نشرة إنذارية جوية.. تحذير من مخاطر التنقل ودعوة لتوخي الحذر على الطرقات    العثور على جثة فتاة عشرينية في ظروف مأساوية بحي المرس بطنجة    إحباط مخطط إرهابي خطير كان يستهدف لوس أنجلوس في ليلة رأس السنة    الإعلام الفرنسي يرشّح المغرب للتتويج بكأس إفريقيا 2025    أخنوش: إصلاح مناخ الأعمال يثمر إحداث 95 ألف مقاولة في 2024 و81 ألفا إلى متم شتنبر 2025    تعليق الدراسة بإقليم الفقيه بن صالح    كأس العرب: نهائي بطابع مغربي خالص بين الأردن والمغرب    اتهام نجل المخرج الأمريكي روب راينر بقتل والديه    الأحمد .. مهاجر سوري يتصدى للإرهاب ويتحوّل إلى بطل في أستراليا    "أسود الأطلس" و"النشامى" وجهاً لوجه في نهائي تاريخي لكأس العرب    وزارة النقل تهيب بالحذر على الطرق    صرف مساعدات مالية لموظفي الأمن    "الأسود" يتوافدون على "المعمورة"    الثلوج والأمطار تحرك السلطات المحلية في تنغير    الأمن يوقف 23 مشاغبا من فصائل المشجعين في الرباط والدار البيضاء    لجنة المعطيات تتبرأ من لوائح الصحافة    الصحافي الفرنسي كريستوف غليز يطعن أمام محكمة النقض بحكم الحبس الصادر بحقه في الجزائر    حزب الاستقلال يعزي في ضحايا فيضانات آسفي ويؤكد تضامنه الكامل مع الساكنة    الرواية المغربية "في متاهات الأستاذ ف.ن." ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2026    تقرير إخباري: عشرات التحقيقات فُتحت بعد كوارث كبرى... ونتائجها غائبة عن الرأي العام    حكومة أخنوش تراهن على تعبئة العقار الصناعي في وجه المستثمرين لربح رهانات التنمية الترابية    أخنوش: إقرار ميثاق جديد للاستثمار هو إصلاح فارق خلال الولاية الحكومية بعد أكثر من 26 سنة من الانتظارية    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية وهبات رياح قوية إلى الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    المغرب يعبر الإمارات نحو نهائي كأس العرب قطر 2025    اكتفى بتعزية عابرة… أخنوش يمر سريعا على فاجعة آسفي في البرلمان    المؤثرات الأساسية على التخييل في السينما التاريخية    تعاون عربي في إصدار أغنية «روقان» للفنان المغربي محمد الرفاعي    فاس تحتظن الدورة ال13 لأيام التواصل السينمائي    كأس العرب.. السكيتيوي يعلن عن التشكيلة الرسمية لمواجهة الإمارات    تراجع ب5,7% في نفقات المقاصة    دورة ناجحة للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بمكناس    انعقاد مجلس للحكومة الخميس المقبل    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"        التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    جدل واسع عقب اختيار محمد رمضان لإحياء حفل افتتاح كأس إفريقيا 2025    الدولار يستقر قرب أدنى مستوى له    "لارام" تُوسع شبكتها الجوية ب10 وجهات جديدة ابتداء من 2026    "البيجيدي" ينتقد توزيع الدعم على الفلاحين الصغار بمنطق الولاءات السياسية والانتماء الحزبي    إعلام إسرائيل يكشف تفاصيل عن حاخام قتل في هجوم سيدني وعلاقته بحرب غزة    البابا يحذر أجهزة المخابرات من إساءة استخدام برامج التجسس وتأثيرها على الحريات والديمقراطية    تقرير: ملايين المسلمين في بريطانيا عرضة لخطر سحب الجنسية    أسعار صناعات التحويل تزيد بالمغرب    ترامب يوقع أمراً تنفيذياً جديداً ينظم قواعد الذكاء الاصطناعي    سيول آسفي ترفع حصيلة الضحايا إلى 37 وفاة واستنفار متواصل للسلطات    محطة القطار "الرباط الرياض" تفتتح تأهبا لاستقبال كان المغرب    عريضة توقيعات تطالب بالإفراج عن الرابور "PAUSE" وتدق ناقوس الخطر حول حرية الإبداع بالمغرب    بنسليمان تحتضن المعرض الجهوي للكتاب من 17 إلى 22 دجنبر احتفاءً بالقراءة في زمن التحول الرقمي    رافينيا يحسم مستقبله مع برشلونة بقرار مثير: "لن أغادر الفريق قبل التتويج بدوري أبطال أوروبا"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحسّ النقديّ
نشر في أخبارنا يوم 25 - 08 - 2014

بحكم تخصصه في الفلسفة، و استيعابه لدورها في تمكين الفرد من أدوات التحليل، وتقنيات النقاش، و المناظرة، و مقارعة الأفكار بالأفكار. ما فتئ طارق رمضان، و غيره من المفكرين و المثقفين الكبار، من التأكيد على أهمية التسلح ب "الحس النقدي" (critical mind)، كآلية مركزية لِتَفَحُّصِ ما يتلقاه الفرد من معطيات و خطابات، و أخبار، و تصريحات، الخ.

يعرّفُ الحس النقدي: على أنه عملية التفكير بحذر و منطق و استقلالية؛ في مختلف الأشياء التي تأتينا من المحيط الخارجي [المجتمع-العالم]. و مقاربتها من مختلف الزوايا، و من ثم النفاذ إلى عمقها، و استنباط الأمور المسكوت عنها. و يرتكز الحس النقدي أساساً، على ضرورة تجنب السذاجة في التعاطي مع الواقع؛ كما أنه لا يمكن أن ينتج إلا عن عقل متيقظ، و متبصر. و هو ليس معطى جاهز، بل عملية تطورية. تنشأ بشكل تدريجي و تراكمي عبر مسلسل تربوي يمر به المرء طيلة حياته.

مناسبة إثارة هذا الموضوع، ترجع بالخصوص لما تكشفه لنا الأيام، و لا تزال، من حقائق و أسرار، ناذراً ما يتم الانتباه إليها، وسط هذا الزخم الإعلامي، و تطور أساليب التضليل و الاستقطاب و صناعة الرأي العام. و هو ما تقوم به بعض الجهات التي تريد الاستحواذ على عقول الناس، و برمجة سلوكهم، و الاستخفاف بذكائهم، وبالتالي استدراجهم ك"القطيع". و ذلك خدمة لأهداف تجارية أو سياسية أو أيديولوجية، الخ. فكثير من الناس، يغفلون التقنيات التي تعتمدها بعض المؤسسات التجارية، بهدف إقناعهم باقتناء منتجاتها. أو الأساليب و الحيل التي يعتمدها بعض الساسة لكسب دعم الناس و تأييدهم للقرارات و التوجهات التي يتم اتخاذها.

و حتى تتضح الصورة أكثر، نشير إلى مقال نشره طارق رمضان على موقعه الرسمي، في 11 يناير 2013، بعنوان، مالي، فرنسا و المتطرفون. و ذلك مباشرةً بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي، (فرنسو هولوند)، بخصوص ما سمي آنذاك بأزمة مالي. حول ما قامت به جماعة "أنصار الشريعة"، من اعتداءات و انتهاكات ضد أناس أبرياء. و هدم و تخريب للمعالم التاريخية، في المناطق التي كانت خاضعة لنفوذهم. إذ صرح الرئيس الفرنسي بلهجة "ريادية" و "حماسية"، على أن فرنسا ملتزمة "بمكافحة الإرهاب" في جميع بقاع العالم! وهو ما عَقّبَ عليه طارق رمضان في مقاله السالف الذكر، بالقول،1) أن ما قام به هؤلاء المتطرفون في مالي، لا يمت للإسلام بشيء، و بالتالي وجبت إدانته بقوة من طرف المسلمين أنفسهم، قبل أي طرف كان. 2) أن خطاب الرئيس الفرنسي جاء فقط ليهيئ الفرنسيين نفسياً لما تريد الحكومة الفرنسية القيام به. فضلاً عن إعطاء الانطباع، للدور "الريادي" الذي تلعبه الدولة الفرنسية في مجال حقوق الإنسان و مكافحة الإرهاب. وكذا إقناع الشعب بضرورة التدخل الفرنسي العسكري المباشر في مالي. ليس لغاية إنسانية، كما زعمت الإدارة الفرنسية و بعض السياسيين الفرنسيين و وسائل الإعلام وقتها، بل فقط لحماية المصالح الاقتصادية الفرنسية في مالي، و المتمثلة أساساً في الغاز و البترول. و هذا كله بذريعة مكافحة الإرهاب! و دليل طارق رمضان في طرحه هذا: هو أن فرنسا لو كانت فعلاً تهتم بمصالح الشعوب، كما تزعم، لما دعمت و ساندت الأنظمة الديكتاتورية في تونس بن علي، و ليبيا القذافي، لعقود من الزمن. لتأتي بعد سقوط هذه الأنظمة، و تصرح من جديد أنها تدعم الديمقراطية و إرادة الشعوب؛

أما فيما يخص ما تقوم به بعض المؤسسات التجارية أو الشركات. تجدر الإشارة إلى كتاب مهمٍ صدر سنة 2011، عن الباحث الأمريكي(تشارلز داهيگ)، خريج جامعة هارفرذ للتجارة. بعنوان: " قوة العادة ". إذ يبين فيه هذا الأخير، كيف تنشأ العادة، و كيف يمكن تغييرها، و كذا خلق عادات جديدة. و يمضي داهيگ في كتابه هذا، ليبين لنا كيف استفادت مجموعة من الشركات و المؤسسات، كشركة ( Target )، و غيرها، في الولايات المتحدة الأمريكية، من الأبحاث و النتائج التي توصل إليها الباحثون في مجال علم الأعصاب، و صناعة الإعلانات ، منذ العقود الأولى من القرن العشرين. حيث عملت هذه الشركات على توظيف هذه الأبحاث لتحقيق غاياتها التجارية. عن طريق خلق عادات جديدة لدى المستهلكين، ودفعهم لاقتناء منتجاتها بشكل اعتيادي، و من ثم جني ملايين الدولارات من ورائهم. خاصة و أن الاقتصاد الأمريكي قد عرف انتعاشاً غير مسبوق في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، الشيء الذي أدى إلى ارتفاع نسبة استهلاك الفرد الأمريكي.

و يعتبر (كلود هوبكنز)، صاحب كتاب scientific advertising))، مرجعاً أساسياً، و من أهم رواد (صناعة الإعلانات) (advertising)، في العالم. حيث يتم الاستشهاد بكتابه السالف الذكر من طرف مجموعة من الخبراء في مجال التسويق و الإعلان التجاري. مثل: ( داڤيد اوغيلفي، غاري هالبرت، و جي اَبرهام). لدرجة أن ( داڤيد اوغلي) قد قال في حقه، " لا يمكن لأحد أن يشتغل في مجال الإعلان التجاري، حتى يقرأ هذا الكتاب سبعة مرات، لقد غير مجرى حياتي". و لعل ما اكسب هوبكنز هذه الشهرة هو ما حققه من أرباح بعد حملته الإعلانية لمعجون الأسنان (pepsodent). إذ في سنة 1930، وذلك بعد خمسة سنوات من حملته التسويقية، تمكن من غزو السوق الداخلية و الخارجية على حد سواء. حيث وصل منتوجه إلى الصين، جنوب إفريقيا، ألمانيا، البرازيل، وبلدان أخرى. وبعد مرور عشر سنوات، كشفت مراكز الاستطلاعات الأمريكية وقتها، أن نصف سكان الولايات المتحدة الأمريكية يستهلكون (pepsodent) بشكل يومي.

و عندما سئل (كلود هوبكنز) عن سر "نجاحه" في مجال صناعة الإعلانات، أجاب بكل بساطة، " أن السر يكمن في تمكنه من الفهم الجيد لسيكولوجية المستهلك". ذلك أن هوبكنز قد اعتمد على قاعدة ذهبية مفادها: أننا إذا أردنا أن نخلق عادة جديدة لدى المستهلكين، يلزمنا (1)، البحث عن (محفز= cue)، و (2)، البحث عن (جزاء = reward). أي النتيجة المزعومة، التي يتم الترويج لها و إيهام المستهلك بصحتها.

إن أي متأمل، أو ملاحظ يقظٍ، لما يجري في مجتمعنا، على المستويين الاستهلاكي و السلوكي. سيلاحظ أن هناك غياب تام للحس النقدي لدى الكثيرين. إذ سرعان ما يظهر "منتوج" أو "عبارة" أو "أغنية" يتم التسويق لها عبر القنوات التلفزية، أو بعض المنابر الإعلامية أو الإنترنيت، حتى تجدها تردد و تستهلك من طرف شريحة عريضة من الأفراد. مما يدل على أن تفاعلهم مع ما يتلقونه و ما يعرض عليهم، لا يصدر عن تفكير و تروي، بل يأتي بشكل غريزي، و تلقائي. و الأمثلة على ذلك كثيرة. فكيف لهذه الشريحة أن تحلل الخطابات، و تتقصى الخلفيات و الغايات، أو تقرأ ما بين سطور، كيف ذلك؟ و هي في سبات عميق؟!

في مثل هذا العقل، صرخ (كانط)، وقال، " تجرؤوا على استخدام عقولكم". أي فكروا و تعودوا على رؤية العالم بنوع من الدهشة و الحيرة؛ تماماً كما يفعل الأطفال، ولو بشكل لاشعوري؛ هذه الكائنات المتفلسفة بالفطرة، و التي تريد أن تستوعب كل شيء في الوجود، دون أن تمل من طرح السؤال و الاستفسار حول كل الأشياء المحيطة بها، فالأطفال دائماً يسألون و يتساءلون، كيف، و لماذا، و مَنْ..؟. في الوقت الذي تبدو فيه الأشياء، بديهية أو تافهة بالنسبة للكبار؛ و هو الأمر الذي أشار إليه الناقد الإنجليزي (ججسترن) بالقول، " إلهي، لماذا هذا العالم مليء بالكبار الحمقى و الصغار العباقرة؟".

إن مَلَكَةَ السؤال التي يتمتع بها الأطفال، و تغيب عن الأغلبية الساحقة من الكبار؛ هي أسمى تمظهر لإنسانية الإنسان، و فطرته السليمة. غير أننا للأسف الشديد، سرعان ما نُجَرّدُ منها عندما نغادر مرحلة الطفولة. و ذلك راجع بالأساس، إلى طبيعة مجتمعاتنا، و ثقافتنا القائمة على البديهيات، و المُوغِلة في اليقينيات، والتسليم الأعمى.

بإيجاز شديد، و انطلاقاً من الأمثلة القليلة التي أشرنا إليها آنفاً، يمكننا أن نخلص إلى استنتاج مركزي، مفاده: أن الفرد بالنسبة لهؤلاء " التجار"، لا يعدو أن يكون سوى وسيلة يوظفونها لتحقيق مآربهم البغيضة. مما يدعونا كأفراد إلى التحلي بالحذر و اليقظة، و أخذ مسافة قبل البت فيما يروج في محيطنا، سواء المحلي أو العالمي بشكل عام. بعيداً عن "المطبلين" و "المزغردين" لما يعرض علينا من معطيات و خطابات و منتوجات. و في ظل منظومة تعليمة معطوبة، لا تربي على الحس النقدي. يبقى الحل، هو التفكير في بعض المبادرات التي من شأنها أن تصالحنا مع أنفسنا؛ عبر أنشطة و أوراش تربي و تحرض على طرح السؤال و النقاش الفلسفي الحر و البنّاء، كتلك التي تحذو حذوها مبادرة " الفلسفة في الزنقة"، التي نُحَيّ الشبان و الشابات القائمين عليها و نتمنى لها الاستمرار و الانتشار. و هذا كله سيصُبّ في مصلحة الفرد أولاً، ثم الوطن طبعاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.