"مالك، لابس، ،الحوايج جدادين، واش طالع نشارع محمد الخامس د تصور". تختزل هذه العبارة باللهجة الشمالية التي كنا نسمعها حيث كنا صغارا، المكانة الرمزية والهيبة والإحترام الذي كان يحظى به شارع محمد الخامس لدى أوساط ساكنة تطوان، باعتباره أهم فضاء اجتماعي وحضاري بمدينة الحمامة البيضاء خلال حقبة الحماية الاسبانية، وكذلك خلال السنوات الأولى للاستقلال. وشارع محمد الخامس هو اختراع غربي " كولونيالي" ظهر بمدينة تطوان مع الإسبان شأنه في ذلك شأن المطبعة، والمكتبة العامة، ومحطة القطار، ودور السينما والمسرح، والنوادي الثقافية الفاخرة، والبريد ،والمستشفى، ومطار "أبياسيون". في البداية كانت تسميته بشارع "الخينياليسمو، فرانكو"، وهو اسم تعظيم باللغة الاسبانية للجنرال "فرانسيسكو فرانكو" الضابط الاسباني الذي أقام بمدينة تطوان ردحا من الزمن، قبل أن يزحف على اسبانيا سنة 1936 بجيش مكون من حوالي 90 ألف مغربي، ليتمكن من الانتصار على الحكومة الجمهورية، ويعيد النظام الملكي إلى ذلك البلد الإيبيري. وتقول الحكاية التطوانية، أن شارع محمد الخامس في زمن النظام والاحترام، وقبل أن تعم الفوضى وتضيق مدينة تطوان بالبشر والعشوائيات، كانت تمر به الحافلة المتوجهة إلى مدينة سبتة، والتي يطلق عليها التطوانيون اسم" بالينسيانا"، وكانت تقف على مقربة من مقهى "كونطينينطال"، بدون عرقلة وضجيج أو أية مشاكل تُذكر . تاريخيا كان شارع محمد الخامس يبتدئ من ساحة الفدان القديمة، وينتهي بساحة "بلاصا بريمو" نسبة إلى الجنرال "بريمو دي ريفيرا" والتي تعرف أيضا عند ساكنة تطوان باسم "الخاصة د ايكليسا" في إشارة إلى الكنيسة التي توجد بالجوار. وكانت تتفرع عنه أبرز الشوارع الرئيسية بتطوان التي كانت تؤدي إلى أهم معالم المدينة الكولونيالية، المتكونة من المحلات التجارية المعروفة آنذاك باسم "اسكاباراطيس". ومصطلح "اسكاباراطي" يعني الواجهة وهي محلات مبهرة، لها واجهات زجاجية أنيقة، ومزينة بمصابيح تتلألأ، لجلب الزبناء، وكانت تعرض الساعات والعطور الفاخرة والملابس الرجالية والنسائية وأثاث الزينة والديكور والمصابيح الكهربائية والثريات والقهوة، إضافة إلى الحلويات العصرية والشوكولاتة، خلال موسم أعياد رأس السنة الميلادية. يلاه نطلعو نالشارع ونحن صغار كنا كذلك نسمع عبارة لها دلالة قوية وهي "يلاه، نطلعو" لشارع محمد الخامس، يرددها جميع التطوانيين والتطوانيات سواء كانوا قاطنين بحارة "باب العقلة" أو حومة" الباريو" القديمة حيث يتواجد المستشفى العسكري الاسباني، أو حومة سانية الرمل و "الطويلع" و"زيانة". و"نطلعو" عبارة دالة، على مكانة ذلك الفضاء، وتعني الصعود والإرتقاء وليس الإنحدار كما سيحدث بعد ذلك في زمن الانحطاط، بعبارة أوضح، كان شارع محمد الخامس يشكل تلك المرتبة والمكانة العالية، التي يجب الصعود إليها وليس العكس، كما وقع حين اختلط الحابل بالنابل وزحفت البشاعة والكآبة والقبح على جنابته، وتحول رصيفه إلى شبح يحمل بقايا روح ضائعة. وهكذا إذا أراد "التطواني" في الزمن الجميل أن "يطلع" إلى شارع محمد الخامس كان عليه أن يرتدي أحسن الثياب وأن يتعطر بماء "كولونيا" فواحة ويمشط شعره مثل نجم سينمائي، لكي يظهر في أحلى هيئة، وأبهى حلة، لأن شارع محمد الخامس كان مكانا لتعلم الأدب والأناقة، والمظهر الحسن. هذا لا يعني أن شارع محمد الخامس كان نخبويا أو"شوفينيا" كما ينعته بذلك دعاة القبح وطحالب البشاعة، الساعين لتدمير كل ما هو جميل، والقضاء على قيم الاحترام والنبل وأخلاق "أولاد الناس"، بل العكس من ذلك كان شارع محمد الخامس قبل أن يتسلط عليه رهط من شرار خلق الله، يحتضن كل تطواني وتطوانية، والمقصود بالتطواني في هذا المقال كل شخص "تتطون" أي تمت "تطونته"؛ بمعنى كل شخص، نما حب وأدب ونقاء تطوان وأينع في قلبه، سواء كان هذا الشخص قادما من قرى جبال الريف العتيد، أو قادما من عمق بلاد جبالة وغمارة الكبرى أو الصحراء فالأمر سيان. طقوس شارع محمد الخامس كان لوقت الأصيل بشارع محمد الخامس نكهة خاصة حيث تكثر فيه الحركية والرواج الاقتصادي والتجاري، كما شكل نقطة إلتقاء الأصدقاء للاستمتاع بكوب قهوة بإحدى المقاهي الشهيرة، أو التجول و التبضع من المتاجر، أو دخول قاعات السينما ،فالجميع عشية السبت، كان يولي وجهته شطر شارع محمد الخامس في احترام كامل لطقوس وهيبة المكان. وتفيد الشهادات التاريخية أن عمال "الكوشا د الأجور" والحرفيين والصناع والسائقين كانوا عندما يقبضون أجرتهم الأسبوعية ظُهر يوم السبت، يذهبون مباشرة عند الحلاق ليحلقوا ذقونهم ورؤوسهم ويرتدون أبهى ما يمتلكون، بل من منهم من يرتدي بذلة كاملة مع ربطة عنق، وذلك ليقضوا ساعات جميلة مساء السبت بأحد مقاهي شارع محمد الخامس. ورغم أنهم مجرد عمال بسطاء، إلا أنهم كانوا يقتنون علب السجائر من الصنف الأشقر الغالي الثمن لأنه لا يعقل أن يدخنوا التبغ الأسود الرخيص، بمقاهي شارع محمد الخامس "الفاخرة"، وكانوا يحرصون على تلميع أحذيتهم باستمرار. بسلوكهم هذا الذي يبدو عفويا كان هؤلاء العمال رغم بساطتهم لا يريدون أن يخدشوا صورة وجمالية شارع محمد الخامس ، بل كانوا يساهمون في تثمينها والرقي بها، انسجاما واحتراما لحرمة الفضاء العام . إن شارع محمد الخامس كان شارع العمال البسطاء والأغنياء، شارع الشباب والشابات، شارع الأسر والعائلات، شارع المثقف والمقاول والطبيب والعامل المياوم ،الجميع يتمشى فيه بكل احترام وأدب. إن شارع محمد الخامس في "الزمن الجميل" كان عبارة عن لوحة فنية رائعة، متجانسة الشخوص تضم الإسبان الذين قالوا إنا نصارى و المغاربة اليهود والمسلمين والهنود أتباع الديانة البوذية. بمعنى آخر، كان فضاء لنشر قيم التسامح والاحترام وصناعة المعنى وكان بالفعل بمثابة "أغورا " بمفهوم المدينة اليونانية المنفتحة، قبل أن يضمحل شيئا فشيئا ويتسلط عليه جمهور واحد، جمهور مكون من شرذمة "أولاد السوق" والوجوه المكفهرة المريضة، وجموع الطبقة" الرثة "، حسب توصيف الفيلسوف العظيم "كارل ماركس".