تعتبر الشريعة الاسلامية بمثابة ذلك الدستور المتكامل الذي جاء ليؤطر حياة الانسان من كل الاتجاهات وفق موازنة مثالية بين طبيعته الفطرية و بين واجباته اتجاه الخالق ,فبعدما كانت البشرية تعيش في عشوائية لا متناهية على جميع المستويات ,جاءت البعثة المحمدية لتنير الطريق و لتؤسس لمجتمع انساني مبني على قواعد أساسية أزلية مصدرها مرجعان منسجمان هما:الكتاب المقدس و السنة النبوية الشريفة,موجهان للبشرية جمعاء:'و ماأرسلناك الا كافة للناس بشيرا و نذيرا' سورة سبأ, كحرص تام على مصلحة جميع المجتمعات دون استتناء. واذا انطلقنا من مسلمة أساسية هي أن هذه الشريعة هي شريعة مثالية مقدسة صالحة لكل زمان و مكان فسنخلص الى نتيجة حتمية-منطقية-و هي أن تأويل جوانب من نصوصها و فهم معانيه يبقى مفتوحا و متغيرا مع تغير الزمن على اعتبار أن الزمن و المكان متغيران بينما الشريعة أزلية,و اذا ما أقررنا بوجود تأويل واحد للنص فسنسقط في مفارقة أساسية و هي أن الشريعة ثابثة لا تتغير بتغير الأحوال و لا تتجدد بتجدد العصور ,وذلك ما لا يمكن بالبتة تصوره و لا حصوله , واذا ما افترضنا أن القران بدأ تفسيره المنظم خلال عصر التدوين فان هذا التفسير في حد ذاثه هو خاص بتلك المرحلة من الزمن بمعنى أن المفسرين سيطابقون هذا التفسير وفق المناخ العام الفكري و الاجتماعي و العلمي الخاص بذلك العصر بالذات ,ومع أننا هنا لا نسقط و لا نشك في مصداقية هذا التفسير الا أننا نرى أنه لا يوازي التغيرات الحالية لعصرنا اليوم و لا يواكب المستجدات الحالية و لتأكيد ما قلناه وجب علينا التمثيل لذلك ,فلنأخذ اية الحديدمثالا(رغم أنها اعجاز علمي) و لنرى كيف فسرها الطبري (839م-923م):و 'أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس 'سورة الحديد,و أنزلنا الحديد فيه قوة شديدة و منافع للناس و ذلك ما ينتفع به لقائهم العدو...بأس شديد السيوف و السلاح الذي يقاتل بها الناس,منافع للناس ,يحفرون بها الأرض و الجبال .اذن فتفسير الطبري لهذه الاية مستوحى من الواقع الذي عاش فيه حيث أن السيوف كانت تصنع من الحديد و يمكن أن تؤدي وضيفتين متضادتين وهما:اما الجهاد في سبيل الله (ونعلم مكانة الجهاد في الاسلام)من هنا تتضح المنفعة, و اما قتل النفس بغير حق و هي من السبع المهلكات و هنا يكمن البأس,ثم الوظائف الأخرى العادية كصناعة بعض أدوات الحفر ,أما اليوم فاذا أردنا تفسير هذه الاية فحتما وجب علينا تجديد ما قاله الطبري في المعنى و ليس في الأصل ,فبأس الحديد متنوع و مختلف باختلاف مجالات استخدامه ,فمثلا في مجالات المواصلات فحوادث السير في المغرب مثلا تقتل أكثر من عشرة أشخاص يوميا(البأس), ولا يمكننا أن نتصور استمرار الحياة دون مواصلات,(المنفعة) فعلا انه بأس شديد و منافع للناس. اذن فنفس الاية هنا احتملت تفسيرين و لكن في زمننين متباعدين كل البعد ,والغرض من هذا المثال هو تبيان أن هناك مسائل في القران وجب اعادة تفسيرها و اخضاعها لمنطق العصر,لا بتفسيرات أزمنة مضت ,فلكل مقام مقال و لكل زمن مفسروه ,على أن هذا التفسير الجديد لن ينقص من مكانة القران شيئا و انما سيكون شاهدا جديدا على مثالية الكتاب و صلاحيته الأبدية . بالاضافة الى مسألة التفسير هناك مسألة ثانية لا تختلف عنها بكثير انها مسألة اجتهاد العقل في فهم النص الديني ,فكثيرا ما نسمع من فقهاء و أئمة مساجد في بعض الخطب المنبرية تأكيدهم على فكرة أساسية و هي :'لا تسأل عن العلل و الأسباب و انما قل امنت و أسكت ' انها اذن دغمائية ممارسة على العقل البشري دون سند ديني,تسلب منه ارادة التفكير و البحث عن الحقيقة التي أمره الله بها في كثير من الايات ,يقول تعالى في سورة محمد الاية24 'أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها ' ويقول أيضا في سورة الغاشية 'أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت...' ويقول في سورة الذاريات الاية21 'وفي أنفسكم أفلا تبصرون' اذن فالتدبر و النظر و الابصار المذكورين في الايات السابقة لا يمكن أن يتموا الا باستعمال العقل في أعلى مستوياته ,فهي دعوة صريحة من الله الى عباده باستعمال العقل في فهم ما حولهم ,و أيضا في فهم كتابه الكريم بدلالة التدبر في القران ,فلكي يتم فهم اياته ,و تبعا لكون تفسيره كما أوضحنا غير صالح لكل زمان و مكان ,وجب استخدام العقل في تأويل النص ,لأن النص لا يمكن أن يخالف العقل ,وان حدث و خالفه فيجب تأويل النص عن طريق اعادة التدبر و التفكير فيه بطريقة أخرى,يقول ابن رشد في هذا الصدد:"اذا خالف النص العقل وجب تأويل النصّ" و هناك دليل صريح في القران على ذلك في قوله تعالى في سورة سبأ"قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادا ثم تتفكروا..." فهنا عبارة "مثنى و فرادا"دالة بالأساس على تعدد الرأي و اختلاف التأويل,فالرأي الفردي يعطي فكرة واحدة بينما التعدد من شأنه معالجة المسألة من زوايا متعددة و بالتالي تكتمل الصورة و يتضح الفهم .
كما أن لدينا في السنة النبوية مواضع كثيرة تم فيه تجاوز النص و الاقرار باجتهادات شخصية استلزمتها المواقف الواقعية و سنقتصر على موقف واحد لتوضيح ذلك,فيروى أن الامام أبو حنيفة بلغه أن سفيان ابن عينة يروي حديث النبي عليه السلام :"البيعان بالخيار ما لم يفترقا"أي أن البائع و المشتري يجوز لهما فسخ عقد البيع ما لم يبارحا المكان الذي هما فيه فقال (أبو حنيفة):أرايت ان كانا في سفينة؟أرايت ان كانا في سجن؟,اذن فابن حنيفة اجتهد في صنع أبعاد أخرى للحديث و التي لا تتناسب مع الموقف الأصلي الذي ذكر فيه ,فالحديث يبقى أصلي في عقود البيع و لكن تستتنى منه حالات ,حالات تستوجب بالضرورة تدخل العقل لابداء الرأي ,و يعزز أبو حنيفة هذا الرأي بقوله:"لو أدركني رسول الله و أدركته ,لأخذ بكثير من قولي,و هل الدين الا رأي" كتاب معالم المدرستين-سيد مرتضي العسكري-ج2 ص 278 ,واعتبارا لكون أبو حنيفة هو أحد الفقهاء الكبار ,أدركنا قيمة سلطة العقل في فهم النص الديني ,و من هنا-ربما -نعطي شرعية لما قلناه سابقا ,و الله أعلم