دوري أبطال إفريقيا: الجيش الملكي يتأهل إلى دور المجموعات بانتصاره على حوريا كوناكري الغيني    الجيش يهزم حوريا كوناكري بثلاثية    المنتخب الوطني المغربي لأقل من 17 سنة يتعادل وديا مع نظيره الفنزويلي ( 3-3)    الملك يهنئ رئيس جمهورية كازاخستان    الأمين العام للأمم المتحدة يثمن التعاون النموذجي للمغرب مع "المينورسو"    "حماة المستهلك" يطالبون بتشديد الخناق على زيت الزيتون المغشوشة    مشجعون من 135 دولة يشترون تذاكر نهائيات كأس إفريقيا في المغرب    حكيمي يقود سان جرمان إلى الفوز    شرطي يصاب في تدخل بسلا الجديدة    الأزمي: التراجع عن التغطية الصحية الشاملة في مالية 2026 دليل على إخفاق حكومة أخنوش    ترامب منفتح على لقاء كيم ويصف كوريا الشمالية بأنها "قوة نووية نوعاً ما"    البرنامج الجديد للنقل الحضري العمومي للفترة 2025-2029.. استلام 70 حافلة جديدة بميناء أكادير    مسيرة في بروكسل تخليدًا لذكرى والد ناصر الزفزافي ومحسن فكري وإحياءً لذاكرة "حراك الريف"    شركة فرنسية تطلق خطا بحريا جديدا يربط طنجة المتوسط بفالنسيا وصفاقس    قبل أسابيع من انطلاق كأس إفريقيا للأمم.. فشل ذريع للمكتب الوطني للسكك الحديدية في التواصل مع المسافرين بعد عطل "البراق"    وفاة الملكة الأم في تايلاند عن 93 عاما    فيتنام: المغرب يوقع على المعاهدة الدولية للأمم المتحدة لمكافحة الجرائم السيبرانية    الأمين العام للأمم المتحدة يبرز التنمية متعددة الأبعاد لفائدة ساكنة الأقاليم الجنوبية للمملكة    عجز سيولة البنوك يتراجع بنسبة 2.87 في المائة خلال الفترة من 16 إلى 22 أكتوبر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد.. نزول أمطار متفرقة فوق منطقة طنجة    مصرع دركي في حادثة سير مروّعة بضواحي القصر الكبير    أمن مطار محمد الخامس يوقف روسيا مبحوثا عنه دوليا بتهمة الإرهاب    السوق الأوربية للفيلم... المركز السينمائي يدعو المهنيين لتقديم مشاريعهم حتى 24 نونبر المقبل    زينة الداودية عن صفقة زياش التاريخية: إنها الوداد يا سادة    نور عيادي تفتتح الدورة ال15 لمسابقة البيانو للأميرة للا مريم بأداء مبهر    الكوميديا والموسيقى في جديد هاجر عدنان "طاكسي عمومي"    المدرب مغينية: مستوى لاعبات المنتخب المغربي يتطور مباراة بعد أخرى    افتتاح متميز لمعرض الفنان المنصوري الادريسي برواق باب الرواح    مساعد مدرب برشلونة: الانتقادات ستحفز لامين جمال في الكلاسيكو    إسبانيا.. العثور على لوحة لبيكاسو اختفت أثناء نقلها إلى معرض    قمة صينية أمريكية بماليزيا لخفض التوتر التجاري بين البلدين وضمان لقاء ترامب ونظيره شي    المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يعالج الاغتراب والحب والبحث عن الخلاص    تصريحات لترامب تعيد مروان البرغوثي إلى الواجهة (بروفايل)    تقارب النقاط بين المتنافسين يزيد من حدة الإثارة بين أصحاب المقدمة وذيل الترتيب    تركيا تتوسط بين أفغانستان وباكستان    وزارة المالية تخصص مبلغا ضخما لدعم "البوطة" والسكر والدقيق    طنجة... تتويج الفائزين بجوائز القدس الشريف للتميز الصحفي في الإعلام الإنمائي    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    التوقعات المبشرة بهطول الأمطار تطلق دينامية لافتة في القطاع الفلاحي    حدود "الخط الأصفر" تمنع نازحين في قطاع غزة من العودة إلى الديار    من التعرف إلى التتبع.. دليل يضمن توحيد جهود التكفل بالطفولة المهاجرة    عامل طاطا يهتم بإعادة تأهيل تمنارت    تقرير يقارن قانوني مالية 2025 و2026 ويبرز مكاسب التحول وتحديات التنفيذ    الأمم المتحدة: ارتفاع الشيخوخة في المغرب يتزامن مع تصاعد الضغوط المناخية    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    من العاصمة .. حكومة بلا رؤية ولا كفاءات    إلى السيد عبد الإله بنكيران    من وادي السيليكون إلى وادي أبي رقراق    عبد الإله بنكيران والولاء العابر للوطن    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    المخرج نبيل عيوش يغوص في عالم "الشيخات ". ويبدع في فيلمه الجديد الكل "يحب تودا "    وزارة الأوقاف تعمم على أئمة المساجد خطبة تحث على تربية الأولاد على المشاركة في الشأن العام    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    أمير المؤمنين يطلع على نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة ويأذن بوضعها رهن إشارة العموم    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في وداع العفيف

العفيف اسم على مسمى، كان عفيفاً في حياته وسلوكه وفكره وصراحته وعلاقاته مع الناس من أصدقاء وخصوم، كان عفيفاً وشجاعاً في نضاله الطويل في مقارعة الظلم والتخلف والجهل والتعصب بجميع أشكاله وخاصة التعصب الديني. قد لا يكون مناسباً أن يتفلسف الإنسان في كتابة التأبين خاصة إذا كان يتعلق بشخص عزيز عليه، ولكن عندما يكون الفقيد مفكراً كبيراً وفيلسوفاً فلا أرى ضيراً في ذلك. إذ يتذكر القراء أن العفيف نفسه استشهد مرة في أحد مقالاته قبل أشهر بقول للفيلسوف مونتينMontaigne : «الفلسفة فن يعلمنا كيف نحيا جيداً وكيف نموت جيداً». هذه الفلسفة طبقها العفيف على نفسه بكل صدق وإخلاص، فلم تفارقه الابتسامة وهو يتحدث عن الموت الذي كان يتوقعه في أية لحظة.
فالموت ليس مشكلة الميِّت، لأن فيه راحة أبدية، إذ كما قال سقراط: «الموت نوم بلا أحلام»، بل هو مشكلة أحبائه ومريديه، وخاصة إذا كان الراحل مفكراً كبيراً من وزن وقامة العفيف، «المشاغب»، أو «محامي الشيطان» على حد تعبير الصديق العزيز الدكتور شاكر النابلسي. لذلك ربما سيكتب النابلسي نعياً بعنوان: (رحيل محامي الشيطان) إذ كتب قبل سنوات مقالاً عن العفيف قريباً من هذا العنوان. لذلك فأنا أتمثل بقول مارك توين عن الموت: «أنا لا أخاف من الموت، لأني إذا مت سأعود وكأني لم أولد، وأنا ما كنت مولودا لمليارات السنين ولم يزعجني ذلك».
فكل مصلح هو مشاغب لأنه يتمرد على القبيلة ويخرج على المألوف، ويناضل من أجل إخراج المجتمع من التخلف ويدفعه إلى مستقبل أفضل. وفي هذه الحالة لا بد وأن يشق المجتمع إلى معسكرين، معسكر محافظ متمسك بالقديم، يريد إعادة المجتمع إلى الماضي الغابر، ومعسكر متجدد يتطلع إلى الحداثة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة المرأة، ودولة المواطنة والقانون، لا فرق فيها بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. لذلك فهو في نظر المعارضين له إنسان مشاغب! ومتمرد على القبيلة.
لقد نذر العفيف نفسه منذ شبابه إلى مقارعة التخلف بالفكر المستنير. وعرف أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر والمتاعب وربما الموت المبكر. لذلك لم يتزوج، راكباً صهوة المخاطر مهاجراً من بلد إلى بلد بعيداً عن وطنه تونس. أقتبس أدناه بعضاً من أقواله في حوار بينه وبين قرائه نشر في «إيلاف» عام 2004 .
لقد عاش العفيف حياة صعبة في جميع مراحلها بدءً من طفولته في الريف التونسي الفقير إلى ساعة رحيله في باريس إلى عالم الخلود. فيقول عن نفسه: «توفي أبي وعمري 13 عاماً وكانت صدمة مروعة لم أنجح في إقامة الحداد عليه ربما حتى الآن، مات أبي في كوخنا المعزول، وعندما عدت إلى العاصمة تونس لمواصلة سنتي الثانية في التعليم الزيتوني، كنت أذهب كل مساء إلى «سوق العصر» الذي يأتيه الفلاحون من أحد الأحياء الفقيرة جداً «الملاسين» التي يسكنها الريفيون النازحون. وكلما رأيت فلاحاً يرتدي برنوساً ركضت لأنظر إليه من أمام عسى أن يكون هو أبي الذي دفنته بنفسي في مقبرة القرية. يعني ذلك أنني لم أصدق موته وهي حالة تقود عادة إلى الجنون».
من حسن الصدف أنه تلقى تعليماً على يد معلم تقدمي في عمر مبكر فيقول: «وكيتيم مفجوع اندفعت أبحث عن أب بديل أتماهى معه. تماهيت بالشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يأتي إلى الزيتونة يعطي درسه في حلقة التعليم العالي… وفي الوقت ذاته تماهيت بطه حسين إلى درجة الذوبان، فكنت أضع عصابة على عيني كما لو كنت أعمى وأرتجل أمام زميل لي هو الهادي بالأخضر مقلداً طه حسين». كما وتماهى ببورقيبة مدافعاً عن خطه السياسي وخاصة «عندما أصدر غداة الاستقلال 1956 قوانين الأحوال الشخصية لتحرير المرأة التونسية» .
كما وعى العفيف الشاب «خطورة التعليم الديني العتيق فكتب مقالات في جريدة «العمل» في صفحة الشباب مطالباً بغلق جامع الزيتونة ودمج التعليم الزيتوني العتيق في التعليم الحديث الذي ورثته تونس المستقلة عن فرنسا، وفعلاً بعد بضعة شهور أصدر بورقيبة قراراً بتوحيد التعليم وغلق الزيتونة.»
وكمصلح لا بد وأن يصطدم باليسار واليمين معاً، بما فيها سلطة أبورقيبة، الأمر الذي أجبره على الهجرة إلى عدن في عهد النظام الماركسي، فيقول: «في سنة 1969 حضرت اجتماع مجلس وزراء جنوب اليمن فنصحتهم بدلاً من الاشتراكية الماركسية اللينينية باتخاذ إجراءات حداثية منها إصدار قانون أحوال شخصية كالقانون التونسي، فقال لي سالم ربيع رئيس الجمهورية مازحاً: هل أنت سفير لبورقيبة أم معارض له؟، فأجبته: الاثنان معاً. فطلب من وزير الخارجية أن يطلب من سفير تونس في عدن تزويدهم بنسخة من «مجلة» [قوانين الأحوال الشخصية التونسية] وفعلاً صدرت بعد ذلك قوانين شخصية يمنية مشابهة جداً للقوانين الشخصية التونسية».
وقد عانى كثيراً من الفقر المدقع، لذلك راح يبحث عن أسبابه وعلاجه. ولعله أول من انتبه إلى خطورة الانفجار السكاني على العالم العربي، فحذر من مخاطره، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقال في هذا الخصوص: «طبعاً أعي الآن أفضل الأسباب الموضوعية لهذا الفقر الكوني: الانفجار السكاني. لكن ذلك لا يعفي أغنياء العالم دولاً وشركات وأفراد من خطيئة عدم التفكير في نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني».
ماركسية العفيف
وعلى سؤال من السيد عبد القادر الجنابي: «ماذا تبقى اليوم من ماركسيتك التي اعتنقتها ودافعتَ عنها طوال السبعينيات..؟» فيجيب قائلاً: «فقري الذي مازال رفيق حياتي كان وربما مازال وراء قناعاتي الماركسية التي وصلت إليها في 1963… إذن لم أكن مدفوعاً بقناعات نظرية عميقة بل بغريزة طبقية فقط. .. فقد بلورت قناعاتي النظرية بعدما آمنت سلفاً بالماركسية.. ولكن، منذ الستينيات بدأت أتساءل عن مدى اشتراكية المعسكر الاشتراكي.» ويضيف: «… من زيارة لتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية اللذين وجدتهما أشبه بالمعتقل لسكانهما منهما بالمجتمع. قالت لي فتاة تشيكوسلوفاكية عاملة عندما سألتها أن تعرِّف لي النظام الذي يحكمها: «نظاماً فاشياً». أما في ألمانيا الشرقية، وقد كنت يومياً أستمع إلى نكات العمال على حساب «جنة الاشتراكية الألمانية». في برلين الغربية كنت في حانة نحتسي البيرة فسألت مجموعة من العمال الشباب عن رأيهم في الماركسية، فقادني أحدهم إلى خارج الحانة وأشار بسبابته إلى جدار برلين الشهير قائلاً: «هذه هي الماركسية».. في الحقيقة كانت أوهامي عن الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا .. إلخ، والأحزاب الشيوعية في العالم العربي والعالم قد تلاشت قبل ذلك. دخلت مع المعسكر الاشتراكي والأحزاب الشيوعية العربية في سجال عنيف. وردوا إليّ الصاع صاعين فاتهموني في 1967 بأني عميل لألمانيا الغربية بسبب موقفي من ألمانيا الشرقية.. باختصار حاربتني الأحزاب الشيوعية بالشائعات. كانت مشاعري إزاء ذلك مزيجاً من الشعور بالاضطهاد والعزلة والاعتزاز. الاعتزاز بأنني غير مفهوم وأكلف الشرق والغرب مشقة فهمي: الغرب يرفضني لأنني ماركسي والماركسيون اللينينيون يرفضونني لأنني عميل للغرب. ساعدني ذلك على أن أفكر بنفسي باستقلال عن المرجعيتين الشرقية والغربية.»
عاش العفيف عدة سنوات في بيروت ثائراً ينشر الأفكار التقدمية في ندوات أسبوعية، ومقالات ناقداً فيها الماركسية اللينينية والأنظمة العربية، ووصفه للاتحاد السوفيتي والصين بأنهما إمبرياليان في مجلة «دراسات عربية»، مما أخرج المتعاطفين مع هذه الاتجاهات عن طورهم. «كان اليسار يرى فيّ يمينياً واليمين يرى فيّ يسارياً متطرفاً».
موقف العفيف من الإسلام السياسي:
رأى العفيف «أن إسلام القرون الوسطي يشكل عائقاً دينياً هائلاً يعتقل عقول المسلمين فلا تعود قادرة على التفكير الواقعي فضلاً عن العقلاني في أمور دينها ودنياها.. فالمرأة المسلمة وغير المسلمين يعاملون في بداية الألفية الثالثة معاملة أكثر ضراوة بما لا يقاس من معاملة الرأسمالية المتوحشة في القرن التاسع عشرة للنساء والأطفال».
والجدير بالذكر أن مشكلة العفيف هي مع الإسلام السياسي وليس مع الإسلام كدين الذي يؤكد أن «العلم يعترف بالدين في مجاله الخاص، الذي هو الروحانيات وتقديم العزاء والسلوى للحزانى…» ولكنه ينتقد الإسلام السياسي فيقول: «الاتجاه المضاد الذي يقوده الإسلام السياسي والإرهابي الهادف إلى العودة إلى عصر ذهبي موهوم في ماضيه السحيق لا يبدو أنه يمتلك زمام المستقبل… وكارثة على المسلمين لأن المسيحيين بينهم هم خميرة الحداثة أي العلمانية والديمقراطية والمساواة بين الجنسين والمساواة بين المسلم وغير المسلم».
أما الحل لهذه الأزمة فهو في التخلص من التعليم الجهادي التكفيري «والمطالبة بتعليم ديني بديل متصالح مع العلم ومع المرأة ومع غير المسلم ومع الديمقراطية ومع حقوق الإنسان ومع علوم الحداثة العقلانية والإنسانية وهذا ممكن» ويؤكد على «أن للدين وظائف روحية ونفسية مازالت قوية في النفسية البشرية المسكونة بإعطاء حياتها معنى بعد الموت: الخلود في عالم البقاء. ولا ضير من ذلك عندما لا يعترض الدين المعلمن والمرشد عن إعطاء الآخرين معنى لحياتهم في الحياة لا فقط بعد الممات».
اللقاء مع العفيف
لا شك أن اللقاء مع مفكر كبير متعة فائقة، خاصة إذا كنت منسجماً معه فكرياً إلى حد التماهي. فأول ما قرأت للعفيف كان مقالاً له نشر في الحياة اللندنية قبل نحو 15 سنة، ومن تلك المقالة أصبت بالإدمان على قراءة كل ما ينشر للعفيف، إذ كان له عمود أسبوعي في الصحيفة المذكورة. ولسوء حظنا، أنه منع من النشر في تلك الصحيفة بأمر مالكها الأمير السعودي خالد بن سلطان، لأنه انتقد في إحدى مقالاته التخلف السعودي.
وبعد ذلك ظهرت مقالاته في «إيلاف» بشكل منتظم لعدة سنوات إلى أن توقفت «إيلاف» عن نشر كتاباته لأسباب لا نعرفها. وأخيراً ظهر في الحوار المتمدن بشكل منتظم إلى رحيله.
مشكلة العفيف الشخصية، أنه لم يكن على وئام مع التكنولوجيا، فلم يطق الكومبيوتر واستخدام الكيبورد، بل تمسك بالقلم في كتابة مقالاته. ثم أصيب قبل سنوات بعجز في يديه فلم يستطع الكتابة لفترة، ولم ينشر إلا بمساعدة بعض أصدقائه الذين يزورونه فيملي عليهم مقالاته بين حين وآخر. وعندها تشمت به رئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، أن الله شل يديه عقاباً له على كفره!! وهكذا عامل الغنوشي الله كبشر يغضب وينتقم..!!
وأخيراً تعافى العفيف واستعاد قوة يديه وعاد للكتابة والنشر. وكان يبحث عن سكرتيرة ليملي عليها فلم يفلح إلا في الآونة الأخيرة وبمساعدة أحد أصدقائه الخيّرين. لذلك لاحظنا في الأشهر الأخيرة من حياته نشاطاً ملحوظاَ في نشر سلسلة من المقالات الطويلة وهي عبارة عن فصول لكتاب له كان ينوي نشره.
وفي نهاية العام الماضي (دجنبر 2012) أسعفني الحظ بلقائه مع نخبة ممتازة من المفكرين الإصلاحيين العرب وغير العرب، فتحققت الأمنية بمناسبة حضورنا مؤتمر روما للإصلاح الإسلامي الذي نظمه الدكتور ستفين ألف، مدير مؤسسة الإصلاح، فكانت حقاً فرصة سعيدة جداً. ورغم معاناته من المرض إلا أنه كان مفعماً بالنشاط الفكري، مرحاً والابتسامة لم تفارقه.
عاش متمرداً ومات متمرداً، إذ تمرد حتى على الموت. فقد أخبرني عن مرضه، وأن الأطباء أبلغوه بأن لم يبق له سوى ستة أسابيع فقط. لذلك كان في سباق مع الزمن والموت لإنجاز سلسلة من مقالات ودراسات عن الإصلاح الديني. فحاول أن ينشر أكبر ما يمكن خلال ما تبقى من عمره فتحدى الموت والأطباء معاً وبقى أكثر من 8 أشهر بدلاً من ستة أسابيع، أنجز خلالها أفضل مقالاته في مقارعة الفكر الظلامي.
سألته مرة ونحن في مصعد الفندق، ما رأيك بدور الفرد في التاريخ؟ فقال وهو يضحك: هذا السؤال شغلني نحو ستين سنة. باختصار فإن كلما يستطيع الفرد عمله هو أن يفهم متطلبات المرحلة التاريخية ويتكيف مع مسارها.
وأخيراً، من هو العفيف الأخضر؟
وفي حواره مع القراء سأله الكاتب الصديق أشرف عبدالقادر: "يتهمك الكثيرون بأنك تغيِّر أفكارك، حتى إن أحدهم قال لك في فضائية الجزيرة، بأنك أخضر، وأصفر، وأحمر، فهل على الكاتب أو المفكر أن يراجع أفكاره أم يتراجع عنها؟ وهل هناك فرق بين التراجع والمراجعة؟
فأجاب قائلاً: " نعم أغيِّر أفكاري بمجرد أن أكتشف أن الواقع تجاوزها أو لم تكن متكيفة معه، تذكر يا أشرف كلمة ماركس الجميلة" كل شيء يتغير إلا قانون التغير"، في نظري من يكابر أمام الوقائع والواقع لا يمكن أن يكون مثقفاً حقاً، ذكرتني بالإسلاموي الذي وصفني بالأخضر والأصفر والأحمر وبكل ألوان الطيف .. لا بأس، فأنا ثوري ورجعي، متدين وملحد، مادي وروحي، شاعر سراً وناثر جهراً، فأنا كتلة متفجرة من المتناقضات المتعايشة سلمياً ..أنا ثوري عندما يتعلق الأمر بالوقوف بحزم ضد حروب العرب الانتحارية ضد إسرائيل وغيرها، و"رجعي" عندما يتعلق الأمر بتوقيع السلام، فأنا مع السلام بأي ثمن كان لأن السلام هو أثمن ثمن. … وأنا متدين بكل دين يكون ملاذاً روحياً "للغلابة" والحزانى والمتألمين، ديناً يكون زفرة الإنسان المكبل بالأغلال وقلباً في عالم لا قلب له وروحاً لحقبة لا روح فيها، فأنا متدين بكل دين روحي، أي فصل بين الزمني والدنيوي وعانق فيه يسوع روح الله غاندي .. دين هو :"من يرتضي غير التسامح ديناً فلن يقبل منه، كما قال صديقي د. محمد عبد المطلب الهوني" وتذكر قول ابن عربي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دانى
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف وقرآن
أدين بدين الحب أنّي توجهت
ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
فأنا على دين ابن عربي. وأنا ملحد بكل دين يكون دين دولة، يكون دين تعصب، وبكل دين جهادي واستشهادي، وبكل دين يضطهد الفرد والمرأة وغير المسلم بغرائزه البدائية وعقوباته البدنية. وأنا مادي بالمعني الفيزيائي للمادة القائل بأن "المادة هي الطاقة التي تأخذ شكلاً"، وأنا روحي بمعني أن الروح هو الطاقة التي تسري في العالم،على الكاتب أن يعيد التفكير في أفكاره دون توقف، أي أن يراجع أفكاره دائماً ليمتحنها على ضوء حركة الواقع وأن يتراجع عنها كلما اكتشف أنها لم تعد أو لم تكن أصلاً متكيفة مع الواقع. إذاً لا وجود لفارق جوهري بين المراجعة والتراجع فالهدف هو دائماً واحد: البحث عن الحقيقة التي هي دائماً تاريخية، أي نسبية. لماذا؟ لأن معرفتنا بالواقع نسبية وقدرة عقولنا على الإحاطة به والأدوات التي تستخدمها لإدراكه بها نسبية هي الأخرى، فلا يمكننا إدعاء امتلاك الحقيقة التي لا تحول ولا تزول إلا إذا سقطنا في مهاوي التعصب والعياذ بالله". انتهى
نعم، هذا هو العفيف الأخضر. أنه مع قانون التغيير. ولذلك فالعفيف لم يمت، لأنه باحث عن الحقيقة التاريخية (النسبية) بلا تعصب، وسوف يبقى حياً في وجدان محبيه ومريديه، إذ تبقى أفكاره التنويرية مشاعل تنير الدرب للمناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانعتاق والتجديد.
موت هذا المفكر العملاق خسارة لنا جميعاً لا تعوض. عزاؤنا الحار لأهله وأصدقائه وقرائه ولأنفسنا، وله الذكر الطيب.
كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.