في الماضي غير البعيد، حين كان الخير والرخاء يعم مدينة تطوان و نواحيها، وقبل أن تظهر فضائيات فتاوي التحريم وأبواق الرايات السود الدموية ،حين كانت عبادة الله بمدينة الحمامة البيضاء بسيطة كبساطة أهلها،وحين كان الإيمان نقيا خاليا من الايدولوجيا، كنقاء إيمان العجائز والجدات ، كانت أجواء الاحتفالات برأس السنة الميلادية والتي يطلق عليها التطوانيون اسم "نوشي بوينا" أي "الليلة الطيبة" ،تمر في ظروف رائعة ومطمئنة. لم تكن المدينة والناحية خلال احتفالات أعياد رأس السنة رغم وجود أعداد كبيرة من أتباع الديانة المسيحية الذين كانوا يقيمون بتطوان حينذاك، تشهد استنفارا أمنيا أو عسكريا في الشوارع، أو إقامة السدود القضائية، ونشر فرق التدخل السريع والدرك الحربي ومختلف التشكيلات الأمنية وكأن البلد مقبلة على حرب طاحنة. ولم تكن أقسام المستعجلات تشهد طوفانا من البشر المصابين وبنات الليل ضحايا شجارات تافهة بسبب الخمر والمخدرات التي تلعب بالعقول، حيث يتحول الاحتفال بعيد رأس السنة إلى حلبة للقتال باستعمال القنينات والأسلحة البيضاء، وفضاء للعربدة والسياقة الجنونية ،وغيرها من المظاهر المشينة. ولم يرتبط قط التعبير عن الفرحة بقدوم السنة الجديدةبتطوان ،بحجز طاولة بملهى ليلي بمنتجعات "كابونيكرو" والساحل، والتباهي بشراء قنينة ويسكي ب 3000 درهم تنتهي دائما بصاحبها في مفوضية الشرطة وتقديمه إلى النيابة العامة في اليوم الموالي. عكس هذا الواقع المرير حاليا ،كان الطابع الحضاري هو ما تتميز به أعياد الميلاد المخلدة لقدوم السنة الجديدة، من خلال أجواء راقية تنم عن قيم العيش المشترك والاحترام المتبادل بين كل من كان يقيم فوق أرض تطوان العامرة. فالأمر لم يكن يقتصر فقط على الإسبان المسيحيين وحدهم بل كان معظم التطوانيين من يهود ومسلمين وكذلك الجالية الهندية التي كانت مقيمة بشارع "لا لونيتا"، يشاطرون المسيحيين فرحتهم في الاحتفال بهذا العيد، كنوع من الاعتراف بالآخر واحترام هذا الآخر المختلف عنا. إن التعبير عن الفرحة ومشاركة الآخر فرحته كان تجسيدا لرقي أهل تطوان وتعبيرا منهم عن التسامح الحضاري الذي كان يسود هذه المدينة العامرة، فالمسلم كان يفرح بأعياد المسيحي والعكس صحيح، بل أكثر من ذلك كانوا يتبادلون الزيارات العائلية خلال فترة الأعياد ويتقاسمون الطعام مع بعضهم البعض. وهكذا كان المسلم وعائلته التطوانية يزورون العائلة المسيحية خلال فترة أعياد الميلاد، حيث يتم استقبالهم بالكعك الفاخر العصري ،والشوكولاتة، ومختلف الحلويات الاشبيلية الأندلسية الأصل، التي كان يتم خبزها بطريقة يدوية احتفاء بهذه المناسبة. بدوره كان المسلم يقوم برد الضيافة بأحسن منها خلال عيد الأضحى حيث يستضيف المسيحي وعائلته ليتذوقوا قضبان الخروف المشوي والشاي المنعنع وحلويات "الكعاب"،و"الملوزة" و"الحلوى د الطابع"، و"الحلوى د الماكينة "،وغيرها من الشهيوات التقليدية التطوانية الأصيلة. هذا على المستوى العائلي، أما على مستوى الفضاء العام، فكانت المتاجر بشارع محمد الخامس بتطوان تتزين بالأضواء والأشجار الصغيرة الملونة وتقوم بتزيين واجهاتها ببعض الدمى ومجسمات الشمس والقمر والنجوم. أما محلات بيع الحلويات العصرية فكانت تعرض دمى جميلة مصنوعة من الشوكولاته السوداء، وبيوت خشبية تتساقط عليها ندف الثلج مصنوعة بالشوكولاتة البيضاء ،حيث كان الأطفال الصغار يفرحون وينبهرون بمختلف أشكال هذه الزينة الجميلة التي تبعث السرور في القلوب. وكانت فرحة الأطفال تتعاظم حين يتم توزيع الحلويات والشوكولاتة عليهم من طرف الكبار سواء في الشارع أو في بعض أماكن التسوق حيث كانت معظم المحلات التجارية حين يدخلها زبون أو زبونة رفقة أطفاله ،يقوم مالك المحل بتقديم هدايا رمزية وقطع الشوكولاتة للأطفال مجانا، لأن هذا العيد كان يرمز إلى البذل والعطاء. وهكذا كانت تمر أجواء الاحتفالات ب"نوشي بوينا" بمدينة تطوان العامرة ،أجواء تسر الناظرين، وتدخل الفرحة والحبور على الأفئدة ،أجواء بنكهة لا تختلف عن أية مدينة أو عاصمة أوروبية في ذلك الزمن الجميل ،وكانت بالفعل أجواء حاملة لمعاني حضارية وجمالية وذوق مجتمعي رفيع.