للوهلة الأولي، تبادر إلى ذهني أنها كذبة نيسان أو شيء من هذا القبيل، لكن نيسان قد ولى، ليس هو فحسب، بل أنيس منصور كذلك ! نعم، لقد رحل نجم من نجوم بلاط صاحبة الجلالة،الأديب الصحفي أنيس منصور ...والسلام ! السلام على أدب الرحلة، السلام على المقالة والسلام على الأسطورة، السلام على ذاك الذي برع في القول السديد مؤلفا كتبا أناطت عنا لثام الظلام...رجل تصدى للجهالة والفكر العقيم دون استسلام،وككل مفكر في بلادنا، رموه بالعمالة، رموه بالخيانة لمصر لأنه كان رافعا لواء التطبيع مع إسرائيل ،ملوحا بالسلام ، معيدا أمجاد أنور السادات ومباركا له هذه الخطوة ... فمات الجهال وهم أحياء، وخلد أنيس منصور وهو في ظلمة القبر، فليست الحياة بعد الأنفاس، وليس الممات بعد الذكريات. فكم من ميت في القبر حي في القلوب والأذهان، وكم من حي يرزق ميت في القلوب والأذهان. يذكرني هذا بما قاله محمود درويش رحمه الله: ببلادنا، كتب مقدسة، وجرح في الهوية... أو أنت ثانية ألم أقتلك؟ قلت بلى ! قتلتني... ولكني نسيت مثلك... أن أموت ! فالجهل ببلادنا العربية مقدس، العادات والتقاليد والممارسة المزاجية للدين والخوف من الآخر عندنا ثوابت، والهوية في ظل هذا كله تنزف، تنزف من مكنونها الفكري الوجداني، الذي هو الحمولة الفكرية الحقة للدين، وليس سفاسف الفتاوى وهوامش بقايا كتب الأثرة، الذي هو الثقافة الحقة التي تدعو إلى التعايش والسلم وفهم الآخر، وليس هز البطون ولي الخصور وشتم الغرب وقيمه، الذي هو الفكر النقدي المتحرر والمطلق، الذي لا يبقي ولا يذر من صغيرة ولا كبيرة إلا ووضعها أمام ميزان العقل... كانت هذه معركة أنيس منصور،بفكره حيث كان يسبح في ملكوته الخاص فيما وراء الطبيعة واكتشاف عالم الحيوان عل هذا الخير يهبه حقه أحسن من أي إنسان خالوا أنهم قتلوه، وما قتلوه وما ثبطوا من همته، إنما هم الميتون، لكنهم نسوا حقيقتهم إذ غرتهم هتافات الرعاع والجهال فبقوا حيث هم... ككل مواطن عربي اعتدت قراءة مقالات الأديب أنيس منصور على صفحات جريدة الشرق الأوسط قرأت عنك، وتتبعت بعضا من حواراتك في الصحافة المكتوبة و المرئية، أعجبت بجرأتك في الطرح في الصالون الأدبي الذي كنت من عرابيه ومرتاديه ،وببعض طرائفك التي نقلها عنك المقربون منك ،آخرها الطرفة التي جرت بينك وبين سوزان مبارك زوجة مبارك المخلوع: حينما سألتها: هوه سيادة الريس بياكل زبادى؟.. اندهشت وقالت: هذا السؤال يبدو أنه ليس بريئا، ماذا تقصد بالضبط؟.. قال: أبدا.. أصل الريس لو كان بياكل زبادى، أكيد كان سيلاحظ أن كل شيء له تاريخ لانتهاء الصلاحية.. ثم أكمل مخففا وملطفا: أقصد أن كل وزير أو مسؤول له أيضا تاريخ انتهاء صلاحية. وهنا دخلت السيدة فى الصمت الرهيب. "... أعرف عنك أنك مناضل سياسي، أكاديمي، مفكرو أديب صحفي لامع يشهد له العالم العربي بأنه من نجوم بلاط صاحبة الجلالة في مصر بامتياز... وما أعرفه عنك أيضا لا يتعدى تلك الصورة الإعلامية النمطية التي ارتضتها لك بعض الأقلام المأجورة لتلويث سمعتك كصحفي لامع وأديب مشهور ،غير أني أحسب أنك عن ذلك أرقى وأرفع، لكن قدرك أنك بعثت في بلد نظامه مستبد لا يرضى عن الصحافة التي تمجد حكمه بديلا... هكذا إذن، رحل أنيس منصور وهو ما يفتأ يكرر: "ليست عندي إلا هذه الرغبة القوية في أن ألمس بأصابعي هذا الكون...وأن أقيس السماء بالشبر...وان أحتضن الأبدية..وان أعتصر النور في قلمي سهولة ووضوحا وجمالا ومتعة..وان أكون قادرا على ذلك حتى الموت..." لن أجترئ عليك فأتناول مسيرتك الفكرية بالتحليل والتمحيص، فمقالاتك شاهدة على ذلك وكتبك ،فرحمة الله عليك يا نجم الفكر والصحافة ...افتقدناك مهما اختلفنا معك سياسيا ستبقى مقالاتك محفورة للذكرى شاهدة على عصر التنوير والإبداع والتفكير في الملكوت الآخر... -------------- [email protected]