الركراكي: بعض اللاعبين اعتقدوا أن المواجهة ستكون سهلة غير أن المواجهة كانت صعبة    مونديال الشباب: المنتخب المغربي يكمل عقد المتأهلين إلى الربع بانتصاره على كوريا الجنوبية    الزابيري يتألق بثنائية تاريخية ويقود "أشبال الأطلس" إلى ربع نهائي المونديال لمواجهة أمريكا    "الكتاب" يثمن التضامن مع فلسطين    "الأحمر" يختم تداولات بورصة البيضاء    الملك يُلقي غدًا الجمعة خطابًا ساميًا أمام أعضاء مجلسي النواب والمستشارين    رغم الدعوات الحكومية للحوار .. الاحتجاجات الشبابية تستمر في الرباط    الأميرة للا حسناء تحضر مؤتمرا بأبوظبي    اللقاء الودي بين المنتخبين المغربي والبحريني ينتهي بانتصار "أسود الأطلس"    المنتخب المغربي الرديف يهزم مصر    تشكيلة "الأسود" للقاء البحرين وديا    كرة القدم .. المغرب يعادل الرقم القياسي لإسبانيا ب15 انتصارا متتاليا    أمن العرائش ينجح في توقيف شخص مبحوث عنه وطنيا    أمني يستعمل السلاح الوظيفي في سلا    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    "الترجمة في سياق الاستشراق" .. قراءة جديدة في علاقة المعرفة بالهيمنة    مغاربة يندهشون من "ضجة تركية"    حزب التقدم والاشتراكية: الكيان الصهيوني مُطالَبٌ بأن يَحترم فورًا اتفاق وقف العدوان على غزة دون تلكُّؤ أو مناورة    أطعمة شائعة لا يجب تناولها على معدة خاوية            اسرائيل تحتجز ابن الحسيمة ياسين أكوح المشارك في أسطول الحرية                        الحسيمة.. انطلاقة فعاليات المهرجان النسائي للإبداع والتمكين (فيديو)        فدوى طوقان : القصيدة الفلسطينية المقاوِمة    المناظرة الوطنية الأولى حول الإشهار.. الدعوة إلى وضع إطار قانوني موحد لتحديث القطاع وتقوية تنافسيته    تفكيك شبكة للاتجار غير المشروع في الأنواع الحيوانية المحمية بسيدي بوقنادل    فوز المجري لازلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل للآداب    إصدار القرار الرسمي لتحديد مؤسسات المجموعة الصحية الترابية بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة    طوفان الذاكرة    قصة قصيرة : الكتَابُ الذي رفضَتْه تسع وثلاثون دار نشر    المؤتمر الوطني الثاني عشر للاتحاد الاشتراكي: من البناء التنظيمي إلى الانبعاث السياسي    حل بالمرتبة 47 عالميا.. تقرير يصنف المغرب ضمن فئة "الجوع المنخفض" ويوصي بدعم الفلاحين الصغار    منتجون مغاربة يتسلحون ب"الصمت" وتنويع الأسواق أمام غضب فلاحي أوروبا    الزاوية الناصرية تكشف تفاصيل منح "إسكوبار الصحراء" شهادة انتساب    دراسة: الجسيمات البلاستيكية الدقيقة تغير أعداد البكتيريا المعوية النافعة    أولى مراحل اتفاق غزة.. التنفيذ في 5 أيام وترامب يزور مصر وإسرائيل    الأوقاف تحرر خمسة ملايين مغربي من الأمية وتقلص المعدل الوطني بأكثر من 29%    المغرب وبلجيكا يبحثان آفاق شراكة اقتصادية جديدة    سنة 2025 شهدت ثالث أكثر شهر شتنبر حرا على الإطلاق    ناشطة سودانية تدعم سحب نوبل كرمان    ترامب: العالم توحد حول "اتفاق غزة"    لأول مرة في العالم .. زراعة كبد خنزير في جسم إنسان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الأرجنتين وكولومبيا والنرويج وفرنسا تواصل مسيرتها في مونديال الشباب    ترامب يعلن التوصل لاتفاق ينهي حرب غزة ويصفه بأنه "حدث تاريخي"    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    أردني من أصل فلسطيني وياباني وبريطاني يفوزون بنوبل الكيمياء    دراسة: النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بسبب عوامل وراثية    عنوان وموضوع خطبة الجمعة القادمة    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    وزارة الأوقاف تخصص خطبة الجمعة المقبلة: عدم القيام بالمسؤوليات على وجهها الصحيح يٌلقي بالنفس والغير في التهلكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.






سعيد العفاسي | ناقد فني
تطرح أعمال الفنانة رانية عقل، في مجموعتها "إبرة في جلد الذاكرة"، (إبداع 2025) سؤالًا ملحًا حول دور الفن في توثيق الذاكرة الجماعية ومساءلة العلاقة بين الجسد والتاريخ، فالفن هنا لا يكتفي بالتعبير عن الألم، بل يحوّله إلى خطاب بصري فلسفي، حيث يصبح الحمار، في صورته الهشّة والمثقلة، كائنًا يتجاوز وظيفته الحيوانية إلى أن يكون رمزًا أنطولوجيًا للوجود المهدّد، وشاهدًا على المأساة الإنسانية، اتسمت الأعمال بالتطريز والجرح البصري، لتضعنا أمام كائنٍ يبدو في الظاهر ضعيفًا، بليدا، لا حيلة له، لكنه في العمق يمثّل كرامة مثقلة تحمل العالم بصمت. وهنا تلتقي التجربة الفنية مع الفكر الفلسفي في أسئلته عن المعنى، والذاكرة، والألم، والصبر، وبهذا تشكل التجارب العربية المعاصرة مختبرًا حيًا لتفكيك الذاكرة الجمعية وإعادة تركيبها بلغة بصرية تستوعب الجرح الإنساني وتؤرّخ له بوسائط متعددة. ومن بين هذه التجارب اللافتة تأتي أعمال الفنانة رانية عقل، ولا سيما مجموعتها الفنية "إبرة في جلد الذاكرة"، حيث تنبثق صورة الحمار ليس كعنصر زخرفي أو تفصيل عابر، بل كحامل دلالات عميقة، ورمز مركّب يتقاطع فيه البعد الإنساني بالرمز الاجتماعي والسياسي والتاريخي، في هذه المجموعة، يصبح الحمار أكثر من مجرد كائن صبور؛ إنه شاهد على المحنة، وذاكرة متجسدة، وجسد يترنح بين الصبر والخذلان، بين الاستمرار والانكسار، فيما يزاول طائر السنون مهنة رصد ظله حيثما حل وارتحل، يراقب في كمد، لا يقترب إلى ظله، بل يبرق له بأنه على قيد الانتظار.
الفنانة رانية عقل
الحمار في المخيال العربي ليس مجرد حيوانٍ للخدمة اليومية، بل هو رمز متجذّر في الحكايات الشعبية، والأساطير، وحتى الأمثال التي جسّدت فيه صفات الصبر والتحمّل والغباء المزعوم أحيانًا. غير أن رانية عقل تتجاوز هذه الدلالات المباشرة لتعيد صياغة صورته بوصفه كائنًا إنسانيًا، يُحمَّل ما لا يُحتمل، ويُسقط عليه المجتمع أثقاله وجروحه، لكن يترك خيطا أحمرا رفيعا ينساب في كل الأعمال شاهدا ومؤرخا، يرصد مجرى الدم ويحفر في القلب دروبا مكلومة، في عمقها السر والأمل. ففي المجموعة الموسومة ب "إبرة في جلد الذاكرة"، اختفت الألوان من الأعمال، وبرز اللون الرمادي/ الرصاصي، يسكب في اللوحات جمرات المعنى ودلالات التأويل، لا يظهر الحمار كتجسيد للغباء أو الدونية، بل كرمز للجوع، والأسر، والحرمان، كائنٌ يتوسط بين الإنسان والتاريخ، بين الأرض والسماء، ويتحوّل إلى مرآة لخيبات الواقع العربي الراهن.، حيث تُقدّم الفنانة الحمار بجسدٍ مثقوب، مخرّق، مخترق، مثقل، كأن كل مسامه مفتوحة على ذاكرة نازفة. الخيوط الحمراء المطرّزة على جلده تحاكي خريطة الدم والجرح التي لا تنتهي، كأنها شرايين تمتد من جسد الحيوان/ الإنسان إلى جسد الوطن، ليكتسب التطريز وظيفة مزدوجة: وظيفة جمالية مرتبطة بالتراث الفلسطيني والعربي، حيث التطريز فن نسويّ يوثّق الهوية، ووظيفة رمزية تكشف أن الذاكرة المثقوبة لا تُرمَّم بل تُعرَّى، وأن الخيط الأحمر ليس للزينة، أو للتنبيه، بل هو نزيف مستمر. للحاضر وللقادم من الأيام، بهذا المعنى، يصبح جلد الحمار أرشيفًا للوجع، وسطحًا مرئيًا لذاكرة لا تندمل، وشهادة بصرية على علاقة الجسد الفردي بالجسد الجمعي، وعلى الرغم من أن الجسد الممزق يوحي بالخذلان، فإن رانية عقل لا تقدّم الحمار كضحية صامتة فقط، بل كرمز لكرامة تسير مثقلة. فهو ليس كائنًا مسحوقًا بلا معنى، بل شاهد يفضح العالم بعجزه، ويترك خلف سرا مدموغا بالأحمر يسيل لحد الإزعاج أو الاستفزاز، أو إثارة القلق بكل تجلياته، إن قوته ليست في "النهيق" الصراخ لإيصال المعنى، بل في صمته المدوّي الذي يحمل الوطن على ظهره، ويكشف تناقضات الواقع السياسي والاجتماعي، بهذا، تتجاوز الفنانة خطاب الضحية التقليدي، لتمنح الحمار حضورًا أخلاقيًا يوازي حضور القتلى، وكأنها تقول: "الصبر ليس خنوعًا، بل بطولة تُفضح عبر الاستمرار."

في هذه المجموعة التي تنماز بالحدة في المعنى، وسلطة البصيرة الحية، لا يمكن فصل الحمار عن مشهد القصف والركام، فهو الكائن الذي حمل في تاريخنا الجرحى والمؤن، ورافق الجنود والمقهورين، وها هو اليوم يظهر في لوحاتها مثقلاً بأثقال تفوق جسده النحيل، تارة يحمل دبابة، وأخرى يحمل إنسانا، وأحايين أخرى يحمل صدرية الصحافة، والسلاسل، والوقت، والزمن، والعبور، والتطريز الذي ينكأ الجراح في كل حين، الحمار هنا يتحول إلى جسر بين الماضي والحاضر: من زمن النكبة إلى زمن الحروب المتكررة، من ذاكرة القوافل التي حملت الأرزاق إلى حاضرٍ تُثقل فيه الأحمال السياسية والإنسانية. وكأن الفنانة تقول إن التاريخ يُعاد في شكل محنةٍ متكررة، والحمار الواقف على "هذه الأرض" هو الشاهد الصامت الذي يختزن تكرار هذه المأساة. على الرغم من أن تجربة الفنانة رانية تنطلق من سياق فلسطيني/عربي محدد، فإن رمز الحمار يتخطى الحدود الجغرافية، ليصبح "أنا" و"أنت" و "هي" في كل سياقات المعنى الجارفة، وليطرح إشكاليات إنسانيًا كونية: كيف يمكن لجسدٍ هشّ أن يتحمّل أثقالًا تفوق قدرته؟، ما معنى أن يُحوَّل الكائن المهمَّش إلى حامل للذاكرة الجمعية؟، أين يقف الفن أمام عجز العالم عن حماية الكائن الأضعف؟، أين "أنا" و"أنت" و "هي" في كل الأمكنة والأزمنة المتاحة وغير المتاحة؟، لتتجاوز التجربة بعدها المحلي لتخاطب ضميرًا عالميًا، يجعل من الحمار رمزًا للإنسانية المهانة، وللصبر الذي يكشف خيانة العالم.
في المجال التقني تتميّز مجموعة "إبرة في جلد الذاكرة" بلغة تشكيلية تقوم على هندسة التطريز كوسيط، حيث يمتزج الفن التشكيلي بالفن الحِرفي، في إعادة اعتبار للفنون الهامشية وربطها بالذاكرة الجمعية، بالألوان المتناقض، "أبيض ضبابي ورمادي في مختلف هيئاته يوحي بالركام، وأحمر يركز بصر المتلقي على حجم المأساة، يرمز للنزيف والذاكرة الفردية والجماعية العطشى للباقي الألون/ الطبيعة، وأصفر يستفز البصيرة قبل البصر، وكأنه يطالب بالتأمل والتركيز، وبوقفة، وأهبة، بما سيأتي، ثم يأتي الفراغ والامتلاء، حيث يُترك الجسد في فضاء مفتوح كأنه معزول، لكنه ممتلئ بالأثقال الداخلية، نحمل بصريا حيثما تنقلت أعيننا في الأعمال، غياب الظل في المجموعة، ليس تفصيلاً عرضيًا بل اختيار جمالي وفلسفي واعٍ. الظل في العادة يحيل إلى أثر الوجود، إلى ما يتبقى من الجسد حين يواجه الضوء، غير أن غيابه هنا يشي بغياب المرجعية: فلا جسد كامل، ولا نور كافٍ، بل أطياف معلقة بين العدم وما تبقى من ذاكرة مثقوبة. إن الأرض التي دمرتها الحرب لا تسمح بوقوف الظلال شامخة؛ فالشموخ يفترض ثباتًا ومكانًا، بينما الخراب لا يترك سوى فراغ متشظٍ. الظل، الذي عادة ما يكون شاهدًا صامتًا على الفعل الإنساني، يستحي من أن يطلّ كي لا يضطر لأن يكون شاهداً على الدماء التي نزفت، وعلى الخراب الذي غلّف المكان بلون رمادي قاتم. وكأن الفنّانة قررت أن تسحب شهادة الظل من المشهد، فلا مراقبة ولا تسجيل، بل انقطاع عن الأثر، غياب الظل يرتبط أيضًا بغياب الضوء نفسه. فاللوحة التي يغمرها الرمادي ليست سوى فراغ ضوئي، حيز تائه بين السواد والبياض، حيث لا إشراقة تكفي لتوليد الظلال. بهذا المعنى، يقدَّم لنا العالم كمكان بلا مرجعيات بصرية: لا شمس تعطي الحياة، ولا ظل يمنح الكائن شعورًا بوجوده الممدود. إننا أمام انمحاء مزدوج: محو الضوء، ومحو أثره في الظل. بهذه التقنية، تضع رانية عقل المتلقي أمام معضلة الوجود ذاته: ماذا يعني أن نكون بلا أثر؟ كيف نحضر إذا غاب ظلّنا، وكيف نحتفظ بذاكرة حين يثقبها العنف مثل إبرة لا تكفّ عن الوخز؟ غياب الظل هنا ليس نقصًا بصريًا، بل استراتيجية نقدية لإعلان العدم الذي تخلّفه الحرب. إنه حضور الغياب، وتجسيد ملموس للذاكرة المثقوبة، حيث يصبح الرمادي لغةً للخراب، وإلغاءً لثنائية الضوء/الظل التي تأسس عليها الإدراك البشري للعالم. بهذا، يتحول العمل الفني إلى مختبر وجودي يسائل علاقتنا بالزمن، بالذاكرة، وبالمكان الذي لم يعد يسمح حتى لظلالنا أن تنمو فيه، يتحول غياب الظل من عنصر تقني إلى علامة دلالية تنفتح على أسئلة الوجود، والذاكرة، وأثر الحرب. فالفن هنا لا ينقل المشهد كما هو، بل يعيد صياغته ليكشف عن عمق المأساة الإنسانية المضمَرة خلف الصور، أول ما يواجه المتلقي في هذه الأعمال هو الغياب الممنهج للظل. تقليدياً، يرتبط الظل بالوجود الجسدي ويُعتبر أثرًا للنور، لكنه في فضاء محذوف عمدًا، وكأن الفنانة تعلن أن الخراب لم يترك مجالًا لأي أثر أن يستمر. فالأرض المدمَّرة لا تسمح لظلال شامخة بالوقوف، إذ إن الشموخ يتطلب مكانًا ثابتًا وزمنًا مستقرًا، بينما الحرب ألغت الاثنين معًا. من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى غياب الظل بوصفه محوًا للشهادة البصرية. فالظل في طبيعته شاهد صامت يرافق الجسد ويسجل وجوده، لكن الفنانة تستبعده لئلا يكون مراقبًا لفيض الدماء وخراب المكان. هنا يتحول الصمت البصري إلى موقف أخلاقي، انسحاب الظل كي لا يتورط في فعل الشهادة، وكأن العمل الفني نفسه يرفض لعب دور المتفرج على المأساة، فيما يرتبط غياب الظل بغياب الضوء. اللوحات المغمورة في الرمادي تؤسس لفضاء بصري أقرب إلى العدم، حيث لا بياض يفتح على الأمل، ولا سواد يحسم النهاية، بل مساحة ضبابية معلّقة. وفي غياب الضوء يغيب الظل بالضرورة، ليكشف لنا العمل عن انمحاء مزدوج: اختفاء المصدر (الضوء) واختفاء الأثر (الظل). بهذا يصبح الرمادي لغة الخراب ووسيلة لنفي المرجعيات البصرية والمعنوية على حد سواء.
على المستوى الفلسفي، فإن هذه الاستراتيجية البصرية تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا، ماذا يعني أن نكون بلا ظل؟، فغياب الظل هو نفي للامتداد، ومحو للأثر الذي يؤكد حضور الكائن في الزمن والمكان. إن غياب الظل في أعمال رانية عقل ليس مجرد تقنية تشكيلية، بل هو موقف فلسفي وجمالي يختزل مأساة الحرب في صورة صامتة، حيث تتجسد الذاكرة المنتهكة في فضاء بلا ضوء وبلا أثر. بهذا يصبح الفن مساحة لتجسيد الغياب نفسه، وإعلانًا عن هشاشة الوجود في مواجهة آلة الخراب، هذه البنية التشكيلية تجعل من العمل الفني نصًا بصريًا لا يكتفي بالتمثيل، بل يُنتج خطابًا نقديًا يعيد مساءلة الذاكرة والهوية. من أبرز الإسهامات الفكرية في قراءة المجموعة، أنها تضع قيمة الصبر موضع تساؤل. فالصبر هنا ليس فضيلة دينية أو أخلاقية مجردة، بل ثقل وجودي يفضح الظلم. الحمار لا ينهار، لكنه أيضًا لا يفرح؛ هو كائن معلّق بين القدرة على الاستمرار والعجز عن التحرّ، بهذا، تكشف الفنانة أن الصبر، حين يتحوّل إلى قدر مفروض، قد يصبح مرادفًا للخذلان، أي أن الحمار رمز للبطولة والهزيمة في آن واحد، إن قراءة أعمال رانية عقل، "إبرة في جلد الذاكرة" تكشف عن تجربة فنية عميقة تنسج بين الجسد الفردي والجسد الجمعي، بين التراث والراهن، بين الجمالي والسياسي، بين القبح والجمال، والخسيس والنفيس، فيها الكثير من التأويل، والتمحيص، والقراءة. الحمار في هذه التجربة ليس مجرد رمز للصبر، بل هو شاهد على المحنة، وفضيحة أخلاقية للعالم، وذاكرة حيّة تتكلم بالصمت، الصمت في الدلالة الفلسفية يتجاوز كونه غيابًا للكلام، ليغدو فعلًا من أفعال الوجود، فهو مساحة للتأمل والكشف، حيث تنكشف الذات على حقيقتها بعيدًا عن ضوضاء اللسان أو اللغة، أو الإماءة، أو الإشارات كما يمنح الصمت حضورًا للمعنى العميق الذي تعجز الكلمات عن حمله، ليصبح بذلك لغة ما وراء اللغة، وفي بعده الأخلاقي، يشكل الصمت مقاومة للزيف وإمساكًا عن التواطؤ مع الباطل، الصمت بمعنى أخر تمرين على الإصغاء، ليس للآخرين فقط، بل للكون وللداخل الإنساني العميق. إنه شرط للوعي الجمالي، حيث تتجلى في فراغه إمكانات الإبداع. وفي أفقه الوجودي، قد يكون الصمت علامة قلق أمام لغز الحياة، أو طمأنينة تحاكي السكينة المطلقة. هكذا يتحول الصمت إلى موقف فلسفي يجمع بين المعرفة والحرية والسمو الروحي، والبحث عن الجدوى. الحمار هنا يشكل المفارقة، فهو صابر، لكنه أيضًا ضحية عالمٍ تركه وحيدًا يحمل ما لا يُطاق. إنه كائن يختصر سؤالًا فلسفيًا عميقًا: هل الصبر قوةٌ خلاقة، أم هو شكلٌ من أشكال الإخضاع والقدرية؟، الحمار وسط الركام ليس مجرد مشهد واقعي، بل استعارة فلسفية للوجود الإنساني المعلّق بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس. هذا ما يمكن قراءته في ضوء فلسفة ألبير كامو عن العبث: العالم عبثي لأنه يثقل الكائن بما لا يطيق، لكن الاستمرار في السير، كما يفعل الحمار، هو رفض للاستسلام، هو فعل مقاومة صامتة، بهذا المعنى، يصبح الحمار بطلًا عبثيًا شبيهًا ب "سيزيف" الذي يدحرج صخرته إلى الأبد، لكنه في صمته يعلن رفض الانكسار، ليس الحمار ضحية(صامتة) فقط، بل كرامة تمشي مثقلة، تحمل الوطن على ظهرها، وتفضح الخذلان الجماعي، وبهذا المعنى، تضع رانية عقل المتلقي (الواعي بالعملية التشكيلية وبهندسة التشابكات المعرفية) أمام سؤال مركزي: هل ما زال الصبر فضيلة حين يتحوّل إلى قدر جماعي لا نهاية له؟ وهل يمكن للفن أن يخيط بجرح الذاكرة ما عجز التاريخ عن مداواته؟
في هذه المجموعة "إبرة في جلد الذاكرة" يتحول الصبر من خيار فردي إلى قدر جماعي ممتد، يفقد شيئًا من وهجه كفضيلة، ويغدو أشبه بحالة قسرية يفرضها العجز عن التغيير، الصبر هنا لا يعود فعل قوة داخلية، بل يصبح وجعًا مؤبدًا يهدد بتحويل الجماعة إلى كائن معلّق بين الأمل واليأس. ومع ذلك، يبقى الصبر شريان بقاء، لأنه يحول المعاناة إلى طاقة انتظار وحلم. أما الفن، فهو ليس مجرد ترفٍ جمالي، بل خيط سرّي يحاول خياطة الشقوق العميقة في الذاكرة الجمعية. إنه يمنح للجرح لغة، وللألم صورة، وللمنسيين حضورًا يعيد صياغة التاريخ بما لم يقدر المؤرخون على إنصافه. في الفن تكمن إمكانية مقاومة النسيان، حيث تتحول الندبة إلى شهادة حيّة. وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن الفن يمنح صوتًا للمهزومين والمقموعين. وهكذا، يصبح الفن فعل مقاومة للزمن، والصبر فعل مقاومة للانكسار. يظهر الحمار في هذه الأعمال ليس كحيوان أليف، بل ككائن يواجه شرط الوجود في أقسى صوره. جسده الممزّق هو صورة الإنسان نفسه، إذ يعيد إلى الذهن أطروحات مارتن هايدغر حول "الكائن نحو الموت"، حيث الجسد يظلّ محاصرًا بالزمن والفناء. لكن الحمار، رغم هشاشته، يواصل السير. هنا تتجلى المفارقة: إنه كائن ينهض رغم انهياره، ما يجعله رمزًا للوجود المقاوم، ولقدرة الحياة على الاستمرار وسط الركام. في هذه الأعمال أيضا يطل علينا السنونو ليس مجرد طائر عابر، بل شاهد يكتب حضوره في ذاكرة الأمكنة، جناحاه الرفيفان يحكمان السماء كصفحتين مفتوحتين للمتلقي. حين يحطّ على الأسلاك أو يلامس السراب، يترك أثر العابر الذي رأى ولم ينطق. إنه شاهد صامت على الحروب والمواسم، على الولادات والرحيل. يطلّ كل ربيع كأنه يعيد للأرض وعدًا قديما بالحياة. في حضوره تذكير بأن العودة ممكنة، مهما توغّل المنفى في الروح. السنونو يرى لكنه لا يحاكم، يسمع لكنه لا يشي. هو شاهد محايد يحفظ سرّ الذاكرة في عينيه السوداوين. وبذلك يغدو رمزًا للعين الكونية التي تتخطى حدود البشر والتاريخ. السنونو في جوهر رمزيته كائن يذكّر الإنسان بمحدودية مقامه وامتداد رحلته. فهو لا يعرف الثبات إلا لحظة، ثم يعاود الطيران كأن الأرض ليست سوى استراحة بين سماء وأخرى. في عينيه ينعكس وعي غامض بأن الحياة حركة أبدية لا تعرف الركود. ومن هنا يصبح السنونو في فلسفة أعمال الفنانة رانية عقل علامة على الحرية المشروطة، حرية تعانق الأفق لكنها لا تنفصل عن دورة الطبيعة. إن حضوره يطرح سؤالًا عن معنى الشهادة: هل يكفي أن يرى المرء ليكون شاهدًا، أم أن الشهادة فعل مشاركة ومسؤولية؟، في صمته يختزن السنونو حكمة تقول إن المراقبة الصامتة قد تكون أبلغ من الكلام، ومع ذلك، يظل السنونو مخلوقًا هشًا، يُذكّر بأن الشاهد نفسه عرضة للغياب/التغييب. هكذا يضعنا أمام مفارقة، أن الوجود شاهد وزائل في آن واحد. وفي هذا التوتر يتجلّى سرّه الفلسفي.
الخيوط الحمراء المطرّزة على جلد الحمار ليست زخرفة، بل "كتابة جراحية" على سطح الجسد. إنها تذكّرنا بما أشار إليه بول ريكور في حديثه عن "الذاكرة الجريحة" التي لا تُمحى، رمزية الخيوط تمتد كنسيج يربط الماضي بالحاضر، خيطًا فوق خيط تتشكل منه هوية الجماعة. هي دم يسري في العروق، يذكّر بأن الحياة ليست إلا استمرارًا لذاكرة الأجداد. وفي الوقت ذاته تتحول إلى لغة صامتة، تفكك رموزها الأرواح قبل العقول، هي إشارة خفية للانتماء، علامة على أننا لسنا عابرين في هذا الوجود، وحين تتشابك الخيوط، تصبح شبكة مقاومة للنسيان. إنها تشبث بالجذور، كأنها تقول: هنا بدأنا، وهنا نعود. كل خيط يحمل قصة عشق أو فقد أو تضحية. ومع ذلك، تظل حمراء لأنها مشبعة بحرارة الألم والدم. إن الخيوط الحمراء تذكّر بأن الهوية ليست مجرد فكرة، بل جسد حيّ نابض. وفي امتدادها يظل السؤال قائمًا، هل نحن من ينسجها، أم هي من تنسجنا؟، في "إبرة في جلد الذاكرة"، الخيوط الحمراء ليست مجرد علامات حسية، بل هي استعارة فلسفية لعلاقة الإنسان بالزمن والمعنى. فهي تكشف أن الهوية ليست كيانًا جاهزًا، بل نسيجًا يتجدد كلما امتدت اليد إلى الماضي لتصوغه في الحاضر. لونها الأحمر يحيل إلى التوتر الدائم بين الحياة والموت، بين الفقد والولادة. وحين ننظر إليها بوصفها دمًا رمزيًا، ندرك أن كل وجود فردي لا ينفصل عن جماعة كبرى تغذّيه بذاكرتها. إن الخيط هنا هو الرابط غير المرئي بين الحرية والانتماء، إذ لا يمكن للذات أن تتحقق إلا داخل نسيج أوسع. كما أن هذه الخيوط تحمل وظيفة معرفية، فهي إشارات توجهنا وسط متاهة الذاكرة والتاريخ. لكنها في الوقت نفسه قيود، لأنها تحدد مسارنا داخل شبكة من المعاني الموروثة. ومن هنا يظهر السؤال: هل التشبث بالجذور هو حفاظ على الذات أم تعطيل لإمكان التحرر؟، الخيوط الحمراء تضعنا أمام معضلة الكينونة، نحن كائنات منسوجة بخيوط غيرنا، لكننا نحاول في كل عقدة أن نترك بصمتنا الخاصة، دون أن يعبث بها مريض الخيوط، الخيوط التي تتدلى شامخة من ظهر الحمار ليست مجرد ناقلة للذاكرة، بل ذاكرة مجسّدة، تنزف باستمرار، كأنها تقول إن الماضي لا ينتهي، بل يُعاد إنتاجه على هيئة جرحٍ متجدّد، بهذا المعنى، يتحوّل الجلد إلى أرشيف فلسفي يكتب التاريخ لا بالكلمات، بل بالندوب والخيوط.
من أبرز أفكار هذه التجربة أن رانية عقل لا تقدّم الصبر بوصفه فضيلة خالصة، بل كمعضلة فلسفية. فالصبر، حين يكون خيارًا حرًا، هو قوّة روحية كما عند الرواقيين، أما حين يُفرض قسرًا على الكائن الضعيف، فإنه يتحوّل إلى شكل من الخذلان التاريخي. تضعنا المجموعة أمام صدمة الصورة التشكيلية، الحمار الذي حمل المؤن والجرحى في الماضي، يُترك اليوم مثقلاً بالركام، هذه الصورة تستدعي فلسفة إيمانويل ليفيناس حول "وجه الآخر" بوصفه نداءً أخلاقيًا لا يمكن تجاهله.
فالحمار هنا ليس "شيئًا" بل "آخر" يستدعي مسؤوليتنا الأخلاقية، إنه وجهٌ يفضح العالم بعجزه عن إنصاف المهمّشين والمقموعين، وهكذا تتحوّل اللوحات إلى احتجاج فلسفي ضد اللامبالاة العالمية، وضد خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، تدمج رانية عقل بين الفن التشكيلي والتطريز، وهو فن نسوي مرتبط بالذاكرة الفلسطينية. هذا الدمج لا يخلو من بعد فلسفي، فالإبرة التي تخرق الجلد ليست مجرد أداة تزيين، بل رمز للفن بوصفه محاولة لترميم المستحيل، إنها تستعيد ما قاله ثيودور أدورنو، "الفن هو شكل من أشكال قول الحقيقة وسط العجز عن قولها مباشرة"، لأن التطريز في مفهومه الفلسفي ليس مجرد زينة للثوب أو زخرفة للسطح، بل هو كتابة بالصمت على قماشة الوجود. كل غرزة خيط تمثل محاولة لإنقاذ التبعثر من السقوط في العدم، فالتطريز هو جمع لما سيتفرق، وربط لما قد ينفلت. في تشابك الخيوط تتجسد جدلية الوحدة والكثرة؛ إذ لا قيمة للخيط منفردًا، بينما يصير في النسيج معنى وشكلاً وحياة. إنه فعل مقاومة ضد التفكك، كما هو فعل إبداع يرمز إلى إمكانية الانسجام وسط التناقض، التطريز بهذا المعنى يحاكي مسيرة الإنسان الذي يخيط ذاته من شظايا التجارب. هو فلسفة تروي أن الجمال لا يولد من الكمال، بل من التنسيق بين الخيوط المتنافرة. هكذا يصبح التطريز استعارة للوجود نفسه، نسيج من فوضى منسوجة بعناية، ليصبح التطريز ليس مجرد مهارة يدوية، بل هو حوار مع الزمن، حيث كل غرزة تحفظ لحظة، وكل لون يروي شعورًا. إنه تذكير بأن كل جزء صغير من الحياة، مهما بدا تافهًا، يمكن أن يساهم في الكل الجميل. وفي تكرار الحركة، نجد صبرًا وتأملًا، كأننا نعيد ترتيب الكون داخليًا قبل أن نرتبه خارجيًا. التطريز يعلّمنا أن المعنى ليس في الانفراد، بل في التشابك؛ كل خيط يلتقي بخيط آخر ليخلق لغة صامتة. إنه استعارة للذاكرة التي نخيطها يوميًا من أحداثنا، وللجروح التي تصبح زخارف بعد مرور الوقت. وهكذا، كل نسيج يصبح شهادة على القدرة الإنسانية على تحويل الفوضى إلى انسجام، وعلى صنع الجمال من التناقضات. إنه فعل مقاومة، وتجسيد للوعي بأن الحياة، رغم تعقيداتها، قابلة للتشكيل بعناية وحب. وفي النهاية، يعلّمنا التطريز أن الكمال ليس هدفًا، بل رحلة من التنسيق بين ما هو متفرق، ومن الحياكة الواعية لكل لحظة وكل خيط. فالخيط الأحمر في أعمال مجموعة رانية عقل ليس جمالية بحتة، بل شهادة بصرية على ما لا يُقال. صورة الحمار المثقل بالذاكرة قد تنبع من سياق فلسطيني/عربي محدد، لكنها تتجاوز حدود الجغرافيا لتطرح سؤالًا كونيًا: ماذا يعني أن يُحوَّل الكائن الهشّ إلى حامل لذاكرة العالم؟، إلى أي مدى نستطيع تحميل الضعيف ثقل التاريخ؟، هنا تلتقي تجربة "إبرة في جلد الذاكرة" مع الفلسفة الأخلاقية الكونية، حيث الفن يصبح لغة مشتركة بين الشعوب، يفضح الظلم، ويذكّر بأن المحنة إنسانية قبل أن تكون محلية.
إن قراءة مجموعة "إبرة في جلد الذاكرة" تكشف أن رانية عقل لا تشتغل فقط في حقل الفن التشكيلي، بل في فضاء فلسفي حيث يلتقي السؤال الجمالي بالسؤال الوجودي، والإشكال الفني بالإشكالات الفلسفية التي لا تبحث عن الجواب الممهور بالحقيقة، بقدر ما يفتح المجال للبحث التقفي، بهذا، تمنح الفنانة رانية عقل المتلقي فرصة للتأمل في معنى الصبر، وفي حدود الاحتمال البشري، وفي عجز العالم عن إنصاف المقهورين. الصبر في حدوده البشرية ليس مجرد انتظار، بل مقاومة هادئة لعنف الحياة. هو تحمل الجراح بلا استسلام، ومحاولة مواصلة السير رغم الثقل الذي يثقل القلب. في الصبر إدراك للقصور البشري، لأن الإنسان لا يملك كل المفاتيح ولا يغير مجرى الأحداث وحده. هو أيضًا معرفة بضعف العالم، بعجزه عن إنصاف المقهورين، وبأن العدالة غالبًا ما تتأخر أو تهمل. مع ذلك، الصبر ليس استسلامًا، بل نوع من القوة الداخلية، ووسيلة للحفاظ على كرامة النفس أمام الطغيان. في صمته درس للآخرين، وفي ثباته شهادة على قدرة الإنسان على الاحتمال. هو إدراك أن الحياة ليست دائمًا عادلة، وأن السكون أحيانًا يكون فعل مقاومة أعظم من الصراخ. الصبر يعيد ترتيب القلب قبل الأحداث، ويخلق مساحة للوعي وسط الفوضى. هو حبل رفيع بين الاستسلام والأمل، بين ألم الواقع ورغبة الإنسان في التمسك بما هو صحيح وإن بدا مستحيلاً، لتقول في النهاية، إن الحمار في جلد الذاكرة ليس مجرد ضحية، بل كرامة تمشي مثقلة، تفضح العالم وتعيد إلينا سؤال: هل يمكن للفن أن يرقّع ما عجز التاريخ عن ترميمه؟، ومن هنا تبدأ القصة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.