توقعات أحوال الطقس ليومه الجمعة    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    صواريخ إسرائيلية تصيب موقعا في إيران    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    المغاربة محيحين فأوروبا: حارث وأوناحي تأهلو لدومي فينال اليوروبا ليگ مع أمين عدلي وأكدو التألق المغربي لحكيمي ودياز ومزراوي فالشومبيونزليك    نظام العسكر حاشي راسو فنزاع الصحرا.. وزير الخارجية الجزائري تلاقى بغوتييرش وها فاش هضرو    لامارين رويال نقذات 12 حراك من الغرق فسواحل العيون    خطة مانشستر للتخلص من المغربي أمرابط    بني ملال..توقيف شخص متورط بشبهة التغرير و استدراج الأطفال القاصرين.    محركات الطائرات تجمع "لارام" و"سافران"    أساتذة موقوفون يعتصمون وسط بني ملال    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    "منتخب الفوتسال" ينهي التحضير للقاء ليبيا    بوريطة: الهوية الإفريقية متجذرة بعمق في الاختيارات السياسية للمغرب بقيادة جلالة الملك    "فيتو" أمريكي يفشل مساعي فلسطين الحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة    رئيس "الفاو" من الرباط: نفقات حروب 2024 تكفي لتحقيق الأمن الغذائي بالعالم    ابتزاز سائحة أجنبية يسقط أربعينيا بفاس    طقس الجمعة.. عودة أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    توثق الوضع المفجع في غزة.. مصور فلسطيني يتوج بأفضل صورة صحفية عالمية في 2024    إعادة انتخاب بووانو رئيسا للمجموعة النيابية للعدالة والتنمية للنصف الثاني من الولاية الحالية    النواب يحسم موعد انتخاب اللجن الدائمة ويعقد الأربعاء جلسة تقديم الحصيلة المرحلية للحكومة    "أشبال الأطلس" يستهلون مشوارهم في بطولة شمال إفريقيا بتعادل مع الجزائر    بوركينافاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين اتهمتهم بالقيام ب"أنشطة تخريبية"    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    مدير "الفاو" يحذر من تفاقم الجوع بإفريقيا ويشيد بالنموذج المغربي في الزراعة    غوغل تطرد 28 من موظفيها لمشاركتهم في احتجاج ضد عقد مع إسرائيل        ما هو تلقيح السحب وهل تسبب في فيضانات دبي؟    طنجة: توقيف شخص وحجز 1800 قرص مخدر من نوع "زيبام"    الحكومة ستستورد ازيد من 600 الف رأس من الأغنام لعيد الاضحى    لماذا يصرّ الكابرانات على إهانة الكفاح الفلسطيني؟    نجوم مغاربة في المربع الذهبي لأبطال أوروبا    مجلس الحكومة يصادق على مشاريع وتعيينات    مطار حمد الدولي يحصد لقب "أفضل مطار في العالم"    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة        قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين القراءة التراثية والقراءة الحداثية
نشر في التجديد يوم 03 - 03 - 2014

ظلت إشكالية العقل والنقل،الرأي والسمع، الوضعي والمعياري، الرأي والأثر، التراثي والحداثي، عبر التاريخ الإسلامي- وهي على تفاوت المسافة بين هذين قربا وبعدا منذ ظهور مدرسة الرأي والأثر، فإلى الفرق الكلامية معتزلة وأشعرية وماتوريدية، فإلى علم الجدل وما انبثق عنه من علم المناظرة التي أصبحت علما مستقلا وفنا أدبيا للمسلمين وأخيرا إلى التراثي والحداثي الوضعي اليوم- قلت ظلت هذه الإشكالية لم تبرح مكانها في كثير من الأحيان، ما إن يحرر ويحسم الإشكال فيها حتى يظهر من يلبس على الناس والأمة من جديد ليعيدهم إلى نقطة الصفر، وتلك سنة الله في خلقه تدافعا بين الخير والشر. ولكل جنوده.
ولقد رأيت بعد –وليس مثلي من يرى- أن ألقي بسهم في الموضوع، لا لأن القضية لم تحرر ولكن لأن تجدد الأجيال يستلزم تجدد الخطاب فأقول وبالله التوفيق.
إن الناظر بعمق في شرايين القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية وقوفا عند تصورهما ووحدتهما الكلية، وما جادت به الذاكرة لأسلافنا وعلمائنا الأجلاء، لا يجد إطلاقا هذا التعارض وهذا التصارع والتناطح، بين مقولات العقل وهدي النقل، داخل البيئة الإسلامية. وكل ما ظهر للناظر أنه تعارض فهو راجع إلى قصور عقل الإنسان في الفهم وفي الإدراك الكلي لا إلى النص. كما أن التعارض لا يتصور داخل المرجعية الواحدة استيعابا كليا لتصوراتها الوجودية، ومبادئها العقدية، وقواعدها التشريعية، ومقاصدها الكلية، وخصائصها المنهجية في التفكير وقوفا عند مبادئها الخمسة: (وحدانية الخالق، واستخلاف الإنسان في الكون، والحرية إدراكا لأبعادها الثلاثة: بعد حرية العقيدة، وبعد حرية الفكر، وبعد حرية الأداء الاجتماعي. ثم السببية وفاعلية الإنسان، وأخيرا وحدة الأمة والدين) ما دامت منهجيات التفكير هذه هي المدخل"لتجاوز الاضطراب الاجتماعي، وإصلاح الفوضى الثقافية" . وليس معنى هذا أن القرآن الكريم يدين العقل أو يتوجس منه، أويدعو إلى تعطيله آمرا إياه بالاستسلام والتمسح بأهداب النصوص. ولكن الرؤية التكاملية- لا النظرة التجزيئية- تثبت تمجيد القرآن له، والحث على إعماله، والنهي عن تعطيله بل والمسؤولية عن إهماله.ووجدنا القرآن الكريم لم يستعمل "العقل بصيغة الإسم وإنما ورد عشرات المرات بصيغ الفعل عقلوه، يعقلون، يعقل.. إشارة إلى أنه فعل يمارس، وليس مجرد عضو يستخدم أو يعطل" . ويدعم إعماله بكثير من الألفاظ الأخرى التي هي وسائل للمعرفة والإدراك: السمع، البصر، الفؤاد، التفكر والتدبر، الحكمة والذكر...وكلها مصطلحات قرآنية تتعاضد وتتنوع صيغها مؤكدة أن لا سبيل إلى فلاح الإنسان إلا بإعمال العقل "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"الملك10 .
ولقد كان أول تحنن السماء على الأرض –تجسيدا للطور الثاني من تاريخ البشرية- نزول قوله تعالى"اقرأ باسم ربك الذي خلق"العلق1 دعوة مفتوحة إلى القراءة لا ترتبط بالكتاب المسطور فقط، بل وبالكتاب المنظور، واضعة العقل في قلب العالم وليس بعيدا عنه، والقاعدة في النحو أنه "إذا ذكر الفعل وحذف مفعوله أطلق معناه". وليس عبثا أن تكون كلمة "اقرأ" هي الكلمة الأولى في كتاب الله، وليس عبثا –كذلك-أن ترد كلمة "علم" ثلاث مرات، وأن يشار بالحرف إلى "القلم": الأداة التي يتعلم بها الإنسان.
وبعدها، وعبر المدى الزمني لتنزل القرآن "ينهمر السيل ويتعال النداء المرة تلو المرة: اقرأ، تفكر، اعقل، تدبر، تفقه، انظر، تبصر...إلى آخره ويجد العقل المسلم ملزما بمنطق الإيمان نفسه بأن يتحول أن يتشكل من جديد لكي يتلاءم مع التوجه المعرفي الذي أراده الدين الجديد"
ولم تكن النقلة المعرفية التي مارسها القرآن الكريم لتحرر العقل من الخوف والجهل والأمية وحدها فقط، بل كانت هناك نقلتان أخريان:
الأولى، اعتقادية حررت الإنسان من الخرافات والضلالات والأوهام والطواغيت..والثانية، منهجية اتجهت "باتجاه تحرير الإنسان المسلم من الخضوع للفوضى، والانحناء للصدفة العمياء، وتبصيره بقوانين العمل والحركة التي يسير الكون والعالم والتاريخ بموجبها"
وليس هناك من هو أكثر شغبا وجرأة عقدية للعقل، أكثر مما أورده القرآن الكريم نفسه عن إبراهيم وموسى عليهما السلام، أما عن الأول، فقوله تعالى:"وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تومن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"البقرة من الآية 260. وأما الثاني فقوله تعالى: "قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني"الأعراف من الآية143.
أما مع نبينا عليه الصلاة والسلام فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تومن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". وروي عن ابن عباس قال"أرجى آية في كتاب الله تعالى هذه الآية :"وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى..."الآية . وإن كان الشك هنا هو شك في الكيفية وليس في شمول القدرة الإلهية.
وما بسطت من النصوص هنا هو كاف لبيان قبول التصور الإسلامي بشغب العقل واستفزازاته داخل البيئة الإسلامية، والتصور الكلي الشمولي للوجود داخل المعطى الإسلامي. ولا إكراه في منهجية التفكير المستقاة خارج التصور الإسلامي لكن دون تضليل أو نفاق ايديولوجي.
وزيادة في الوضوح والبيان أجدني مضطرا إلى استلهام واقتباس بعض المنهج للفيلسوف "حجة الفكر" طه عبد الرحمن في معالجة ما صغته في العنوان:بين "القراءة الحداثية" التي تسعى إلى تحقيق قطيعة معرفية وتصورية فيما بينها وبين القراءة التراثية التي تقوم على ركنين: الأول، تأسيسي قام به المتقدمون, مفسرين وفقهاء ومتكلمين ومحدثين..في إطار علوم خادمة للنص. والثاني، تجديدي قام به المتأخرون سلفيين أصوليين أو سلفيين إصلاحيين، أو علماء بتخصصات متعددة ومتنوعة تعكس العقل التكاملي المسلم الملقح بالعقيدة الإسلامية. ويمكن تصنيف هذه المعارف والعلوم المشكلة للقراءة التراثية إلى:
"أولا: معرفة بانية للنصوص الإسلامية (علوم القرآن والحديث والفقه والتشريع والأصول والتفسير...).
ثانيا: معرفة تجادل عن قضايا إسلامية (علم الكلام، الفلسفة، الأدب...).
ثالثا: معرفة منبثقة عن قضايا إسلامية (التاريخ، علوم اللغة، البلاغة...).
رابعا: معرفة متشكلة لحل قضايا إسلامية (الحساب، الطب...).
خامسا: معرفة متشكلة بدوافع إسلامية (العلوم الصرفة...).
سادسا: معرفة تعبر عن قضايا إسلامية (الآداب، الفنون...).
سابعا: معرفة تستهدف تنفيد مطالب الحياة الإسلامية (علوم الإدارة، السياسة، التربية...).
ثامنا: معرفة تحلل ملامح الحياة الإسلامية (علم النفس، الاجتماع...).
تاسعا: معرفة تحكي وتوثق للحياة الإسلامية (التاريخ الآداب، الجغرافيا...).
عاشرا: معرفة تؤكد الحياة الإسلامية وتدعو لها (الأخلاق. الرقائق...)"
قلت هذا المنهج يقوم على ثلاث خطوات أساسية تشكل في مجموعها المشروع الانتقادي للقراءة التراثية ليعقبها المشروع الانتقادي أيضا للقراءة الحداثية. لأنه" إذا جاز عندهم أن ينتقدوا الديني بواسطة ما هو لاديني، فلم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا اللاديني بواسطة ما هو ديني، وإذا جاز عندهم أن ينتقدوا الأخلاق الإسلامية بواسطة الحداثة العلمانية، فلم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا الحداتة العلمانية بواسطة الأخلاق الإسلامية" .
الخطة الأولى: خطة التأنيس، وفحواها "نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري" سعيا إلى محو القدسية تسوية للإنسان بالله عز وجل. وتعكس النصوص التالية مقتضيات هذه الخطة:
يقول محمد أركون: "وكنت قد بينت في عدد من الدراسات السابقة أن مفهوم "الخطاب النبوي" يطلق على النصوص المجموعة في كتب العهد القديم والأناجيل والقرآن كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيميائية للنصوص، لا إلى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية" .ويقول نصر حامد أبو زيد: "إن القول بإلهية النصوص، والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم" . ثم يقول في نفس الكتاب: "والمقارنة بين القرآن والسيد المسيح من حيث طبيعة نزول الأول، وطبيعة ميلاد الثاني، تكشف عن وجوه التشابه بين البنية الدينية لكل منهما داخل البناء العقائدي للإسلام نفسه، ولعلنا لانكون مغالين إذا قلنا إنهما ليستا بنيتين بل بنية واحدة رغم اختلاف العناصر المكونة لكل منهما، فالقرآن كلام الله، وكذلك عيسى عليه السلام رسول الله وكلمته" .
ثم يضيف قائلا:" إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية بمعنى أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي" .وثالثة الأثافي ما ذكره الطيب التيزيني: "إن الوضعيات الاجتماعية المشخصة في المجتمع العربي بما انطوت عليه من سمات ومطالب اجتماعية اقتصادية وثقافية الخ هي التي تدخلت في عملية خلخلة النص القرآني وتشظيه، وتوزعه بنيويا ووظيفيا في اتجاهات طبقية وفئوية وأقوامية متعددة. وقد أتى ذلك على نحو ظهر فيه هذا النص معادا بناؤه وفق قراءات متعددة محتملة تعدد تلك الاتجاهات، وحواملها المجسدة بالوضعيات المذكورة إياها" .
إن مفاد هذه النصوص جميعها يتلخص فيما يلي:
-هدم البنية المفاهيمية للقرآن الكريم من خلال استبدال مصطلحات بأخرى كاستعمال مصطلح "الخطاب النبوي" مكان مصطلح "الخطاب الإلهي"، ومصطلح "العبارة" مكان مصطلح "الآية". وفي ذلك ما فيه من استهجان بقدسية الخطاب القرآني وإسقاط رمزيته وكارزميته، فضلا عن التشكيك في مصدريته.
-مساواة كلام الله عز وجل بغيره من الكلام البشري في رتبة الاستشهاد، وذلك بتنزيل الأقوال البشرية منزلة الآيات القرآنية. وهو أمر في غاية القبح والشناعة، إذ هو تكريس وامتداد للصراع الوثني القديم بين الله عز وجل والإنسان الذي تصوره الكثير من نصوص العهد القديم والجديد المحرفة . كما أنه ومن صلب هذه العقيدة الوثنية ولدت مقولة "حقوق الإنسان" باعتبارها أحد مفاهيم "المرجعية الكونية".
-المماثلة بين القرآن والنبي عيسى عليه السلام، وذلك من خلال قول نصر أبو زيد: "فالقرآن كلام الله وكذلك عيسى عليه السلام رسول الله وكلمته". ويبنى عليها الحكم التالي:" لما كان المسلمون ينفون عن السيد المسيح الطبيعة الإلهية ويثبتون له الطبيعة والصبغة البشرية، وجب عليم أن ينفوا عن القرآن الطبيعة الإلهية ويثبتوا له هو الآخر الطبيعة البشرية" . وهذا مبني على قاعدة "مصادرة المطلوب" وهي قاعدة متهافتة منطقيا في هذا السياق لا يصح الاستدلال بها.
-إبطال إطلاقية الزمان والمكان القرآني من حيث توجه الخطاب إليهما، وقصر هذا الأخير على ارتباطه بتاريخ نزوله، وتعلقه بالمعهود العربي، وبالتالي القول بنسبية خطابه، وانتهاء مقتضيات الخطاب بتاريخ نزوله. وهو نفس ما ذهب إليه عابد الجابري في قوله بتاريخانية النص.
-تجاوز منطق اللغة القرآني وقواعدها المعهودة التداولية المألوفة، وهو ما يفتحنا على اللامعنى لكل نص وخطاب، وبالتالي يضعنا أمام فوضى القراءة التأويلية.
2-خطة التعقيل: وهي خطة انطلقت من تمجيد العقل حتى القداسة، وتعامت عن الدور الذي لعبه الوحي في تشكيله تشكلا منهجيا علميا، وتقضي "بالتعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة" .
يقول محمد أركون مكرسا هذا المبدأ: "لكننا نعتقد أن أي نقد حقيقي للعقل الديني ينبغي أن يتمثل في استخدام كل مصادر المعقولية والتفكير التي تقدمها لنا علوم الإنسان والمجتمع من أجل زحزحة إشكالية الوحي من النظام الفكري والموقع الإبستمولوجي الخاص بالروح الدوغمائية إلى فضاءات التحليل والتأويل التي يفتحها الآن العقل الاستطلاعي الجديد المنبثق حديثا" .ثم يقول: "نحن نهدف من خلال هذه الدراسة إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه، أقصد زحزحة وتجاوز التصور الساذج والقليدي الذي قدمته الأنظمة اللاهوتية عنه" .
ويلزم من هذا النص الدعوة إلى التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع، واستخدام كل النظريات النقدية والفلسفية المستحدثة...لممارسة منهج التشكيك في مصدريته، وبالتالي "محو الغيبية". ثم فتح فوضى التأويل ليفسر ويتعاطى الإنسان مع النص القرآني كيف يحلو له من غير الإلمام بأي شرط أو ضابط مما وضعه علماء الإسلام كمفاتيح أولية للتعامل والتفاعل والفهم لكتاب الله عز وجل. وكأن هذه الضوابط والشروط في منظور العقل الحداثي هي "وسائط متحجرة تصرفنا عن الرجوع إلى النص القرآني ذاته، كما أنها تحول دون أن نقرأ هذا النص قراءة تأخذ بأسباب النظر العقلي الصريح لذا ما لبث أن اندفع هذا القارئ بقوة في نقد هذه العلوم النقلية" .فضلا عما في هذا من إطلاق عنان سلطة العقل في النقد والتحسين والتقبيح، والحكم على صوابية ما يشاء، وتخطئة ما يشاء مما كتب حول القرآن من تفاسير، وما نشأ حوله من علوم أصبحت قواعد وأسس لمنهجية التفكير.
ثم يقول نصر حامد أبو زيد: "إن كل الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات، وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه للحقيقة، لأنه حين يفعل ذلك يحكم على نفسه على أنه خطاب زائف" .ثم يضيف: "السحر والحسد والجن والشياطين مفردات في بنية ذهنية ترتبط بمرحلة محدودة من تطور الوعي الإنساني" .
ويطالعنا حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد" على فكرة مؤداها: أن العقل وحده هو المرجع في الحكم على التراث الذي تؤول إليه مهمة تأسيس ثقافة جديدة وفكر جديد: "مهمة التراث والتجديد التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة سواء كانت سلطة الموروث أو سلطة المنقول، سواء كانت سلطة التقاليد أم سلطة السياسة" .
والعقل الذي ينطلق منه حنفي لنقد التراث هو العقل الوضعي الرافض لمصدرية الوحي، والمختزل للحقيقة فيما هو حسي، لذلك يثور حنفي على مفاهيم : الميتا فيزيقا، الغيب الله، والجنة والنار والآخرة والحساب، والعقاب والصراط، والميزان والحوض" .لأنها "ألفاظ صرفة لا يمكن للعقل أن يتعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل" .بل يذهب حنفي إلى أبعد من استبعاد المفاهيم والمعاني المتعالية عن التجربة الحسية، فيدعوا إلى تغييب الأعلى ذاته بدعوى أن "علماء أصول الدين عندما يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل. فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا الإنسان مكبرا إلى أقصى حدوده" .
ومنطوق هذه النصوص يثبت أن لا أفضلية للقرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية الأخرى "التوراة" و"الإنجيل"، حتى من التحريف والتبديل الذي طالهما. وهذا فيه استهشاش للإرادة القدرية القهرية التي قضت بحفظ القرآن "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". كما تقضي هذه النصوص بتجاوز مصطلحات "الجن" "الشياطين" "السحر" لسخافتها وتهافتها أمام منطق العقل ما دام لا يؤمن إلا بما يراه، أو يستطيع أن يدلل عليه. وهذا مقتضى اتجاه العقلانية المطلقة في الفلسفة.
3-خطة التأريخ: ومفادها "وصل الآيات بظروف بيئتها وزمنها وبسياقاتها المختلفة" . وهو ما يقضي بتعطيل فحوى النصوص ومقتضياتها، واغتصاب الثمرة الحكم "محوا للحكمية". ويعكس هذا المعنى النصوص التالية:
يقول نصر حامد أبو زيد: "نكتفي هنا بالتوقف عند مستويات السياق المشتركة والعامة جدا مثل السياق الثقافي الاجتماعي والسياق الخارجي (سياق التخاطب) والسياق الداخلي (علاقات الأجزاء) والسياق اللغوي (تركيب الجملة والعلاقات بين الجمل). وأخيرا سياق القراءة أو سياق التأويل" .
ويقول الطيب التيزيني: "فالصبغة الإجمالية الكلية التي يظهر فيها النص القرآني في صوغ مبادئه ومعظم أحكامه، وكذلك في نمط خطابه، جعلته يبدو بمنزلة "كتاب هداية"و"كتاب بشرى"و"كتاب رحمة للمومنين". وليس من حيث هو كتاب قانوني تعليمي يحتوي على كل صغيرة وكبيرة، وحتى في حينه" .
وينبني على هذه النصوص:
-هدم ما يشكل "قيمة مضافة" لدى علماء المسلمين من علوم وقواعد قعدت عن طريق الاستقراء العلمي وأصبحت علوم تقعيدية على أساسها تضبط عملية فهم الدلالة، والاستنباط الفقهي والاستدلال، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني.
-الضرب في علمية وهرمية القواعد الأصولية واللغوية لأصول الفقه المتعلقة بمباحث الدلالة فيه، كقواعد الأمر والنهي والمطلق والمقيد والعام والخاص، وهي قواعد بإجماع الأصوليين-وعلى رأسهم أبو إسحاق الشاطبي- بنيت على القطع - بالنظر الكلي- لا على الظن. قال الشاطبي: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي" .
-تضييق مساحات الدلالة في النص القرآني فيما تغطيه آيات الأحكام فضلا على أن الكثير منها قد نسخ، والبعض الآخر تجاوزه التاريخ بغير رجعة مما يفضي إلى القول بإضفاء النسبية على آيات الأحكام: آيات الحدود والقصاص والمعاملات. وهو ما يعكس قصور فهمهم وإدراكهم لمعاني وحمولة كلمات الله في القرآن، ومشكلتهم عقدية أكثر من تشريعية. فضلا عن قصورهم اللغوي في اللسان العربي.
-اعتراضهم على المسلمة القائلة "بأن القرآن فيه بيان كل شيء وكذا اهتمامه بالبعد الأخروي دون معالجة الجانب الدنيوي، واهتمامه بالرقائق والأخلاقيات الباطنية "إن كنتم مومنين" "إن كنتم صادقين" ...دون أن يكون كتاب تربية وتعليم واقتصاد وسياسة ودستورا للبشرية.
في نقد الخطط الثلاثة:
يبدو للوهلة الأولى أن ما تناهت إليه القراءة الحداثية التي يتزعمها هؤلاء يشكل ويعكس ثقافة مقطوعة ومبتوتة عن بيئتها وسياقها الإسلامي في كل ما أتو به من أفكار. ولسان حالهم يشهد بأن بنات أفكارهم نبت غربي بعيد كل البعد عن خصوصيتنا الإسلامية، وهو إسقاط غربي على واقعنا الإسلامي. ومقتضى الخطط الثلاثة: الأولى، "أنه يجب الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله. وبفضل هذا تم التصدي للوصاية الروحية للكنيسة. والثاني مقتضاه أنه يجب التوسل بالعقل وترك التوسل بالوحي. وبفضل هذا تم التصدي للوصاية الثقافية للكنيسة. والثالث، مقتضاه أنه يجب التعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة، وبفضل هذا تم التصدي للوصاية السياسية للكنيسة" .
أما الخطة الأولى: خطة التأنيس، فإنه إذا تقرر أن القراءة الحاثية للنص قائمة على أصل التصارع مع الدين، وهو ما أفضى بهم إلى القول: "بوجوب الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالله" فإن القراءة التراثية للنص قائمة على "أصل التفاعل مع النص" الذي عن طريقه يحقق الإنسان سموه الروحي، ورقيه إلى درجة الإنسان المستخلف "إني جاعل في الأرض خليفة". و"الأمة الخيرية" و"الأمة الشاهدة"، وتحقيق السعادة في المعاش والمعاد. إذ واضح جدا حاجة الإنسان وافتقاره إلى "نور الهداية". قال تعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم" الشورى 52. وقال تعالى أيضا: "فيه هدى للمتقين"البقرة2. وقال: "قل إن هدى الله هو الهدى" البقرة 120. فهو محض هدى. وثبت أن "الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق" . أي أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد. وقد تقرر في كتب الأصول أن "قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها" . وأن "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح العادية، أو درء مفاسدها العادية" .
ثم إن المتأمل لمباحث الفقه الإسلامي –فيما كتبه علماؤنا- وهم بصدد بيان حقوق الله وحقوق العباد، وبعد أن صنفوها إلى أربعة:
-حقوق لله خاصة.
-وحقوق للإنسان خاصة.
-وحقوق مشتركة بين الله والإنسان وحق الله فيها أغلب.
-وحقوق مشتركة بين الله والإنسان وحق الإنسان فيها أغلب .
يجد أمرا في غاية الدهشة والإعجاب كيف وأنه يدخل في حقوق الله أمور هي لصالح المجتمع كالأمن والعدل...فهي أمور تعود على الإنسان ولا تسمى حقوق الإنسان بل حقوق الله. وهكذا من ضيع طعام الناس وأشربتهم وهدر أموالهم وسفك دماءهم...يكون قد اعتدى على حقوق الله مع أن كل ذلك يعود على الإنسان حفظا لكرامته وأمنه. وفقه القسامة والعاقلة داخل متن الفقه الإسلامي هي من هذا، وهي أشياء لا توجد في أي الطروحات والنظريات في العالم.
وكل هذا اشتغال بالإنسان وتكريم له، ولكن من جهة الإذن والوضع الشرعي لا الوضع الإنساني. فكيف يقال مع كل هذا في "خطة التأنيس" إنه بدل الاشتغال بالإله يجب الاشتغال بالإنسان.
-أما بخصوص الخطة الثانية: خطة التعقيل، فإنه إذا ثبت عندهم أنه يجب "التوسل بالعقل بدل التوسل بالوحي"، مما يقضي "بمحو الغيبية" فإن القراءة التراثية قائمة على أساس "توسيع نطاق العقل" ، وفتح آفاق المعرفة العلمية لديه في شتى الحقول والمجالات، أدبية وإنسانية وشرعية وطبيعية، وتوظيف الزمان والمكان، والقدرة على توظيف النص الشرعي تفكرا وتدبرا وتفسيرا واجتهادا..وفق ما وضعوه من شروط وضوابط جعلتهم أهلا للتحقق من ذلك. يكفي أن أذكر ما قاله الشاطبي: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين، أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"...وأما الثاني فهو كالخادم للأول، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما للأول، وفي استنباط الأحكام ثانيا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط، فلذلك جعل شرطا ثانيا. وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة، لأنه المقصود، والثاني وسيلة" .
وكان ما فتقوه من علوم خادمة للنص الشرعي مفتاحا على سبر أغواره، وإدراك أسرار ومقاصد الشارع في التشريع. قال ابن تيمية: "معرفة أسباب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" . وقال أبو إسحاق الشاطبي مبينا أهميتها في ضبط الفهم أيضا: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب أوالمخاطَب أو الجميع. إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك . وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجية، وعمدتها مقتضيات الأحوال. وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات الكلام جملة أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط . فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه .
الوجه الثاني : وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة لوقوع النزاع"
وظل هذا العقل التراثي في قراءاته وفيا مدينا للنص الشرعي مؤمنا بأن "الشريعة جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله...لأنه لا يجتمع أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن"المومنون 71 " . كما أن تقدير المصالح لا يرجع إلى العقول ما دامت لا تستقل بنفسها، وإنما إلى الشريعة. لأن "الأغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا وافقت الأغراض أو خالفتها" . ثم كيف يتوسل بمن هو مجبول على الخطأ والصواب، والقصور والنسبية، ولا يتوسل بالمطلق المتعالي الذي هو فوق الزمان والمكان، صاحب الشريعة والوحي والكلمات جل في علاه.
ولم يجرؤ هذا العقل التراثي على مر التاريخ أن تألى على الإرادة القدرية في التشكيك ولو للحظة في أفضلية هذا الكتاب على غيره-سيما وأن تاريخ الأديان يثبت بالحجة والبرهان، والنقد الداخلي والخارجي، تعرض الكتب السابقة التوراة والإنجيل للتحريف والتزوير، على خلاف القرآن الكريم الذي نال درجة الحفظ ويتبين هذا بوجهين:
"أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا، كقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"الحجر9 . وقوله: "كتاب أحكمت آياته"هود1. وقوله: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"المائدة 3.
والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل" . مما يقطع الطريق على أي تشويش يمس قدسية القرآن، أو تسويته بغيره، أو انتقاد لمتنه، أو مضمونه كما مارس ذلك تاريخ الأديان: العهد القديم والعهد الجديد. لأنه سالم من ذلك كله. ولا تعارض بين العقل والنقل، ولو تصور التعارض "فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل" .
3-خطة التأريخ: ومضمونها يقضي "بوصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة" . "محوا للحكمية". وهو متهافت من جهات:
أولها: أن القرآن الكريم ليس كتاب عصر معين أو كتاب جيل أو أجيال ثم ينتهي أمده، أعني أن أحكامه وأوامره ونواهيه، ليست مؤقتة بوقت ثم يتوقف العمل بها. وإنما هو كتاب الزمن كله. كان هذا صحيحا بالنسبة للأديان الموقوتة بزمن معين، أما الإسلام فهو الرسالة الأخيرة ومحمد هو الرسول الخاتم ، والقرآن هو آخر الكتب السماوية والمتضمن لكلمات الله الهادية .
وعلى المسلم أن يقرأ القرآن بهذه الروح وهذه الفكرة : أنه كتاب الخلود فلا ينبغي أن نفرض عليه ثقافة عصر معين أو نحمله قسرا على أفكار جيل خاص ، فإن الثقافات تتطور والأفكار تتغير والأجيال والعصور تذهب ، ويبقى كتاب الله كما أنزله الله. فما تضمن القرآن من تعاليم فهي تعاليم دائمة باقية ما بقيت الحياة وبقي الإنسان.
ولا يجوز بحال أن يتطاول على القرآن متطاول فيزعم أن بعض أحكامه كان خاصا بعصر نزوله – أي بعصر النبوة – أو عصر الصحابة أو بالعصور الإسلامية الأولى.
ومن هنا يجب أن نقف بكل قوة ضد تلك المحاولات المجترئة على الله التي تريد أن تسلب القرآن خصيصة الخلود ، وأن تضفي على أحكامه طابع التأقيت حتى وجدنا من يرد قطعيات القرآن بأوهام من عنده.
وقد قال المحققون من علماء الأصول :إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقد نزلت آيات لها أسباب نزول واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها، كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية، وحد القدف في رماة عائشة ثم تعدى إلى غيرهم. قال الزمخشري في سورة الهمزة : يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ليتناول كل من باشر ذلك القبيح وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض .
وقال السيوطي : ومن الأدلة على اعتبار عموم اللفظ : احتجاج الصحابة وغيرهم في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائعا ذائعا بينهم . قال ابن جرير : حدثني محمد بن أبي معشر أخبرنا أبو معشر نجيح سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد : إن في بعض كتب الله أن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين(المسوك ج مسك وهو جلد الغنم وغيرها) يجترون الدنيا بالدين .
فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام } البقرة 204 . فقال سعيد قد عرفت فيمن أنزلت ؟ فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد" .
وقال ابن تيمية : قد يجيئ كثيرا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كقولهم : إن آية الظهار نزلت في ثابت بن قيس، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن قوله " وأن أحكم بينهم" المائدة 49 نزلت في بني قريظة وبني النضير. ونظائر ذلك مما يذكرونه أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مؤمن ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على السبب : هل يختص بسببه ؟ فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ . والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وإن كانت خبرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته" .
وثانيها: إن فكرة الإطلاق الأزماني للنصوص على مستوى الدلالة غائبة عن ذهن القائلين بتاريخية النص القرآني، وإذا كان النص مفيدا بمكوناته على مستوى النشوء والجعل والحدوث، فإن النص نفسه ينزع إلى التعالي على مستوى الدلالة. والنص الديني بالذات ينسل من الواقع ليتعالى عليه ويغدو هذا النص في حل من أي قيد أو ضابط له في عملية تحركه خاصة إذا تعلق بالطبيعة، أعني بطبيعتي المكلف في ما يخص التشريع أو تعلق بالدلالة المتعالية. وذلك حين تكون موضوعات المقولات الأخلاقية كالإحسان والعدل والطاعة للوالدين ونظم علاقة الزوج بزوجته، والإنسان بأخيه الإنسان. أو تعلق بالمستخلص المتعالي إذا تعلق النص بالتاريخ كقصص الأنبياء حيث المستخلص هي العبرة حين تفلتها من أسر الزمان والمكان قال تعالى "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب "يوسف111 . ومن هنا خلت النصوص القرآنية من ذكر التواريخ والأزمنة المحددة كما هو حاصل في التوراة مثلا ، وإذا ورد ما ظاهره التقيد بالمكان أو الزمان أو المجتمع، وهي مكونات النص كما ذكر البعض تبعا للبنيويين وأصحاب المنهج اللغوي والألسنيين ، فإن المجاز كظاهرة لغوية وبلاغية سواء أكان مجازا عقليا أو لفظيا كفيل برفع الدلالة من أسر مكونات الدال في النص.
ومن هنا الإعتقاد بأن الإسلام يحاكي الفطرة الإنسانية وأنه صالح بمنظومته الفكرية والعقائدية والأخلاقية والفقهية لكل زمان ومكان. لأن النص القرآني نص متعال والزمان والمكان في صراط تغيرهما و كذلك المجتمع يؤدي إلى تعميق الدلالة لا إلى جعل الأسماء الإلهية الدالة على علاقة الله تعالى بالإنسان متغيرة.
والتعميق يحتاج إلى تفاعل مع النص، وهو عصر النص مختلف عما بعده من العصور لا لتغير في الدلالة بل لتبدل في الانفعال معها مرده إلى حركية الثقافة الإنسانية أمام واقع متحرك هو الآخر. والقرآن لم ينزل لمجرد أن يعكس مكونات العقل العربي في الجاهلية، وأبعاده في الزمان والمكان والمجتمع، بل ليجعلها منطلقا لتجاوزها. لذا رأينا النص القرآني يلقي في الفكر العربي والإنساني مفاهيم لا قبل لهم بها في مفردات وتراكيب ونظام لغوي هو ما صنفه العرب بأيديهم فأعجزهم وأذهلهم ووجدوا أن لا مفر لهم من الإذعان له لأن العرب أمة لا يقادون إلا بألسنتهم"
يتضح أخيرا ومن خلال ما دبجته في هذه الصفحات أن القراءة المسددة المرشدة للمتن التراثي، كانت متألقة متميزة عن غيرها، وذلك من خلال سموها بالإنسان، وتأهيله لدرجة الإنسان المستخلف، وتوسيعها لنطاق العقل مما يعده لمرتبة بناء الفعل الحضاري العمراني، جمعا بين تعمير الإنسان، وتشييد العمران الحضاري. ثم ترسيخها للأخلاق الخاصية الفصل في الإنسان التي تسمو به إلى الملإ الملائكي، ولا تخلد به إلى درك البهيمة. فهل حققت هذا القراءة الحداثية كما يزعم عبيد الفكر الغربي؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.