وختامه مسك، كما يقال، فقد تميز اليوم الأخير من القمة الإفريقية المنعقدة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بإلقاء الملك محمد السادس خطابا أمام رؤساء الدول والحكومات الإفريقية توج عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي. وقد كان استقبال الملك محمد السادس في هذا اليوم، وقبل استكمال الأمور الإجرائية المتعلقة بالتحاق المغرب بهياكل الاتحاد الإفريقي، وبرمجة خطابه دليلا آخر على الدعم الإفريقي الواسع لاسترجاع مكانته في المنظمة القارية، الذي أفشل مناورات الخصوم وعرى تهافتها، وعلى التقدير الذي يحظى به المغرب وملك المغرب في القارة الإفريقية، والذي عبرت عنه التصفيقات الحارة لدى اعتلاء الملك محمد السادس منصة الخطابة بشكل لا غبار عليه.
وقد جاء الخطاب الملكي أمام القمة الإفريقية حاملا لرؤية ومنهج يقترحهما المغرب على شركائه وإخوانه في القارة الإفريقية للقطع مع انحرافيين لا يخدمان في شئ المستقبل الذي تتطلع إليه الشعوب الإفريقية ولا يمكّنانها من امتلاك مصيرها ويتمثلان في استمرار استنزاف الثروات الطبيعية الإفريقية امتدادا للمنطق الاستعماري من جهة وفي منظور إيديولوجي عالم-ثالثي قديم مضى زمنه وصار مصدر حجز وتدهور وهشاشة حيثما تم الارتهان له من جهة ثانية.
فالرؤية والمنهج اللذان يقترحهما المغرب، وهو يعود إلى بيته الإفريقي، يحضان على الانخراط في ديناميات الشراكة والتكامل في كل جهة من جهات القارة وعلى مستوى القارة ككل من أجل وضع مشاريع مشتركة، بالاستفادة من كافة المعطيات القارية والدولية المشجعة، تروم تثمين الثروات والرفع من القيمة المضافة وتسريع النمو وجعله ينعكس إيجابيا على المواطنين الأفارقة ويرتقي بأوضاعهم ويوفر لهم الخدمات الأساسية التي ما تزال القارة تعاني من نقص كبير فيها بحسب المؤشرات الصادرة عن مختلف المنظمات الدولية. فالانكفاء والاستغراق في الحسابات الضيقة يضيع الفرص ويكون بلا فائدة، مادامت أسواق الدول ضيقة ولا تتيح فرص نمو مستدام، وضرَره لا يقل عن ضرر السماح باستمرار استنزاف الثروات الطبيعية بطرق قديمة تنتمي إلى منظور لقسمة العمل على المستوى الدولي متجاوز بكل المقاييس.
والرؤية والمنهج اللذان قدمهما الخطاب الملكي أمام القمة الإفريقية ليسا طارئين أو أملتهما المناسبة كما قد يتصور البعض، بل هما نتاج تجربة سنوات من العمل الذي قام به المغرب على أساس قيم ومنظور للتنمية المشتركة في غرب إفريقيا أولا وبعدها في جهات أخرى من القارة، وخبراته المكتسبة ودروسه المستخلصة، وهما معا يستندان إلى قيم غلبت كفة التقاسم والتكامل والتضامن بدون تفاخر أو استعلاء ومنظور للاستثمار في المشترك وفي الحاجيات الأساسية للدول الإفريقية التي تساعدها على النمو والتنمية، بأبعادها الاقتصادية والبشرية، وتفتح أمامها وأمام ساكنتها آفاق الاندماج في العالم والسير في ركب تقدمه، وذلك مع احترام سيادتها وخصوصياتها والنأي بالنفس عن التدخل في شؤونها الداخلية أو ما شابه ذلك من الممارسات التي تنتمي لمنهج ورؤية آخرين ممن لم يتحرروا بعد من المخلفات الذهنية والنفسية للفترة الاستعمارية ومن ينقلون فشلهم إلى غيرهم أو يسقطونه إسقاطا بشكل مرضي.
وقد جعل الخطاب الملكي النهوض بالإنسان وبتكوينه أولوية الأولويات في إفريقيا اليوم، مشيرا إلى المجهود الكبير الذي بدله المغرب في هذا الإطار على مدى السنوات الفائتة، لأن الإنسان هو من يصنع مستقبل القارة وبلدانها وهو من يوجهه الوجهة الصحيحة إن أحسن الاختيار أو الوجهة الخاطئة إن أساءه، فوجود الثروات في حد ذاته لا يصنع التنمية حتى لو كان بترولا وغازا يعودان بعشرات ملايير الدولارات، وإنما حسن استغلالها وتثمينها والاستفادة المثلى من الموارد التي توفرها، فكم من البلدان كانت الثروات لعنة عليها، وخصوصا الثروات الطاقية التي بددت اموالها من طرف بعض الدول التي يمكن تصنيفها في نطاق الدول الفاشلة أو الآيلة للفشل، ولعل نموذجي فنزويلا والجزائر وليبيا دليل على ذلك، ويعتبر المغرب نموذجا مضادا لأنه لا يتوفر على موارد من شأنها أن تجلب العملة الصعبة بسهولة، ومع ذلك استطاع أن يثمن الموارد المتاحة ويشجع الاستثمار والعمل ويحقق تنمية جعلته اليوم بلدا في طور الصعود وبوأته المكانة المعتبرة التي يحظى بها في القارة الإفريقية جعلته نموذجا ومدرسة للبرمجة الاستراتيجية في ضوء الإمكانيات المتاحة والامتيازات المقارنة المتوفرة. وهذا ما ألح عليه الخطاب الملكي حين أشار إلى أن البترول والغاز لا يمكنان من رفع التحدي الأكبر للقارة الإفريقية المتمثل في توفير الأمن الغذائي عبر النهوض بالفلاحة الإفريقية التي جعل المغرب منها محورا أساسيا لتعاونه مع عدد من الدول، بالإضافة لإنتاج المجمع الفوسفاط لأسمدة ملائمة للفلاحة الإفريقية.
هذا التعاون، الذي انتقل إلى سرعة جديدة ومشاريع نوعية ومهيكلة، ينطلق بطبيعة الحال من رصيد تجربته الخاصة ومسار تعاونه مع أشقائه في غرب ووسط إفريقيا، الذي يغطي اليوم مجالات وقطاعات متنوعة ويشارك فيه القطاع العام والقطاع الخاص ويعتمد على شراكات دولية في بعض الأحيان يسعى المغرب لتطويرها لجلب التمويلات والخبرات، ولعل مشروع خط أنابيب نقل الغاز من نيجيريا والدول الأخرى المنتجة نحو أوروبا عبر المغرب واحدا من أهم نتائج تلك التجربة، وهو المشروع الذي توقف الخطاب الملكي عند أهدافه المتعددة التي لا تقف عند حدود تصدير الخام، وإنما يرتبط بتصور صناعي وتجاري يروم إحداث سوق للكهرباء القابلة للتصدير أيضا، توقف عنده الخطاب الملكي كأحد المشاريع التي نضجت في سياق تجربة التعاون المغربي الإفريقي ونتجت عن الزيارة الملكية التاريخية لنيجريا التي أحدثت منعطفا وفتحت آفاق تعاون جهوي إفريقي غير مسبوق. وتدخل في نفس الإطار كذلك مشاريع إنتاج الأسمدة مع إثيوبيا ونيجريا التي تهدف إلى تطوير العرض وملاءمته مع الحاجيات الجهوية المتزايدة الكبر في ظل تزايد الحاجيات من منتجات الفلاحة والصناعة الغذائية كما ونوعا في البلدان الإفريقية التي تعرف أكبر تزايد سكاني في العالم وتتجه ساكنتها لتجاوز المليار نسمة بكثير.
فالرؤية والمنهج اللذان اقترحهما المغرب على القارة الإفريقية من خلال خطاب الملك محمد السادس أمام القمة الإفريقية يرومان إطلاق ديناميكية فلاحية وديناميكية صناعية مرتبطة بالموارد الطبيعية، بما فيها الفلاحية، ترتقي بتثمينها وبالقيمة المضافة المترتبة عن استغلالها بعقلانية في إطار من الشراكة والتشارك المتوازنين وبإعمال التضامن وتخدم التقدم الاجتماعي باعتبار ذلك هو الطريق لخلق روابط متعددة على المدى البعيد تقود إلى إحداث شبكات مصالح قارية وجهوية متينة وإلى استتباب السلم والاستقرار ودرء النزاعات والأزمات وتطوير المؤسسات الديمقراطية في الدول الإفريقية وتجنب الأخطار التي تهدد الدول بالفشل، بما فيها الإرهاب والنزاعات الإثنية والانقلابات وغيرها مما عانت منه إفريقيا لزمن طويل، وكان الإنسان الإفريقي ضحية له على كافة المستويات والأصعدة، وبالأخص على مستوى تنميته التي تأخر قطارها كثيرا، وكانت لتأخره انعكاسات سيئة.
إن الرؤية والمنهج اللذان طرحهما الخطاب الملكي على القمة الإفريقية يخرجان عن المألوف بكونهما ينطويان على دعوة إلى عمل ملموس يمكن القارة الإفريقية من الدخول في مسار تحرري جديد يمكن من بروزها كقطب تنموي له ديناميكيته الخاصة التي يحققها بتعاون دوله وتكاملها وتضامنها في عالم ينظر إليها كمجرد سوق لترويج المنتجات والخدمات أو كخزان للثروات الطبيعية القابلة للاستنزاف، وينطويان على تنبيه إلى أنه لا وقت لإفريقيا تضيعه في نزاعات موروثة عن الماضي الاستعماري أو عن الحرب الباردة أو في التسابق المقيت من أجل الهيمنة أو خلق الاصطفافات التي تغذي النزاعات أو تخلقها. وقد ألح الخطاب الملكي، بما يكفي من الوضوح، أن المغرب إذ سعى إلى نيل دعم أصدقائه الكثر في إفريقيا، الذين كانوا ملحين على عودته إلى كنف الاتحاد الإفريقي، فإنه لا يسعى إلى خلق أي انقسام أو اصطفاف في إفريقيا وإنما إلى وحدتها ونمائها بالعمل وليس بالقول، وإلى إزالة أسباب سوء التفاهم والنزاع مع من تصرفوا تجاهه بعدائية واضحة عبر تغليب صوت العقل والحوار.
وقد كان حديث الملك محمد السادس عن وضعية منطقة المغرب العربي في هذا الإطار دالا، إذ تعتبر المنطقة الأقل اندماجا قاريا وعالميا، والمسؤولية الجزائرية في هذا المآل يعرفها الجميع. فالجزائر من تحرص على إدامة النزاع في المنطقة بمعاكستها للوحدة الترابية للمغرب وعرقلة الحل السياسي وعلى إغلاق الحدود وخلق التوترات بين الدول وعرقلة مساعي التوصل إلى حل الأزمات في منطقة الشمال الإفريقي، بما في ذلك في ليبيا ومالي، وكذلك عرقلة التنسيق فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب الذي بات تهديدا حقيقيا وخطيرا لدول منطقة الساحل التي تتطلب الدعم والمساندة.