أعاد اختيار "بولفار باستور" ضمن قائمة "أروع ثلاثين شارعًا في العالم" الصادرة عن مجلة "تايم آوت" الضوء إلى الإرث العمراني الحديث لمدينة طنجة، في لحظة يرى متخصصون أنها تتيح إعادة تقييم هذا المحور المركزي باعتباره جزءا أصيلا من ذاكرة المدينة الحضرية. ويعتبر هذا التصنيف اعترافا دوليا يوسّع إشعاع طنجة، لكنه يطرح في المقابل أسئلة حول سبل تحويله إلى رافعة لحماية الهوية العمرانية المحلية. ويقول الدكتور أحمد الطالحي، الخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، إن "أي تتويج للمدينة يدخل البهجة على قلوبنا ويعطي إشعاعا أكبر لطنجة"، مؤكدا أن اختيار بولفار باستور "اختيار موفق، لما لهذا الشارع من تاريخ ومن أهمية عمرانية ومعمارية". وتعود بدايات الشارع إلى عام 1911، عندما تم تعبيده تحت اسم "شارع السلف"، نسبة إلى دار السلف، أول بناية شيدت في المنطقة سنة 1910. وكانت دار السلف مكلفة باسترجاع الديون المستحقة على الدولة المغربية عبر تحصيل الرسوم الجمركية، قبل أن تتحول إلى مقر للإدارة الدولية، ثم إلى مقر للشرطة في مرحلة لاحقة. وتحتضن هذه البناية اليوم مندوبية السياحة في الطابق السفلي، ومكتبة عبد الله كنون في الطابق العلوي، ما يجعلها شاهدا على التحول الإداري والعمراني الذي عرفته المدينة في مطلع القرن العشرين. ويشير الدكتور الطالحي في تصريحات لجريدة طنجة 24 الالكترونية، إلى أن "بولفار باستور" "لم يكن أول مجال عمراني أوروبي في طنجة"، إذ سبقته أحياء أخرى، أبرزها شارع إسبانيا في نهاية القرن التاسع عشر. لكنه رغم ذلك أصبح، تدريجيا، "مركز المدينة للتجوال بدل السوق الداخل"، مستفيدا من محيطه المفتوح واتصاله بالتحولات الاجتماعية التي عرفتها طنجة في فترات متعددة. ويمنح موقعه المطل على سور المعجازين — المصنف تراثا وطنيا سنة 1947 — بعدا بصريا يعزز قيمته السياحية والمعمارية. ويضم الشارع نحو عشرين بناية تاريخية، أغلبها مخصصة للسكن مع طوابق أرضية تجارية. ومن بين أبرز هذه البنايات عمارة طوليدانو وعمارة أكورديون، اللتان تعكسان طرازا معماريا حديثا يجمع بين الوظيفة السكنية والجمالية الخارجية. كما يوجد في الشارع معبد يهودي بالقرب من مكتبة العلامة عبد الله كنون، ما يضيف طبقة أخرى من الذاكرة الدينية والثقافية. وتشير إفادة الخبير إلى وجود متجر "كينت" الذي كان في الماضي من أشهر المتاجر في طنجة قبل أن يغلق أبوابه، إضافة إلى مبنى بنكي تاريخي كان في عشرينيات القرن الماضي مقرا للبنك التجاري للمغرب. ويحتضن البولفار أيضا عددا من المقاهي العريقة التي شكلت عبر عقود فضاءات للحياة الثقافية والاجتماعية، من بينها مقاهي زاكورة، وكلاريدج، وميتروبول، ولاكولوم، ودار إسبانيا، إلى جانب "مكتبة الأعمدة"، إحدى أبرز المحطات الأدبية في المدينة. وتؤكد هذه العناصر، بحسب الطالحي، أن الشارع يمثل "نسيجا متكاملا من التاريخ والعمران والذاكرة الحضرية"، يمكن تحويله إلى محور أساسي في السياسات الحضرية التي تسعى إلى حماية التراث الحديث، وتعزيز حضور طنجة كمدينة ذات طابع معماري متنوع. ويرى متخصصون، بينهم الطالحي، أن هذا الاعتراف الدولي يمكن أن يشكل فرصة لإطلاق رؤية جديدة لإعادة الاعتبار للتراث المعماري للقرن العشرين في طنجة، عبر تحديث آليات الحماية، وإدماج البولفار في مسارات ثقافية وسياحية تستفيد من رمزيته، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على واجهاته الأصلية وتفادي أي تدخل يمس الطابع الجمالي والتاريخي للشارع. ويؤكد الطالحي أن إبراز تاريخ البولفار "خطوة ضرورية لتعزيز مكانته في المقاربات الحضرية المقبلة، وحماية الهوية العمرانية التي تشكلت عبر أكثر من مئة عام".