حين يضيق الهامش الذي تتنفس منه حرية التعبير، لا يختنق الصوت النقدي فقط، بل تصاب الحقيقة نفسها بالاختناق. في مثل هذه البيئات المأزومة، حيث تتراجع الصحافة المستقلة وتتغول سلطتا المال والسياسة، يصبح التحكم في المعاني أول أدوات السيطرة. وحين تفرغ الكلمات من مضامينها، يعاد ترتيب الواقع وفق مصالح الأقوياء، ويدجن الرأي العام على نحو يجعل الضحية تبدو مذنبة، والمهيمن يبدو مخلصا. الكاتب والصحافي الفرنسي سيرج حليمي، في كتابه الشهير «Les nouveaux chiens de garde» (كلاب الحراسة الجدد)، قدم توصيفا بالغ الدقة لهذا الانقلاب في وظيفة الإعلام. فبعد أن كان الصحافي سلطة رابعة تراقب وتكشف وتحاسب، تحول جزء معتبر من النخبة الإعلامية إلى ذراع تبريرية للنظام الاقتصادي والسياسي القائم، يتقن فن صناعة الإجماع وتدجين الاختلاف. إنهم "الكلاب الجدد" الذين لا ينبحون في وجه السلطة، بل يعضون كل من يجرؤ على مساءلتها. في السياق المغربي، تبدو هذه الصورة أكثر وضوحا كلما تعاظمت الأزمات البنيوية في الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية، فعوض أن تنخرط وسائل الإعلام الكبرى – الرسمية وشبه الرسمية – في نقاش عمومي مسؤول حول جوهر هذه المعضلات، تصر على تحويل وجهة النقاش. في البرامج الحوارية والنشرات الإخبارية وصفحات المواقع والجرائد اليومية، يتم استدعاء "الخبراء" و"المحللين" لتكرار سرديات جاهزة حول "أزمة الشباب"، أو "ضرورة الاستماع إلى الجيل الجديد"، دون أن يُفتح نقاش جاد حول منظومة الفساد البنيوي أو غياب العدالة في توزيع الثروة وتكافؤ الفرص الذي يجب أن يتوفر لجميع المغاربة بدون تمييز. وهكذا يختزل الفعل الاحتجاجي الشبابي في مشهد اجتماعي أو نفسي، بدل أن يقرأ كصرخة سياسية ضد اختلالات عميقة في بنية الدولة والمجتمع. هذا ما يسميه عالم الاجتماع بيار بورديو ب"العنف الرمزي"، حين تمارس الهيمنة من خلال الخطاب نفسه، لا بالقوة المباشرة. الإعلام هنا لا يقمع الفكرة، بل يفرغها من معناها، عبر التكرار الممنهج لعبارات مثل "الإصلاح المتدرج"، و"الإنصات للشباب"، و"الرهان على النموذج التنموي الجديد" إلى ما يشبه ذلك من صيغ وعبارات جوفاء، دون أن يُفتح النقاش حول جوهر الإصلاح ومن يخدمه فعلا. إن إعادة تشكيل الوعي العام لا تتم فقط عبر ما يقال، بل أيضا عبر ما لا يقال. فحين تُمنع الأصوات المستقلة من الوصول إلى الجمهور، أو تحاصر في هوامش رقمية ضيقة، تُترك الساحة للرواية الرسمية كي تتحول إلى "الحقيقة الوحيدة الممكنة". تغلق القنوات العمومية على نفسها، وتكتفي بتكرار شعارات "الإجماع الوطني" و"المصلحة العليا"، في حين تستبعد القضايا المفصلية مثل استقلالية القضاء ومحاربة تضارب المصالح وتجفيف منابع الفساد الإداري والمالي. بهذا المعنى، تصبح حرية التعبير ليست مجرد حق فردي، بل شرطا لوجود حقيقة مشتركة. حين تُصادَر الحرية، يُختطف المعنى، وتُقلب المفاهيم: الناقد يُصور كخائن، والمُصلح يتهم بالشعبوية، والمحتج يختزل في صورة مراهق متمرد. أو مخرب "مشرمل". ولذلك، فإن الدفاع عن حرية الصحافة ليس دفاعا عن الصحافيين فحسب، بل عن الحق الجماعي في الفهم، وعن قدرة المجتمع على تمييز الجوهر من القشور، والحقيقة من الدعاية. في النهاية، كما كتب جورج أورويل في روايته 1984: "من يملك السيطرة على الماضي، يملك السيطرة على المستقبل. ومن يملك السيطرة على الحاضر، يملك السيطرة على الماضي" وحين يُمسك الإعلام الرسمي بخيوط الحاضر، يصبح الماضي والمستقبل معاً رهينَين لسردية واحدة: سردية السلطة.