استقبل جلالة الملك محمد السادس زوال الثلاثاء أعضاء الهيئة الوطنية العليا للحوار الوطني حول إصلاح القضاء، وضمت عناصر مختلفة من القضاة والمحامين ورجال الأعمال وهيئات المجتمع المدني في إشارة قوية إلى أن موضوع القضاء لا يهم وزارة العدل وحدها ولا حزبا بعينيه ولا فئة مجتمعية ولكن هو قضية وطنية، فكلما صلح شأن القضاء صلح شأن المجتمع وكلما فسد فسد المجتمع. ويعتبر إصلاح القضاء رهانا من رهانات جلالة الملك محمد السادس منذ وصوله إلى الحكم، بل اعتبره مدخلا لأي تغيير في المغرب، وفي ذلك استمرار لمسيرة طويلة في بناء الدولة الحديثة وذلك منذ إصدار ترسانة قانونية تتماشى مع روح الزمن ومنسجمة مع المراحل التاريخية التي مر منها المغرب. واستطاع المغرب مراكمة مجموعة من المدونات القانونية كقانون المسطرة الجنائية ومدونة الشغل والقانون العقاري وقوانين متعددة، غير أن العهد الجديد حاول أن يجعل من الجهاز المشرف على القوانين واحترام تنفيذها جهازا عصريا يخضع لأسس العدالة والمراقبة والشفافية والنزاهة. ويجب التأكيد على أن القضاء ورش ملكي لا يقل أهمية عن باقي الأوراش إن لم يكن هو أهمها وأعلاها مرتبة، وقد احتل القضاء مرتبة مهمة في الدستور الجديد، وخصصت الوثيقة الدستورية العليا في البلاد فصولا عديدة للسلطة القضائية كلها تسير في إطار الحرص على استقلالية القضاء فينص الفصل 107 منه على أن "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، والملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية"، وهذا الحرص على استقلال القضاء هو الضمانة الفعلية لعدم "تغول" سلطة الحكومة وسلطة البرلمان. وفوق هذا وذاك يبقى الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، باعتبار الملك يمثل حسب الفصلين 41 و42 من الدستور السلطتين المدنية والدينية، وباعتباره يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وضمانة الملك لاستقلال السلطة القضائية هي المانع من استغلاله كأسمى سلطة لمراقبة تطبيق القوانين وسيرها في المجتمع من طرف تيارات أو أحزاب أو تنظيمات لها قوة عددية. ويمنع الدستور في فصله التاسع بعد المائة كل "تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط. ويجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ويعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة. ويعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة". وقد اختار جلالة الملك محمد السادس الذكرى السادسة والخمسون لثورة الملك والشعب ليعلن عن خطة إصلاح القضاء، والمناسبة في قراءة أي خطاب عنصر مهم، فلقد اختار جلالة هذه المناسبة للدلالة على أن الثورة الثانية للملك والشعب تنطلق من إصلاح القضاء. ودعا جلالة الملك في ذلك الوقت من السنة الماضية إلى "بلورة مخطط كامل ومضبوط لإصلاح القضاء" وقال جلالته "قررنا إعطاء دفعة قوية وجديدة لإصلاح القضاء". وأوضح جلالة الملك، أن الأهداف المتوخاة من هذه الخطة هي "توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق وعمادا للأمن القضائي والحكامة الجيدة ومحفزا للتنمية وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين". واعتبر جلالة الملك أن "الإصلاح الجوهري للقضاء، هو حجر الزاوية في ترسيخ الديمقراطية والمواطنة لدى شبابنا وأجيالنا الحاضرة والصاعدة"، وأكد جلالة الملك على أن "الأمر يتعلق بورش شاق وطويل، يتطلب تعبئة شاملة، لا تقتصر على أسرة القضاء والعدالة، وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات، بل وكل المواطنين". وفي ذلك تأكيد ملكي على أن هذا الورش هو ورش وطني وليس مهمة حكومة أو وزارة أو حزب ولا يمكن لأحد أن يدعي ذلك لنفسه. غير أنه تبقى الإرادة الملكية محفزا كبيرا في هذا الشأن. ويكشف تنوع مكونات الهيئة الوطنية العليا للحوار الوطني حول إصلاح القضاء إلى وجود رؤية في إشراك جميع المكونات، لأن إصلاح القضاء يهم قضايا كبرى تبدأ من مصلحة المواطن في الإنصاف ولا تنتهي عند تشجيع الاستثمار من خلال الشفافية والسرعة في إنجاز الوثائق وفي إصدار الأحكام. وبتنصيب الهيئة الوطنية العليا للحوار الوطني حول إصلاح القضاء يكون المغرب قد دخل مرحلة جديدة، ويكون جلالة الملك قد أكد مرة ثانية على الاستثناء المغربي الذي يسبق مراحل التغيير و أن المؤسسة الملكية هي قائدة الثورة رفقة الشعب.