تعرف اليوم من معها ومن ضدها ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي