وضع الملك محمد السادس التفاوتات المجالية والاجتماعية في صلب خطاب العرش لهذه السنة، مشدداً على أن مغرب اليوم "لا يمكن أن يسير بسرعتين"، في إشارة مباشرة إلى الهوة المتسعة بين المجالات الحضرية المتقدمة والمناطق القروية التي ما زالت ترزح تحت وطأة الهشاشة. وبينما تترجم هذه المفارقة على امتداد خارطة البلاد، تبرز جهة طنجةتطوانالحسيمة كنموذج واضح ل"المغرب الذي يسير بسرعتين داخل المجال الواحد"، حيث تتقابل طنجة الصناعية مع قرى منكفئة في الريف ووزانوشفشاون، لا تزال تبحث عن الحد الأدنى من البنيات الأساسية. ففي حين شهدت مدن مثل طنجةوتطوان تطوراً عمرانياً واقتصادياً لافتاً، بقيت مناطق جبلية وقروية واسعة كإساكن، باب برد، بني أحمد، تروال، تمسمان، وبني عمارت تعاني ضعفاً حاداً في التجهيزات الأساسية، وانقطاعاً في شبكات الطرق، وتراجعاً في مؤشرات التنمية البشرية. وبلغ عدد سكان الجهة، حسب نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، 4.03 ملايين نسمة، موزعين على 2.63 مليون في الوسط الحضري و1.39 مليون في الوسط القروي. ورغم التحول الديمغرافي المتزايد نحو التمدن، ما زالت قرابة ثلث سكان الجهة يقطنون قرى وهضاباً تعاني خصاصاً بنيوياً. وفي إقليمشفشاون، الذي يتوفر على 355 ألف نسمة في الوسط القروي، تشير خريطة الفقر متعددة الأبعاد للمندوبية السامية للتخطيط إلى معدل فقر يقارب 16.5٪، متجاوزا بكثير المؤشر المسجل في طنجةأصيلة. أما في إقليمالحسيمة، فالأرقام الجهوية تُظهر أن المناطق الجبلية، ككتامة وإساكن وبني بوفراح، ما زالت تواجه صعوبات بنيوية في الربط الطرقي والتغطية الصحية والتعليمية. الخطاب الملكي دعا بشكل مباشر إلى تجاوز المقاربات التقليدية نحو مقاربة تنموية مجالية مندمجة، تقوم على تثمين الخصوصيات المحلية وتكريس الجهوية المتقدمة والتضامن بين المجالات. وشدد الملك على ضرورة توجيه البرامج العمومية نحو "مشاريع ذات تأثير ملموس"، خاصة في دعم التشغيل المحلي، وتوفير خدمات التعليم والصحة، وتأهيل الموارد المائية، وإطلاق أوراش ترابية منسجمة مع المشاريع الكبرى. وفي جهة طنجةتطوانالحسيمة، تبرز المفارقة في التوزيع الترابي للاستثمارات العمومية. فبينما تستفيد طنجة من مشاريع كبرى في البنية التحتية والصناعة واللوجستيك، تُظهر معطيات تقارير المجالس المنتخبة أن عدداً من الجماعات القروية في وزانوشفشاون لا تزال تعتمد على المسالك غير المعبدة، وتفتقر إلى خدمات الرعاية الصحية المستمرة. وتشير خلاصات تقييم تنفيذ برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية إلى أن استثمارات البنيات التحتية بلغت مستويات محترمة من حيث الكم، خصوصاً في مجال الطرق، لكن أثرها لم يكن متماثلاً على جميع الأقاليم. وبحسب معطيات رسمية قدمتها مصالح وزارة الداخلية في السنوات الأخيرة، فقد تم تخصيص أكثر من 3.1 مليار درهم لبرامج تقليص الفوارق المجالية في الجهة بين 2017 و2023، توزعت بالأساس على تأهيل الطرق والمسالك بنسبة تفوق 60٪، مقابل نسب أقل خُصصت للماء الصالح للشرب والتعليم والصحة. هذا التوزيع يثير تساؤلات حول مدى تطابق هذه الاستثمارات مع الحاجيات الفعلية لسكان المناطق القروية. وتشير تقارير دورية صادرة عن مجالس الأقاليم إلى أن مؤشرات الانقطاع المدرسي ما تزال مرتفعة في عدد من الجماعات الجبلية، في ظل غياب داخليات كافية، وبعد المؤسسات التعليمية، وندرة النقل المدرسي. كما تسجل مؤسسات الرعاية الصحية في المناطق القروية معدلات خصاص كبيرة في الموارد البشرية، خصوصاً الممرضين والمولدات، إلى جانب غياب خدمات الطوارئ على مدار الساعة. وفي هذا السياق، يبدو خطاب العرش بمثابة دعوة صريحة للمؤسسات الجهوية والإقليمية لتدارك التفاوتات داخل الجهة ذاتها، عبر مراجعة الأولويات والبرمجة الترابية. ويُنتظر من مجالس الأقاليم ومجلس الجهة أن يتحركا في اتجاه بلورة مشاريع تنموية جديدة أكثر عدلاً، تضع المجال القروي في قلب المجهود التنموي، عوض الاكتفاء بوصفه هامشاً ملحقاً بالمدن الكبرى. ومع تصاعد الانتظارات المجالية، يبدو أن جهة طنجةتطوانالحسيمة باتت مطالبة بإعادة تعريف علاقتها بالتنمية، على ضوء خطاب العرش، لا باعتبارها جهة مزدهرة فقط، بل باعتبارها مجالاً غير متوازن داخلياً، لا يستقيم فيه التقدم الاقتصادي دون عدالة ترابية حقيقية.