في ‬مفاهيم ‬الخطاب ‬الملكي:‬ من ‬تأطير ‬المواطنين ‬إلى ‬ترسيخ ‬ثقافة ‬النتائج    قال ‬إن ‬موسكو ‬مستعدة ‬لدعم ‬مخطط ‬الحكم ‬الذاتي ‬باعتباره ‬أحد ‬أشكال ‬تقرير ‬المصير:‬    المجتمع المدني والديمقراطية    ماذا يحدث في المغرب؟    التغيرات المناخية والوعي البيئي في عصر الأنثروبوسين، مقاربة ايكولوجية    المغرب يستقبل 15 مليون سائح خلال 9 أشهر    بركة: الموسم الفلاحي المنصرم سجل تحسنا نسبيا    أسعار الذهب ترتفع قرب مستوى قياسي جديد    وصول ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى مستوى قياسي في 2024    بعد 12 سنة من الجريمة التي هزت تونس.. أحكام بالإعدام والمؤبد في قضية اغتيال شكري بلعيد    تطوان تشهد وقفة تضامنية مع غزة ودعما لإعادة الإعمار    نزهة بدوان: "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء" ترسيخ للمحلمة الوطنية    حملات ‬تحريضية ‬مجهولة ‬للزحف ‬نحو ‬مدينتي ‬سبتة ‬ومليلية ‬المحتلتين    دراسة: تحولات كيميائية في الحشيش المغربي المخزن طويلا تخلق فرصا جديدة للاستخدام الدوائي ضمن منظومة التقنين    بركة: المغرب يواجه احتمال سنة جفاف ثامنة على التوالي    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    إسرائيل تستعد لإعادة فتح معبر رفح للسماح بدخول شاحنات المساعدات إلى غزة    الجيش الإسرائيلي: إحدى الجثث الأربع التي تسلمناها من حماس لا تخص أيا من الرهائن    الملك يترأس مجلسا وزاريا للتداول في توجهات قانون مالية 2026    السجن مابين 15 و3 سنوات لشباب احتجاجات آيت عميرة    طقس الأربعاء.. أجواء حارة نسبيا بالجنوب الشرقي ورياح قوية مرتقبة بعدة مناطق    وهبي: "سنلعب أمام المنتخب الفرنسي على نقاط قوتنا وبأسلوبنا المعتاد"    وليد الركراكي: التصفيات الإفريقية المؤهلة لمونديال 2026..المنتخب المغربي يواصل استخلاص الدروس والتحسن استعدادا لكأس أمم أفريقيا    "طنجة: الأمن يتفاعل مع مقاطع فيديو تُظهر مروجين للصخب الليلي ومدمنين على المخدرات    أزيد من 36 ألف شاب دون 40 سنة استفادوا من برنامج دعم السكن منهم 44.5 في المائة من النساء الشابات    أمني إسرائيلي يعلن التوصل بجثة رهينة "خاطئة"    برلماني يسائل تدبير مؤسسة في وجدة    واشنطن.. صندوق النقد الدولي ومحافظو بنوك مركزية إفريقية يجددون تأكيد التزامهم بالتنمية المستدامة في إفريقيا    تتويج جمعية دكالة ضمن أفضل جمعيات المجتمع المدني بالمغرب في اليوم الوطني لمحاربة الأمية    كرة القدم: 16 فوزا متتاليا.. رقم قياسي عالمي جديد من توقيع أسود الأطلس    "الأشبال" جاهزون لمواجهة فرنسا    تصفيات إفريقيا لمونديال 2026: المغرب يهزم الكونغو ويحقق رقماً قياسياً عالمياً ب16 انتصاراً متتالياً    حمد الله يقود منتخب الرديف لانتصار ودي على الكويت بدبي    اتحاد الجمعيات الثقافية والفنية بالصحراء تثمن مضامين الخطاب الملكي بالبرلمان    "ساعة مع مبدع" في ضيافة الشاعر "محمد اللغافي    في نيويورك... أغلبية ساحقة تدعم مغربية الصحراء: الحكم الذاتي يترسخ كخيار واقعي ووحيد لإنهاء النزاع    بورصة الدار البيضاء تغلق على تراجع    تراجع مقلق في مخزون السدود بالمغرب إلى 32% بسبب الجفاف والتبخر    "الداخلية" تحيل ملف مزاعم رشوة عامل آسفي السابق على النيابة العامة    الرباط تحتضن نقاشا إفريقيا حول "حق التتبع" للفنانين التشكيليين والبصريين    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    رسميا.. تحديد موعد الديربي البيضاوي بين الرجاء والوداد    منير محقق يصدر «تحليل بنيات الحكاية الشعبية المغربية»    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الموسيقى والأغنية والفنون الاستعراضية والكوريغرافية    "أسعار الاستهلاك" ترتفع في المملكة    سانشيز: المسؤولون عن "الإبادة الجماعية" في غزة يجب أن يحاسبوا قضائيا    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    مهرجان بن جرير يكرم رشيد الوالي ويحتفي بذكرى محمد الشوبي    قادة أربع دول يوقعون وثيقة شاملة بشأن اتفاق إنهاء الحرب في غزة    دراسة يابانية: الشاي الأخضر يقي من مرض الكبد الدهني    المغاربة متوجسون من تداعيات انتشار الأنفلونزا الموسمية خلال فصل الخريف    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.






سعيد العفاسي | ناقد فني
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات وتتشظى المعاني، يقف الفنان التشكيلي المغربي نغراوي بوعبيد كصوتٍ فنيٍّ ينادي بالعودة إلى جوهر الإنسان عبر الفن، فالجمال عنده ليس مظهرًا، بل موقفٌ من الوجود، والرمز ليس غموضًا بل لغة للذاكرة، والتشكيل ليس بناءً شكليًا بل تجسيدٌ للحلم الإنساني في أصفى تجلياته، إذ تحتل تجربته التشكيلية موقعًا خاصًا في هذا السياق، لأنها تنبني على إيمانٍ عميق بأن الفن ليس مجرد ممارسة جمالية، بل هو لغة الروح ومرآة الهوية، فلوحاته لا تكتفي بأن تُرى، بل تُقرأ كحوار مفتوح بين الإنسان وذاكرته، بين الفرد ومكانه، بين الحلم والحنين، في سعيٍ دائم لإعادة تشكيل الوجود من خلال اللون والخط والضوء، منذ بداياته، وضع بوعبيد لنفسه مشروعًا فنيًا يتجاوز الإطار الزخرفي التقليدي، ليجعل من اللوحة فضاءً للتأمل والتعبير والبحث عن الذات الجماعية للأمة. ولذلك فإن أعماله ليست فقط مشاهد بصرية، بل مواقف فكرية تنبض بمعاني الأصالة والانتماء، وتعيد الاعتبار إلى الجمال كقيمة ثقافية وروحية، يرى نغراوي بوعبيد أن الفن هو فعل وجودي قبل أن يكون ممارسة تقنية، فهو اللغة التي تتحدث بها الروح حين تعجز اللغة العادية عن التعبير، هذه الفلسفة تحضر بقوة في كل مراحل تجربته، إذ يسعى من خلالها إلى جعل الفن وسيلة لإعادة اكتشاف الإنسان من الداخل، وإحياء الذاكرة الجماعية في وجه التكلس الثقافي والنسيان، وهو بهذا المعنى يواصل تقليدًا فنيًا مغربيًا أصيلًا يجعل من العمل التشكيلي فعلَ انتماءٍ حضاريٍّ وفكريٍّ قبل أن يكون ممارسة تقنية، ومن هنا، تُقارب تجربته كتجسيدٍ لرؤية فنية وإنسانية توازن بين الانفعال الوجداني والتفكير البنائي، بين الرمز والدلالة، بين المحلية والعالمية.
لقد ترك الأستاذ اللغة الفرنسية أحمد المرساوي بإعدادية الإمام مالك في خريبكة خلال سنوات (1973–1975)، في مدينة حريبكة أثرًا عميقًا في مسار بوعبيد الإنساني والفني، لم يكن مجرد معلمٍ يؤدي واجبه التربوي داخل القسم، بل كان مربّيًا بالمعنى الأصيل للكلمة، يحمل رؤية إنسانية عميقة ويؤمن بأن التعليم رسالة تتجاوز حدود المعرفة إلى بناء الذات وتحرير الطاقات الكامنة، في تلك السنوات التكوينية، كان بوعبيد مولعًا بالرسم ومحاولة تحويل العالم إلى ألوان وخطوط، ولاعبا ماهرا لكرة القدم، حيث تمت المناداة عليه للمشاركة في المنتخب الوطني المغربي، نظرا لإمكاناته الواعدة وقدرته على اللعب بمهارة، ولكنه اختار الفن على حساب كرة القدم، غير أن الوعي بجدوى هذا الميل الفني لم يكن واضحًا بعد، هنا برز دور الأستاذ المرساوي، الذي لاحظ في أعماله البسيطة إشارات مبكرة إلى شغفٍ جمالي يمكن أن يُصقل ويُنمّى، فكان أول من وجّهه بإلحاح نحو دراسة الفنون التطبيقية، مؤمنًا بأن الفن ليس ترفًا بل ضرورة وجودية تعبر عن الإنسان في أصفى حالاته، لقد قدّم له هذا الأستاذ من الدعم ما يتجاوز الإرشاد الأكاديمي، إذ مدّ له يد العون المادي والمعنوي في مرحلة كانت فيها الإمكانات محدودة والطريق محفوفًا بالتردد والشكوك، لم يكن التشجيع وحده ما جعلنه يواصل، بل ذلك الإيمان الذي زرعه في نفسه بأن الموهبة لا تكتمل إلا بالاجتهاد والانضباط، وأن الفن طريق صعب لكنه يُفضي إلى معرفة الذات والآخر، إلى جانب الأستاذ المرساوي، وقف أيضًا الأستاذ أمتوي الذي شاركه قناعته بأن الرعاية التربوية لا تنحصر في التعليم بل تشمل توجيه الطالب نحو ما يتناسب مع طاقاته وميوله، بفضلهما معًا، فتحت أمام بوعبيد أبواب لم يكن ليبلغها وحده، ففي سنة 1975، وبفضل دعمهما وتشجيعهما، توجه إلى الدار البيضاء للالتحاق بثانوية جابر بن حيان من أجل متابعة دراسته في الفنون التطبيقية، بعد أن كان قد اجتاز مباراة الالتحاق معية خمسة عشر تلميذًا من مناطق مختلفة، وكان الوحيد الذي نجح في اجتيازها، لم يكن ذلك النجاح مجرد إنجاز شخصي، بل كان ثمرةً مباشرة لتلك المساندة الصادقة والتوجيه الحكيم الذي حظي به بوعبيد في سنواتي الأولى، لقد كانت تلك اللحظة نقطة تحولٍ حقيقية في حياته الشخصية والفنية، ومنطلقًا لمسارٍ طويلٍ في عالم الفن، تأسس على الامتنان لأساتذة آمنوا بقدرة الكلمة والتشجيع على صناعة المصير، وعلى قناعةٍ راسخة بأن كل فنانٍ حقيقي هو ابن توجيهٍ صادق ومساندةٍ مؤمنة بقدره.
في لوحاته، يصبح اللون ذاكرةً، والخط مسارًا للروح، والتكوين بحثًا عن التوازن المفقود بين الإنسان ومكانه. ولعلّ هذا ما يمنح أعماله تلك القدرة على التأثير العاطفي والوجداني، إذ يشعر المتلقي أنه أمام لوحات تتحدث بلغته الداخلية، وتعيد ترتيب مشاعره ورؤاه، إن الجمال في تجربة نغراوي بوعبيد لا يختزل في التناسق البصري أو في الإبهار اللوني، بل هو قيمة وجودية تنبع من علاقة الإنسان بذاته وبالعالم. وهو في ذلك قريب من التصور الصوفي للجمال باعتباره "تجلّي الحقيقة في الصورة"، أي أن الجمال عنده ينقل الجوهر الإنساني من العتمة إلى النور، ويعيد للوجود معناه الداخلي، تُترجم هذه الفلسفة في اختياره للألوان الجريئة والمتضادة التي لا تُستخدم لإبهار العين، بل لإيقاظ الحواس وإثارة الوعي. فالتباين بين الأحمر والأزرق، بين الدفء والبرودة، بين الانغلاق والانفتاح، يُعبّر عن جدلية الحياة نفسها. الجمال عنده يولد من التوتر، ومن السعي الدائم نحو التوازن دون الوصول إليه تمامًا، وهذا المفهوم الجمالي يجعل لوحاته تتجاوز حدود الفن للزينة، لتصبح تجربة حسية ومعرفية تدفع المتلقي إلى التفكير في ذاته وفي العالم. فاللوحة ليست موضوعًا جماليًا فحسب، بل خطابًا بصريًا متعدّد الطبقات يُثير أسئلة حول الزمن، والمكان، والهوية، والأنوثة، والذاكرة، يمكن قراءة هذه النزعة الجمالية ضمن ما يسميه الناقد الفرنسي "موريس ميرلو-بونتي" ب "الجمال المتجسّد"، أي الجمال الذي يُعبّر عن الفكر من خلال الجسد اللوني والشكل البصري. فالجمال هنا ليس شكلًا خارجيًا، بل تجسيدٌ لخبرةٍ روحيةٍ ومعرفيةٍ، وهي سمة أساسية في مسار بوعبيد الفني، فالرمز في تجربة نغراوي بوعبيد ليس زينةً شكليةً ولا إحالةً غامضة، بل أداة للتعبير عن الذاكرة الجمعية والهوية الثقافية، فهو يستحضر رموز المرأة، العمارة، اللون، والزخرفة العربية ليعيد بناء عالمٍ بصريٍّ مشبع بالمعاني المتراكمة، وهنا تظهر المرأة في أعماله لا كجسدٍ مرسوم، بل كيانٍ رمزيٍّ يختزل الأرض والوطن والحنين، فهي عنده أصل الحياة، ومصدر الضوء، ومجال الولادة المستمرة للمعنى، تتقاطع صورتها مع رمزية الأم الكبرى في الميثولوجيا الشرقية، ومع تمثلها في الفنون الإسلامية كرمزٍ للنور والسكينة، حيث يُحوّل بوعبيد المرأة إلى نقطة توازنٍ بين المادي والروحي؛ فهي تقف في لوحاته كأيقونةٍ تتوسط الفضاء، تُشعّ نورًا داخليًا يوحي بالأمل والصمود. بهذا التوظيف، تتحول الأنثى إلى علامةٍ على استمرارية الوجود، وإلى رمزٍ للخصب الفني الذي يولد من رحم الألم والذاكرة، غير أن حضور المرأة ا في أعماله لا يأتي من منظور جمالي سطحي، بل من رؤية فلسفية وإنسانية عميقة، فالمرأة عنده رمزٌ للخصب والعطاء والصمود، وهي تجسّد الأرض والذاكرة والانتماء، في كثيرٍ من لوحاته، تظهر المرأة ككائنٍ مهيب، مزيجٍ من الحلم والأسطورة، تحمل في ملامحها ملامح الوطن بكل تناقضاته وجماله. فهي ليست موضوعًا للتأمل الجمالي، بل كائن رمزي تختزل من خلاله مفاهيم الحياة والموت، الزمن والمكان، والهوية والحرية، وتتخذ المرأة في أعماله أشكالًا هندسية متوازنة، تنسجم مع خطابه التكعيبي، لكنها تحتفظ بليونة الحركة الشرقية ودفء اللون العربي. في عينيها يسكن الحنين، وفي وقفتها يتجلى الكبرياء، وفي تفاصيلها يتكرر حضور الأرض كعنصرٍ روحي لا مادي. إنها صورة الأمة في أوجها وانكسارها، ورمز الأمومة في بعدها الوجودي والثقافي معًا.
أما العمارة العربية في أعماله، فهي الرمز المكاني للهوية، الأقواس، النوافذ، الجدران، والألوان الترابية ليست عناصر زخرفية، بل علامات دلالية تُشير إلى الانتماء الجغرافي والروحي للمكان العربي والمغربي، من خلال هذه العناصر، يستدعي بوعبيد روح البيت العربي بكل دفئه وخصوصيته، ويعيد صياغته ضمن لغة تشكيلية حديثة، حيث تتجاور الصرامة الهندسية مع الليونة الشرقية. إنها محاولة لجعل التراث ذاكرةً حية لا متحفًا جامدًا، واستحضارٌ لما يسميه بول ريكور ب "الذاكرة السردية" التي تربط الماضي بالحاضر عبر الفن، أما اللون عند بوعبيد ليس عنصرا زخرفيا بل علامة وجودية، فكل لون في لوحاته يؤدي وظيفة رمزية دقيقة، الأحمر ينبض بالحياة والعاطفة، الأزرق يرمز إلى الأبدية والحنين، والأصفر يشعّ نورًا داخليًا يمثل الإيمان والبعث. هذه الألوان، بتضادها وتآلفها، تخلق إيقاعًا بصريًا يوازي الإيقاع النفسي للإنسان، اللون عند بوعبيد يتحول إلى لغة روحية، أشبه بما يسميه "فاسيلي كاندينسكي" ب "الصوت الداخلي للوحة"، أي البعد غير المرئي الذي يُحدث الأثر العاطفي في المتلقي، تتوزع الألوان في أعماله وفق نظامٍ مدروس، يعتمد على التضاد بين الألوان الجريئة كالبرتقالي والأزرق والأحمر، ليخلق منها حركةً داخلية تُشبه نبضًا بصريًا، ومن خلال هذا البناء اللوني، يمنح الفنان لوحته طاقة داخلية تحاكي الحلم والحنين، وتفتح أمام المتلقي فضاءً للتأمل، حيث لا يعود الشكل هدفًا نهائيًا، بل وسيلة لتجسيد العاطفة والذاكرة، يستحضر الفنان من خلال العمارة جمال المكان العربي ودفء تفاصيله، فيجعل من اللوحة امتدادًا للبيت العربي، ومن اللون امتدادًا لضوء الشمس المغربية، ومن النوافذ والأقواس رموزًا للانفتاح الروحي على العالم، بهذا المعنى، تتحول العمارة في تجربته إلى ذاكرةٍ بصرية تحافظ على أصالة المكان وتدعو إلى إعادة الاعتبار لجماليات التراث المعماري العربي. وفي الوقت نفسه، تندمج هذه العناصر ضمن بناءٍ تشكيلي معاصر، يعكس قدرة الفنان على المزاوجة بين الماضي والحاضر دون فصام أو افتعال.
يُعد التشكيل في تجربة نغراوي بوعبيد بنية معرفية أكثر منه تمرينًا بصريًا، فهو يعتمد على تفكيك الأشكال وإعادة تركيبها هندسيًا وفق رؤيةٍ تكعيبيةٍ تعبيريةٍ تمزج بين التحليل العقلي والتفاعل العاطفي، يستند هذا الأسلوب إلى قناعةٍ بأن الشكل لا يُعبّر عن الواقع كما هو، بل كما يُعاد بناؤه في الذاكرة والوجدان. فالتكوين عنده يقوم على تحويل التجربة الشعورية إلى بناء بصري، حيث تتداخل الخطوط والزوايا لتوليد معنى جديد، إنه يستخدم الهندسة لا لتقييد الشكل، بل لتحرير المعنى، فالتفكيك عنده ليس تفكيكًا للعالم، بل إعادة لتركيبه وفق منطق الروح، وهذا ما يمنح لوحاته طابعًا ديناميًا، إذ تبدو الأشكال في حركةٍ دائمةٍ، كما لو كانت تتحول باستمرار بين الحلم والواقع، من هنا، يمكن النظر إلى فنه ضمن ما يُعرف في النقد الجمالي المعاصر ب "الحداثة المتمسّكة بالأصل"، أي الحداثة التي لا تنكر جذورها الثقافية بل تعيد تأويلها بصريًا. وبذلك تتحقق في تجربته وحدة الشكل والمعنى، حيث لا يمكن فصل الخط عن الفكرة، أو اللون عن الإحساس، يرى نغراوي بوعبيد أن الفن موقف إنساني وثقافي، لا يكتفي بتصوير الجمال بل يسعى إلى ترميم العلاقة بين الإنسان وذاته في زمن التشيؤ والتفكك، فالفن عنده شكل من أشكال المقاومة الهادئة، مقاومةٍ للسطحية وللنسيان ولاغتراب الإنسان عن مكانه، حيث يمكن النظر إلى تجربته كجسرٍ بين الفن والفكر، بين الصورة والوعي، فكل لوحة عنده هي فعل تأملٍ، وصلاةٌ لونية تفتح للمتلقي باب المشاركة في بناء المعنى، وهذا ما يمنح فنه بعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا يتجاوز حدود الجماليات التقنية، وبهذا يصبح الفن في نظره ذاكرة الأمة وبوصلتها الروحية، وسيلة لاستعادة الحسّ الجمالي في مواجهة القبح المادي الذي يهيمن على العالم المعاصر. وبهذا يتحول الفنان إلى حارسٍ للمعنى، وإلى صوتٍ للروح في عالمٍ يضجّ بالضجيج ولا يُصغي.
إن الهوية عند بوعبيد ليست قيدًا أو انغلاقًا، بل هي حالة من الحوار المستمر بين الذات والمحيط، ولذلك تنفتح أعماله على المدارس الحديثة في الفن، لكنها لا تفقد جذورها الشرقية والمغربية. فهو يمارس الحداثة من الداخل، لا كاستيراد جاهز، بل كتفاعلٍ نقدي مع التراث والواقع في آنٍ واحد، تُعدّ التكعيبية التعبيرية الإطار الفني الذي يجد فيه بوعبيد وسيلته المثلى للتعبير عن هذا المزج بين الأصالة والمعاصرة. فمن خلال تفكيك الأشكال وإعادة تركيبها هندسيًا، يخلق بناءً بصريًا تتفاعل فيه الزوايا الحادة مع الانسيابية الشرقية، والتجريد مع الحس الوجداني، ورغم قربه من المدرسة التكعيبية الغربية في منطلقاتها التشكيلية، فإن بوعبيد يضخ فيها روحًا عربية نابضة بالحياة، تعيد إلى الشكل الصارم حميمية اللون ودفء الضوء، فالتكعيبية عنده ليست تمرينًا شكليًا، بل أداة للتعبير عن الداخل الإنساني، وعن محاولة الإنسان الدائمة لفهم ذاته عبر تفكيك العالم من حوله وإعادة تركيبه وفق إيقاعه الخاص، يُعرف نغراوي بوعبيد بقدرته على ضبط البناء الهندسي للوحة بطريقة تخلق توازنًا بين الحركة والسكون. فهو يفكك الأشكال إلى خطوط وزوايا ومساحات، ثم يعيد تركيبها وفق إيقاع بصري يعبّر عن مشاعر داخلية معقّدة، وتقوم لوحاته على فكرة الموسيقى اللونية، حيث تلعب الألوان أدوارًا متكاملة كأنها نغمات تتعانق لتُنتج سيمفونية بصرية. فالأحمر عنده حرارةٌ ودمٌ ونبض، والأزرق حنينٌ وسكون، والأصفر ضوءٌ داخليّ يرمز إلى الأمل والبعث، ومن خلال هذا التناغم، يعبّر بوعبيد عن الطاقة الإنسانية الكامنة في الشكل، وعن الإحساس بالوجود بوصفه فعلًا جماليًا وروحيًا. فلوحاته ليست صامتة، بل تتحرك في عين المتلقي، كأنها كائنات حية تتنفس الضوء.
يُدرك الفنان التشكيلي نغراوي بوعبيد أن سؤال الحداثة في الفن العربي لا يمكن فصله عن سؤال الهوية، ولذلك جاءت تجربته كمحاولة لتأسيس حداثةٍ بملامح محلية، فهو لا ينسخ أساليب الغرب، بل يحاورها من موقع الذات، ليُنتج خطابًا بصريًا مغربيًا عالميًا في آنٍ واحد، في هذا الإطار، يمكن القول إن بوعبيد يحقق ما وصفه المفكر المغربي محمد عابد الجابري ب "التجديد في إطار الأصالة"، أي بناء المعاصرة من داخل التراث لا من خارجه. ولوحاته بذلك ليست فقط أعمالًا فنية، بل مشاريع فكرية تطرح سؤالًا جوهريًا، كيف يمكن للفن العربي أن يكون حديثًا دون أن يفقد روحه؟
يؤمن نغراوي بوعبيد بأن الفن ليس ترفًا بصريًا ولا ممارسة نخبوية، بل موقف إنساني وثقافي يعبّر عن وجدان الأمة وهويتها. فهو يرى أن مهمة الفنان أن يظلّ شاهدًا على عصره، وأن يسهم في ترميم ما تهدم من المعنى في عالمٍ يميل نحو التفاهة والسطحية، ومن هذا المنطلق، فإن تجربته لا تُقاس فقط من خلال جماليات الشكل، بل من خلال عمق الموقف الإنساني الذي تحمله. فالفن عنده وسيلة للمقاومة الثقافية ضد النسيان، ومحاولة لإحياء الحسّ الجمعي بالجمال، وإعادة بناء الجسور بين الإنسان وموروثه الروحي، إنه يسعى من خلال فنه إلى تحقيق التوازن بين الشكل والمعنى، بين الحداثة والتراث، بين الذات والمكان، في رؤية تؤمن بأن الأصالة ليست نقيض الحداثة، بل شرطها الإنساني الأصيل، تجربة الفنان نغراوي بوعبيد هي رحلة تشكيلية في عمق الوجدان المغربي والعربي، رحلةٌ تستنطق الجذور لتبني الحاضر، وتُزاوج بين التفكير البصري والتأمل الوجودي. في لوحاته يتجاور الحلم والذاكرة، الأنثى والمكان، اللون والضوء، في حوارٍ دائم بين الأنا والجماعة، بين الشرق والعالم، إنها تجربة تنتمي إلى مدرسة الأصالة المتجددة، حيث لا يُفهم التراث كحنينٍ إلى الماضي، بل كمصدرٍ دائمٍ للإبداع والتجدد. وبهذا المعنى، يُمكن القول إن نغراوي بوعبيد لا يرسم لوحاتٍ فحسب، بل يرسم جسورًا بين العوالم، ويعيد للروح مكانها في زمنٍ فقد كثيرًا من معناه.
إنه فنانٌ يكتب باللون سيرة الروح المغربية في زمن العولمة، ويجعل من الفن طريقًا للمعرفة، ومن الجمال أفقًا للحرية، لقد استطاع بوعبيد أن يجعل من اللون لغةً للروح، ومن الشكل فلسفةً للوجود، ومن المرأة رمزًا للإنسانية المتجددة. فلوحاته تجمع بين العمق الفكري والتأمل الوجداني، وتقدّم نموذجًا لفنٍّ يربط بين الحسّ والوعي، بين الأصالة والانفتاح، بين الرؤية والتجربة، وبهذا المعنى، تُعدّ تجربته إضافة نوعية للمشهد التشكيلي المغربي والعربي، ورحلةً فكريةً وجماليةً في معنى الفن كهويةٍ وككائنٍ حيٍّ ينطق بروح الإنسان وأمكنته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.