الدولة ظاهرة تاريخية سياسية قانونية أنتجها العقل البشري لتنظيم المجتمعات وترسيخ أسس العيش المشترك، وهي أرقى شكل للتنظيم استقر عليه الفكر البشري لتخليص البشرية من حياة الفوضى التى كانت سائدة في المجتمعات القديمة، هذا التوجه الذي سار عليه الفكر السياسي والقانوني المعاصر، فقد أصبحت حاجة الإنسان للدولة أساسية لا يمكنه الاستغناء عنها ك "الماء والغذاء والدواء"، بمعني آخر أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة. وبرزت أهمية الدولة وتعاظمت حاجتنا إليها خلال أزمة جائحة كورونا-كوفيد19، التي عصفت بالعالم نهاية شهر ديسمبر من العام الماضي، هذا الفيروس الذي أخذ سكان العالم رهائن وقضى على أعتى الأنظمة الصحية في غضون أسابيع قليلة بحسب ما عبرت عنه منظمة الصحة العالمية. أزمة لم تشهد البشرية لها مثيل هي الأسوأ منذ "الكساد الكبير" في الثلاثينات من القرن الماضي حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، الذي بدوره يحذر من الانتشار المستمر للوباء كونه سيعرقل قدرة الحكومات والبنوك المركزية للسيطرة على الأزمة، كما يرى بأن سياسات "الإغلاق الكبير" التي تبنتها الحكومات عكست "واقعا قاتما" لأصحاب القرار من السياسيين، الذين يواجهون "بلبلة شديدة بشأن مدة الصدمة وحدتها". وتفيد المعلومات المتاحة حول تأثير أزمة فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي بأن البشرية تقف أمام أزمة من نوع خاص، تداعياتها عصفت بمعدلات متزايدة بالبلدان التي تندرج ضمن شريحتي الدخل المنخفض والمتوسط، وألحقت بها خسائر اقتصادية فادحة تجازوت كل التوقعات، والتي من دون أدنى شك ستؤثر سلبا على الناتج المحلي الخام العالمي، حيث من المتوقع أن يتقلص خلال العامين القادمين إلى ما يقارب " 9 تريليونات" دولار أمريكي بحسب تقديرات الخبراء والهيئات الدولية ذات العلاقة. إلى جانب هذا، فقد فرضت سياسات الإغلاق نفسها على قطاع الطيران حول العالم، الأمر الذي شل حركة السفر الدولية وأدى إلى توقفها بشكل شبه كامل، مما أدى إلى انعكاسات حادة على نشاط السياحة العالمية وأصاب القطاعات المرتبطة بها بخسائر فادحة وغير متوقعة يصعب حصرها. وفي سياق متصل، أثرت سياسات الإغلاق "الكامل أو الجزئي" المفروض على الشركات والصناعات في كل من آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية على حركة التجارة العالمية وأدت إلى تراجعها لمستويات غير مسبوقة، مما تتسبب في تضاؤل معدل تدفق التحويلات المالية التي تعتبر مصدرا هاما للعملة الصعبة التي تلجأ إليها الحكومات من أجل شراء المواد والسلع الأساسية من السوق العالمية. في هذا الشأن تشكل السياحة والتحويلات المالية مصادر أساسية لميزانية الدولة وفي توفير فرص العمل وتوليد الدخل لصالح الشرائح الفقيرة على التوالي، حيث انعكس توقف حركتهما سلبا على موارد الدولة، التي أساسا تعاني من عجز نتيجة توقف دوران عجلة القطاع الاقتصادي باعتباره القطاع الأكثر مساهمة في ميزانيتها "ضرائب +رسوم جمركية". كما وضعت التطورات الاقتصادية المتلاحقة على الصعيد العالمي الدولة في مواجهة سيناريوهات عدة أدت إلى عجزها عن تحصيل ديونها الضريبية، والتي من دونها لن تستطيع أجهزتها المختلفة مزاولة أنشطتها المعتادة، وتمويل برامجها ومشاريعها في شتى المجالات. فمن المتوقع أن يكون لهذه التحديات تداعيات على أداء الدولة لوظائفها خصوصا التقليدية منها "التعليم والصحة والأمن" في هذه الظرفية الحرجة من حياة البشرية جمعاء. بالإضافة إلى ذلك، ستؤثر الأزمة على قدرة الدولة على توفير خدماتها الأساسية "الماء والكهرباء والمواصلات والاتصالات...إلخ"، كما ستنعكس هذه التطورات سلبا على مجالات عدة تنفق عليها الدولة خصوصا على مستوى البرامج الاجتماعية والخدماتية التي تستفيد منها شرائح واسعة من المجتمع، الأمر الذي سيضع أجهزتها المختلفة محل اختبار حقيقي. في هذا الصدد، وتحسبا لتدهور الأوضاع لمستويات غير مسبوقة اتخذت معظم بلدان العالم مبادرات عاجلة بهدف إعادة النظر في مشاريعها وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي سطرتها ضمن قوانينها المالية السنوية قبل بدء أزمة جائحة كوفيد-19، بمقتضاها أعلنت عن مشاريع وبرامج جديدة أكثر واقعية وتنسجم مع خطورة المرحلة الحرجة وحساسيتها. عطفا على ماسبق، نؤكد على أهمية حضور الدولة بمختلف وسائلها المتاحة وبصفتها صاحبة السلطان والسيادة للنجاة من تبعات الصدمة أو الكارثة كما يطلق عليها بعض المختصين، والمرجح استمرار تداعياتها لسنوات عديدة بحسب أخر التقارير الصادرة عن الهيئات الدولية ذات العلاقة. إضافة إلى ذلك، لابد من تظافر الجهود بين الدولة وشركائها ومختلف الفاعلين الرئيسين داخل المجتمع، والتحلي بروح المواطنة وأسمي درجات المسؤولية الوطنية، والعمل معا بشكل تضامني وتعاضدي لمواجهة تداعيات الجائحة الكارثية في شتى المجالات. إضافة إلى ذلك، منح الدولة الثقة الكافية باعتبارها الجهاز الأكثر صلابة وقدرة على مواجهة الأزمات ومعالجة آثارها مهما كانت قوتها ودرجة خطورتها، وتهيئة الظروف الملائمة وإفساح المجال أمام أجهزتها المختلفة لكي تستطيع بلورة التصورات وإقرار البرامج المناسبة لمعالجة القضايا والأوضاع المستجدة والتطورات المتلاحقة التي نتجت عن أعتى أزمة اقتصادية ضربت الاقتصاد العالمي منذ قرون عديدة. وباعتبار الدولة الجهاز الأكثر قدرة على مواجهة الأزمات ومعالجة آثارها الكارثية، والجهة التي تمتلك الموارد البشرية "أطر–كفاءات- موظفين...إلخ" والموارد والإمكانيات المادية وغيرها اللازمة للقيام بهذه المهام الشاقة. كما يتعين على أجهزتها المختلفة القيام بمهامها والتزاماتها طبقا لقواعد الشفافية ودون محاباة فئة أو تمييز فئة على حساب فئة أخرى من فئات المجتمع، إلى جانب ذلك توظيف كل وسائلها وإمكانياتها المتاحة للرقي بالمجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره والتصدي للازمات والكوارث التي تهدده أي كان مصدرها. هذا ما لمسناه أثناء أزمة فيروس كوفيد-19، حيث في الوقت الذي التزم الجميع بالبقاء في منازلهم، ظلت الدولة بأجهزتها المختلفة تسهر على تدبير الأزمة، عبر إقرار مجموعة من التدابير التي تضمن توفير الأمن الصحي لمواطنيها، بالرغم من امكانياتها المحدودة وشح المعلومات الواردة بخصوص طبيعة الفيروس ومصدره. ختاما، أتمنى من الله تعالى بأن يحفظ البشرية جمعاء من شر الوباء، ويمكن بلادنا من تخطي آثاره الكارثية بنجاح، وبنظري لن نتمكن من العبور إلى بر الأمان وتجاوز هذه الأزمة وتداعياتها بسلام، إلا في حالة أدركنا جميعا عمق الأزمة وحساسية المرحلة على كافة المستويات، التي تتطلب من كافة أفراد المجتمع وفعاليته التحلي بأقصى درجات المواطنة وتغليب مصلحة الوطن على المصلحة الخاصة، وتعزيز مظاهر التضامن والترابط الاجتماعي عبر المساهمة بتحمل الأعباء والتكاليف الناتجة عن الأزمة على حد سواء مع الدولة وعدم تركها وحيدة في مواجهة أشرس أزمة تشهدها البشرية على مر العصور.
كما أؤكد، على أهمية الحفاظ على وظيفة الدولة الحصرية في مجال تنظيم المجتمع وترسيخ مبادئ العيش المشترك. مشددا على أولوية تكريس فكرة الدولة في الوعي الجمعي لأفراد المجتمع باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع فئاته ومكوناته والجهة التي تعبر عن طموحات وتطلعات أبناؤه، لذلك يتعين على الجهات الحكومية المختصة توظيف مختلف الوسائل والإمكانيات المتاحة لتحقيق ذلك.