رغم المجهودات الرسمية والميزانيات الضخمة التي رُصدت طيلة السنوات الأخيرة لفائدة العالم القروي، لا يزال الواقع يكشف عن مفارقة صادمة بين ما يُعلن على الورق وما تعيشه الساكنة من تهميش وإقصاء وغياب لأبسط شروط العيش الكريم. الماء، الفلاحة، دعم القطيع، التشجير، البنية التحتية، التعليم، والصحة… كلها عناوين عريضة ضمن مخططات تنموية حملت أسماءً طموحة وصوراً وردية، لكنها في النهاية لم تغير من واقع "المغرب العميق" سوى القليل. العطش في زمن مشاريع الماء في أكثر من جماعة قروية، لا تزال النساء يقطعن الكيلومترات من أجل جلب مياه الشرب، في وقت تشير فيه تقارير رسمية إلى صرف اعتمادات مالية ضخمة في إطار مشاريع تزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب. هذا التناقض يثير تساؤلات جوهرية حول مصير تلك الميزانيات، ومدى فعالية تتبع تنفيذ تلك المشاريع، أو حتى وجودها أصلاً على أرض الواقع. القطيع.. دعم على الورق، وفراغ في الحظائر في السنوات الماضية، تم الحديث عن دعم القطيع كخطوة لحماية الثروة الحيوانية وتشجيع النشاط الرعوي، لكن المتجول في القرى سيصدم من غياب فعلي للقطعان، بل ويستمع إلى شهادات فلاحين صغار لم يستفيدوا من أي دعم، في وقت تُظهر الوثائق الرسمية ملايين الدراهم مخصصة لهذا الغرض. اللوز والزيتون.. مشاريع التشجير في تربة سوداء من جهة أخرى، أُطلقت برامج لتشجير الأراضي القروية باللوز والزيتون والخروب في إطار تشجيع الفلاحة التضامنية وتنويع المداخيل. لكن الواقع يُظهر أن الأرض ما تزال قاحلة، والتربة بلا استصلاح، والمُخَضَّر في التقارير فقط، أما الميدان فتكشفه الصور والمشاهد اليومية جفاف، وتآكل للتربة، وهجرة مستمرة نحو المدن. حين تُباع الجنة على الورق من يطّلع على الوثائق المالية، والموازنات المرصودة، وحفلات إطلاق المشاريع، سيظن أن القرى المغربية تحولت إلى جنة فوق الأرض. لكن من يعايش يوميات الساكنة، يدرك أن التنمية ظلت حبيسة التقارير. في هذا السياق، قال صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى ال26 لتربعه العرش،أن "المغرب لا ينبغي أن يسير بسرعتين"، في إشارة واضحة إلى التفاوت بين المغرب النافع والمغرب العميق، بين من يستفيد من الثروات ومن يُترك خارج عجلة النمو. لكن التنبيه وحده لا يكفي، لأن الاختلالات التي طالت التنمية والمشاريع القروية تستوجب فتح تحقيق نزيه وشامل، يُحدد المسؤوليات بدقة ويكشف مصير الأموال التي سُجلت باسم العالم القروي، بينما استقر نفعها في أرصدة المقاولين الانتهازيين وأبناء بعض المسؤولين، ومسؤولين ومقربين حولوا مشاريع التنمية إلى استثمارات خاصة. التنمية تحتاج إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة لقد آن الأوان لتجاوز مرحلة "الصور والتقارير" إلى مرحلة المحاسبة الفعلية والشفافية في صرف المال العام. التنمية القروية ليست شعاراً سياسياً يُرفع كل موسم انتخابي، بل التزام وطني يجب أن يُترجم إلى نتائج ملموسة في حياة المواطن القروي. فالمغرب الذي يراهن على تحقيق العدالة المجالية لا يمكنه أن يترك جزءاً كبيراً من ترابه خارج معادلة التنمية، ولا يمكنه أن يسمح باستمرار نزيف المال العام تحت غطاء تنمية لا وجود لها.