تُعد السياحة مرآة تعكس صورة المجتمع وثقافته ونمط عيشه، فالكثير من الناس يسافرون حول العالم لاكتشاف الطبيعة والاستجمام، لكنهم يبحثون أيضاً عن التعرف على ثقافات جديدة وأساليب حياة مختلفة، لهذا السبب، تعتمد الدول التي تراهن على السياحة في نموها على الاستثمار في ثقافة شعوبها وتراثها اللامادي، من خلال إبراز المعمار التقليدي، والأزياء، والمأكولات، والفنون، وغيرها من المكونات التي لا تتطلب بالضرورة ميزانيات ضخمة، بل تتطلب إرادة سياسية وسياسات واضحة تجعل من خصوصية المجتمع مادة غنية لاستقبال الزوار ومنحهم تجربة لا تُنسى تدر عائدات مالية مهمة. في المغرب، ورغم الإمكانيات السياحية الهائلة التي يتمتع بها، يظل غياب استراتيجية واضحة وطويلة الأمد تجعل من السياحة رافداً استثمارياً واقتصادياً حقيقياً، عائقاً أمام تطور هذا القطاع، كما أن عدم استغلال التراث اللامادي والثقافة المعيشية للقبائل في الجبال والصحراء ومختلف المناطق، بكل ما تزخر به من إمكانات ثقافية وطبيعية، يجعل من السياحة المغربية قطاعاً من دون أفق واضح. ورغم الأرقام المتصاعدة التي يحققها القطاع، إلا أن الصورة الحقيقية تبدو أقل إشراقاً وطموحاً عندما ننظر إلى عمق التجربة السياحية وجودتها وتوزيع مكاسبها، ففي عام 2024، استقبل المغرب أكثر من 17.4 مليون سائح وحققت العائدات السياحية ما يفوق 11 مليار دولار، حسب المعطيات الرسمية، غير أن هذه الأرقام تخفي وراءها تساؤلات جوهرية يطرحها المهنيون والمراقبون حول نوعية النموذج السياحي المغربي، ومدى قدرته على التحول إلى محرك تنموي عادل ومستدام ومعتمد على خصوصية التراث الثقافي والمعماري المحلي. في مدن مثل فاس، مراكش، تيزنيت، الراشيدية، أو شفشاون، تتراكم حقب من الذاكرة المعمارية والفنية، من الزليج التقليدي إلى القصبات العتيقة والحدائق الأندلسية والأسواق التي تعكس هوية محلية متميزة، ومع ذلك، نادراً ما يُستثمر هذا التراث في مشاريع سياحية تعيد تقديمه للزائر كجزء من تجربة ثقافية متكاملة، فغالبية الفنادق الحديثة تُبنى بأسلوب غربي نمطي، في تناقض صارخ مع البيئة المحلية، ويغيب عنها الكثير من عناصر الهوية الأصيلة التي يمكن أن تجعل الإقامة تجربة ثقافية فريدة. كما تُقدّم الصناعات التقليدية وفنون الطهي وطقوس الضيافة غالبًا بشكل سطحي فولكلوري واستهلاكي، دون تأطير مهني يحفظ لها أصالتها ويمنحها طابعاً سياحياً مدروساً. ويجمع العديد من الزوار على أن المغرب أصبح من الوجهات السياحية المكلفة؛ فليلة واحدة في فندق متوسط بمراكش قد تكلف أكثر من مثيلتها في بانكوك أو بالي، دون أن يقابلها دائماً مستوى خدمات يتناسب مع السعر. ويشمل الغلاء أيضاً النقل والأنشطة السياحية والمطاعم، ما يؤثر سلباً على القدرة التنافسية للوجهة المغربية، خاصة أمام دول اختارت نموذجاً سياحياً منخفض التكلفة وعالي الجودة، مثل تايلاند، التي نجحت في استقطاب أكثر من 28 مليون سائح سنة 2025، وتخطط للعودة إلى مستويات ما قبل جائحة "كورونا"، حيث كانت تستقبل قرابة 40 مليون سائح سنوياً. وعند مقارنة المغرب بتجارب دول شرق آسيا مثل إندونيسيا، فيتنام أو تايلاند، نجد أنها حققت قفزات نوعية في السنوات الأخيرة بالاعتماد على سياحة بسيطة وذكية. لم تحقق تايلاند نجاحها بفضل موارد ضخمة أو تراث معماري هائل مثل المغرب، بل من خلال استثمار ذكي في البساطة الثقافية المحلية: من الأسواق الليلية إلى المعابد البوذية الجذابة، ومن الأكلات الشعبية الرخيصة إلى الرقصات التقليدية. كل شيء يُقدّم كجزء من تجربة سياحية متكاملة، والأهم أن الحكومة التايلاندية انتهجت سياسات واضحة، مثل الإعفاء من التأشيرة للسياح من دول كبرى كالصين والهند، وإنشاء وكالة خاصة للثقافة الإبداعية لترويج الثقافة في السياحة، وحماية البيئة والمواقع الطبيعية عبر قوانين صارمة، بالإضافة إلى الترويج الذكي عبر القوة الناعمة باستغلال أسماء عالمية في الفن والثقافة. إن التجربة التايلاندية جعلت من السياحة مشروعاً وطنياً مندمجاً، مرتبطاً بالاقتصاد والتعليم والثقافة، وليس مجرد ورش بناء وفنادق، أما في المغرب، فما زال غياب استراتيجية متكاملة لدمج التراث في التنمية السياحية قائماً؛ فالسياسات السياحية تتغير بتغير الحكومات والوزراء أو الظرفيات، ويغلب عليها طابع التسويق الخارجي بدلاً من التركيز على جودة العرض الداخلي، كما أن العلاقة بين الفاعل العمومي والقطاع الخاص ليست دائماً متوازنة، إذ تميل الكفة لصالح المستثمرين الكبار على حساب المبادرات المحلية والمجتمعية، خاصة في العالم القروي والمناطق الهشة، حيث يمكن للسياحة أن تشكّل رافعة تنموية حقيقية إذا ما توفرت لها الأدوات والدعم المناسبان. وللمضي قدماً نحو سياسة سياحية عادلة ومستدامة، ليس المغرب بحاجة إلى نسخ النموذج التايلاندي، بل إلى استلهامه وتكييفه مع خصوصياته، فالمغرب يتوفر على تراث لا مثيل له، ومهارات بشرية متنوعة، وطبيعة جغرافية فريدة، ما ينقص هو رؤية وطنية ترفع من قيمة التراث وتدمجه فعلياً في المشاريع السياحية، عبر تأطير ومواكبة للمبادرات الصغيرة والمتوسطة، وتقنين الأسعار وتنظيم الجودة، وتحفيز السياحة الثقافية والبيئية والروحية (الدينية)، بدل الاعتماد فقط على المواسم والعروض الفاخرة. السياحة ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي انعكاس لصورة البلد أمام العالم، وإذا أراد المغرب أن يكون في موقع تنافسي دولي، فعليه أن يعود إلى ذاته، إلى ثقافته وهويته؛ فالتحدي اليوم ليس في "ما نملك" فقط، وإنما في "كيف نستثمره"، وفي عالم تتنافس فيه الدول لجذب الزوار، من لا يجدد رؤيته، ويثمّن ما يملكه يفوّت فرصته.