حظيَ شخصُ الملك الراحل المرحوم -بإذن الله- الحسنِ الثاني بإعجاب وإكبار عَظِيمَيْن, من قبل المغاربة وغير المغاربة؛ إذ كان ملكا لبيبا وفصيحا وحكيما وشجاعا, له مواقفُ مشهودة ومحاسنُ عديدة, أكسبته القبول, وكتبت له المحبَّة والتعظيم, وتعدُّ مرحلةُ حكمه على المملكة المغربية (1961 – 1999م), مِن أزهر وأزهى صفحاتِ تاريخنا المغربي, تمثِّل غُرةً بيضاءَ في جبين هذا البلد السعيد, ونجما لامعا في َسَماء هذا الرَبع المجيد, ولا أدلَّ على ذلكَ من اعتنائه الملكيِّ ببناءِ مغربٍ حديث, وتشييد دولةٍ قَوِيَّة مكينة, لها مؤسساتها ومواردُها, ومصانعها وخيراتها, التي مازلنا ننعم تحت ظِلِّها إلى الآن -ولله الحمد-. وقد جَمَعَ مَلِكُنا الراحل إلى جانب سياسته الرشيدة, ثقافةً ومَلَكةً عِلمية حَسَنة, شَهِد له بها خواصُّه وجُلَسَاؤه, فكان خبيراً بالعُلوم الإسلامية, ومُطلعا على الثقافة العربية, ومحبا لمجالس العلماء والأدباء, وقد اصطفى لمجلسه خِيرةَ أهل العلم, وكبارَ الفقهاء والأدباء, الذين شّنَّفُوا أذُنَه بالأشعار والقصائد, وأطربوه بنفائس نصوص الأدب وروائعه. ويُفيدُنا مؤنِسُ الملك الفقيه محمد بِنْبِينْ باهتمامات الملك الأدبية, وعِشْقِه العَمِيق للمقامات, التي كان المؤنسُ يتلوها عليه كلَّ ليلة قُبَيْل هُجُوع الملك[1]. إضافةً إلى اهتباله بعلم النحو, واستدعائه الشعراءَ لمجلسه ومَحْفَله طَوالَ عهده الزاهر. وهذا الاهتمام الأكيد باللغة العربية من قِبل الملك يدفعنا للقول بأنه ربما قد زبر بيده المَلَكِيَّة أبياتا شعرية, بل قصائدَ حسانا, ونَسَجَ خطوطا نثرية ونصوصا أدبية تكشف عن ارتباطه العميق بالأدب, وَوَلعِه بفنون القول ومحاسن الكلام, فهل كان الحسن الثاني شاعرا وناثراً ؟ للإجابة عن هذا السؤال, يجب علينا الرجوعُ إلى شهادات خواصِّ الملك ورفقائه الذين تقلبوا تحت سقف قصره, خاصَّة العلماءَ منهم والفقهاء, ثم العودةُ إلى خِطاباته وقالاته, سواء التي جُمِعت في ديوان أو التي ظلت رهينَ الأرشيفات والمسجِّلاَت. وإذا كان المثل يقول: "يَكفي من القلادة ما أحاطَ بالعُنُق"[2], فقد أفادتنا مصادرُ خاصة, بعضُها شفوي والآخر مكتوب, بالحياة الأدبية للحسن الثاني, وأنه حقا ملكٌ شاعر وناثر, له مشاركات شعرية عظيمة, وكتابات رائقة ترفعه إلى صَف السلاطين الشعراء, وترصِّع ترجمته وسيرتَه العِلمية[3]. فإذا ولَّينا أوجهنا شطر شعر الحسن الثاني, فإنه شعر رقيق, ونظم أنيق, يساوق أُبَّهَة الملوك, وينبئ بأن قائله ملكٌ تَمَلْمَل وتهادى بين أروقة القصور ودهاليز البلاطات الملكية, كما أنه يدل على عَميقِ مشاعر صاحبه, وعظيم قدراته الذهنية على التصوير والتَّشكيل, ويذكر الأستاذ عباس الجراري هذين البيتين للحسن الثاني في التغني بمراكش[4]: بَعْدَ شَوْقٍ وَتَمَنِّ — هَا هُوَ الْيَوْمَ أَتَانِي فَأَنَا الْيَوْمَ أُغَنِّي — زَارَنِي حِبِّي وَثَانِي وقد حُفظت عن الملك قصيدة غزلية رقيقة, قال فيها في وصف فتاةٍ أحبَّها[5]: تَتَهَادَى بِجِسْمِهَا كَالْغُصُونِ — بِمَهَبِّ الرِّيَاحِ وَالنَّسَمَاتِ لَهَا نَهْدٌ كَأَنَّهُ حُقُّ عَاجٍ — وَذِرَاعٌ يَسْتَلْفِتُ النَّظَرَاتِ فَلاَ يَوْمٌ قَضَيْتُه فِي هَنَاءٍ — وَلاَ لَيْلٌ تعيش فِيهِ حَيَاتِي وذكر الفقيه بنبين بأن هذه القصيدة تقع في خمسين بيتا[6]. كما أن الملك الراحل عارض قصيدة أبي القاسم الشابي (إرادة الحياة), فنسج على منوالها قطعة ألقاها في مؤتمر افتتاح قمة دول المغرب العربي قال فيها[7]: إِذَا الْيَوْمَ نَحْنُ أَرَدْنَا اللِّحَامْ — فَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ وَلاَ بُدَّ لِلْجَفْوِ أَنْ يَنْثَنِي — وَلاَ بُدَّ لِلْحُبِّ أَنْ يَنْتَشِرْ هَلُمُّوا بَنِي الْعُرْبِ نَحْوَ العُلاَ — لِنَرْفَعَ مَا قَدْ هَوَى وَانْدَثَرْ فَلاَ بُدَّ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِي — وَلِلضَّوْءِ -وَاللهِ- أَنْ يَنْفَجِرْ وقد تميز الملك بشخصية صوفية متدينة, تُعَظم أهل البيت, وتعتقد في الصوفية والأولياء, ولدينا قطعة شعرية أنشدها الملك ارتجالا بين يدي مؤنسه محمد بنبين, يمدح فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسل به إلى الله, فبعد أن أرسل الفقيه بنبين عِنان شعره, وأرخى ظلال محفوظه من قصائد الصوفية والصلحاء في مجلس جَمَعَه بالحسن الثاني, إذا بملكنا ينصهر في هذه القصائد, ويتواجد ويطرب لها, فيقول للفقيه مباشرةً: خذ القلمَ أيها الفقيه واكتب: يَا رَسُولَ الإِلَهِ إِنِّي سَلِيلٌ — وَسَلِيلُ الرَّسُولِ يَرْجُو تَحِيَّهْ كَفَى بِالْمُصْطَفَى نَبِيًّا وَحِبَّا — كَفَى بِالمُصْطَفَى شَفِيعَ الْبَرِيَّهْ كَفَى بِالْمُصْطَفَى لِسُقْمِيَ طِبَّا— كَفَى بِالْمُصْطَفَى هَدَى الْبَشرِيَّهْ عَلَى هَامِ الرُّسْلِ الْأَكَارِمِ تَاجٌ — أَحْمَدٌ لِلْوَرَى هُدىً وَهَدِيَّهْ[8] ولعله يتبين لنا تعددُّ الأغراض التي نظم فيها الحسن الثاني الشعر من وصف ومدح وغزل وغير ذلك, كما أننا نقف على مدى تمكن الحسن الثاني من اللغة العربية, واطلاعه على غريبها ومعجمها الجزل الفصيح, وللملك قدرةٌ ألمعيةٌ في التصوير والتشبيه, كما في قطعته الغزلية, وبهذا نكون قد كشفنا جانبا مغطى من الحياة الأدبية والعلمية للحسن الثاني قدس الله روحه, ولعلنا نطوف في مقال قادم –بحول الله- حول نثر الحسن الثاني وبراعته الكتابية السَّردية. [1] – يُنظر تفاصيل ذلك في كتاب: مؤنس الملك, ماحي بنبين. ص:166. [2] – ينظر: المستقصى من أمثال العرب, الزمخشري, 2/62. [3] – ينظر: معالم مغربية, عباس الجراري, ص: 115 وما بعدها. [4] – ينظر: معالم مغربية, عباس الجراري, ص: 116. [5] – المصدر نفسه. [6] – ينظر المقال نفسه. [7] – ينظر: معالم مغربية, عباس الجراري, ص: 116. [8] – ينظر: معالم المغربية, عباس الجراري. ص: 115.