رصاص الأمن يوقف مروج مخدرات هاجم شرطيًا بسلاح أبيض    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    القرار ‬2797 ‬لمجلس ‬الأمن ‬الدولي ‬يعلو ‬فوق ‬كل ‬تفسير ‬ولا ‬يعلى ‬عليه    الخطوط الملكية المغربية تطلق أول خط جوي يربط بين الدار البيضاء والسمارة    احجيرة: نتائج برنامج التجارة الخارجية لا تُعجب.. 40% من طلبات الدعم من الدار البيضاء.. أين المجتهدون؟    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    المنتخب المغربي يخوض أول حصة تدريبية بالمعمورة تأهبا لمواجهتي الموزمبيق وأوغندا    350 يورو مقابل التقاط صورة ومقعد على مائدة والدة النجم يامال    تحيين الحكم الذاتي إنتقال من التفاوض إلى مشروع سيادي مغربي نمودجي مكتمل الأركان    تارودانت.. إصابة 17 عاملاً زراعياً في انقلاب سيارة "بيكوب" بأولوز    الحسيمة: مرضى مستشفى أجدير ينتظرون منذ أيام تقارير السكانير... والجهات المسؤولة في صمت!    حموشي يتباحث مع سفيرة الصين بالمغرب سبل تعزيز التعاون الأمني بين البلدين    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    أتالانتا الإيطالي ينفصل عن مدربه يوريتش بعد سلسلة النتائج السلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يعزز سيادته المائية بإطلاق صناعة وطنية لتحلية المياه    مع تعثّر انتقال خطة ترامب للمرحلة التالية.. تقسيم قطاع غزة بات مرجحاً بحكم الأمر الواقع    أجواء غائمة مع ارتفاع طفيف لدرجات الحرارة في توقعات طقس الثلاثاء    الدبلوماسي الأمريكي السابق كريستوفر روس: قرار مجلس الأمن بشأن الصحراء "تراجع إلى الوراء"    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    الفاعل المدني خالد مصلوحي ينال شهادة الدكتوراه في موضوع "السلطة التنظيمية لرئيس الحكومة في ضوء دستور 2011"    فضيحة في وزارة الصحة: تراخيص لمراكز الأشعة تُمنح في ظل شكاوى نصب واحتيال    تغير المناخ أدى لنزوح ملايين الأشخاص حول العالم وفقا لتقرير أممي    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    "أسود الأطلس" يتمرنون في المعمورة    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    "الكاف" يكشف عن الكرة الرسمية لبطولة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يصور كتاب آسفي مدينتهم روائيا؟ ج1
نشر في العمق المغربي يوم 26 - 04 - 2021


ملحوظة :
لإنجاز هذا العمل عدنا لعدد هام من الروايات والإشارة هنا إلى الروايات التي اقتبسنا منها بعض الاستشهادات وهي :
عبد الرحيم لحبيبي: خبز سمك وحشيش، إفريقيا الشرق ط1 الدار البيضاء
عبد الرحيم لحبيبي: تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء،
أحمد السبقي: باب الشعبة ج1 مطبعة طوب بريس الرباط 2011
ياسين كني: سيرة صمت، دار راشد للنشر ط1، الإمارات 2019
ياسين كني: تيغالين حلم العودة، ط1 ، المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017
عبد الرحمان الفائز: النادل والصحف، ط1، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش 2019
حسن رياض: أوراق عبرية ، مطبعة المعرف الجديدة ط1 الرباط 1997
محمد أفار: درب كناوة، ط1 مطبعة سفي غراف آسفي 2013
عبد الله إكرامن: السيد "س" ط1 مطبعة الكتاب آسفي 2013
المصطفى حاكا: أناس عرفتهم ط1 ، دار وليلي للطباعة والنشر، مراكش 2017
الكبير الداديسي: انتقام يناير، مؤسسة الرحاب الحديثة، ط1، بيروت 2020
أسماء غريب: السيدة كركم، دار الفرات للثقافة والإعلام ط1 العراق 2019
إذا كانت مدينة آسفي قد تناولتها أمهات المصادر التاريخية من كتب التاريخ، الرحلات، التصوف، الدين، الاقتصاد، الجغرافيا… وورد اسمها في كتب من تأليف كتاب سمعوا عنها، مروا بها أو أقاموا فيها، فإننا اليوم نفتح نافذة على أرض عذراء، في بحث لم يطأه باحث من قبل، وموضوع غير مسبوق، من خلال المساءلة عن علاقة هذه المدينة بالبحر في ما كتبه روائيو آسفي عن مدينتهم، وفي النفس صور لمدن عشقناها من خلال الروايات والأفلام، لنتساءل كيف صور ابناء المدينة تلك العلاقة، وهو ما ستتناقله الأجيال القادمة إن كتب لهذه الروايات الخلود، مثلما نتناقل نحن ما كتبه ابن خلدون، ابن الخطيب، ليون الإفريقي، البكري، الإدريسي، ياقوت الحموي، ابن الزيات، ابن قنفذ، الحميري، والناصري وغيرهم ممن أرخوا لهذه المدينة، خاصة وأن الرواية أضحت ديوان العرب المعاصر الناقل لأيامهم، أخبارهم وأحوالهم… مبتعدين أشد ما يكون البعد عن اجترار ما قالته المصادر القديمة، ودون إغراق في التنظير والتعريفات المتداولة عن البحر والمدينة والعلاقة بينهما، لتكون الدراسة ميدانيةً تغوص في الروايات التي تناولت آسفي إما في إشارات عابرة، أو جعلت المدينة مسرحا لأحداثها، ولن يهمُّنا منها في هذه الدراسة إلا النصوص التي رصد فيها مخيال أصحابها تفاعل المدينة بالبحر، منذ أول رواية آسفية؛ رواية "الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي إلى اليوم، مقتصرين على عدد من الروايات – لأبناء المدينة منشأ أو مسكنا- تداخلت فيها صور متناقضة لعلاقة آسفي بالبحر. وكل نسج سردي يمتزج فيه التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالخيالي، والقديم بالحديث، الحقيقي بالمزيف، الموضوعي بالذاتي الانطباعي… ولا كتابة بيضاء بريئة، وكل كتابة تورط جديد، سواء عادت بالقارئ إلى عوالم غابرة في التاريخ أو صورت الآني اللحظي…
وإذا كانت الدراسات القديمة قد اعتبرت مدينة آسفي هبة البحر، وأشارت إلى أن البحر لعب دورا هاما في معرفة المدينة والتّعريف بها، فإنِّي لما خطر ببالي موضوع "آسفي والبحر في الرواية" وضعت أمام عيني فرضية احتمال إشارة كل رواية اختارت أن تدور أحداثها بآسفي إلى علاقة المدينة بالبحر، وإبراز أهميته ودوره في تطوير الأحداث، وأن كتاب الرواية الآسفيين سيهيمون بالقراء في حكايات خيالية أو واقعية بحرية، يكثرون الكلام فيها عن البحر… لما للبحر من علاقة قوية بالمدينة، وبالإنسان عامة، واعتباره مأوى الحيران، مقصد الولهان، مشبع الجوعان، كاتم الأسرار وإليه يحج أبناء المدينة في كل حين وآن لغسل الأجساد والقلوب، وإمتاع العيون، يبثونه همومهم وأحزانهم، يرتبط به أكلهم، عاداتهم وتقاليدهم وكل تفاصيل حياتهم… لكنْ سرعان ما خاب أفق انتظاري، بوجود روايات لا ذكر للبحر فيها، وبعضها يذكره باحتشام… ومن ذكره منها فأغلبهم قدَّمه في صورة سالبة، وعلاقة متشنجة بالمدينة؛ فمن رآه سبب تعاسة المدينة وسبب شقائها، حامي المدينة ومُقدِّمها للأعداء، بل منهم من تنبأ بأن يكون البحر سبب هلاكها كما هلك تيغالين بجانب آسفي من قبل، دون أن يمنع ذلك من وجود إشارات في بعض الروايات إلى العلاقة الحميمية بين المدينة والبحر، ليجد القارئ نفسه أمام صورة لعلاقة بوجهين متناقضين، لخصهما سارد رواية "خبز سمك وحشيش" في قوله " آسفي هبة البحر على ساحله نشأت وترعرعت ونمت، كان البحر جحيمها ونعيمها، سعادتها وشقاءها"
علاقة آسفي بالبحر صورة بوجهين متناقضين: وجه لعلاقة حميمية نفعية تتكامل فيها مدينة مع بحر يغدق عليها خيراته يحضنها ويحميها… وصورة كالحة صبغها ساردو بعض الروايات بالسواد فلم يروا في البحر سوى سبب تعاسة المدينة وسكانها، وهي الصورة الطاغية للأسف، مما فرض أسئلة من قبيل ما خصائص كل صورة؟ ولماذا طغت الصورة السالبة على الموجبة في علاقة بالبحر بمدينة آسفي بشكل ربما لا تخطر على بال أي مقبل على دراسة تيمة المدينة والبحر؟
1 – الوجه السالب في علاقة آسفي بالبحر
معظم ما كتب عن مدينة آسفي في كتب التاريخ لأناس ليسوا من أبناء المدينة، ومعظم ما تضمنه الرواية المعاصرة عن آسفي كتبه أبناء المدينة، والطبيعي أن تتحكم في مثل هذه الكتابات معايير النوستالجيا، والعصبية المحلية فتنبري أقلام الروائيين للدفاع عن المدينة وبحرها، وتقديمهما للعالم متكاملين في أبهى صورة، لكن الغريب هو أن يتعمد معظم روائيي المدينة تقديمَ صورة سوداء عن هذه العلاقة، فجعل سارد "درب كناوة" البحر سبب كل بلاء حل بالمدينة، محيلا البحر على امتداده واتساعه لمجرد سورِ سجنٍ يحاصر المدينة ويجثو على صدرها، وكلٌّ يتحين الفرصة للهروب والتخلص من هذه المدينة المثقلة بالأوزار الحاطَّة من الكرامة الإنسانية نحو الضفة الأخرى لأنه " حين يصل الإنسان إلى الضفة الأخرى يمارس بحقٍّ إنسانيَّته، يجد خِفَّة في جسده، سيلانُ الزمان هناك يمنح حركيَّةً مغايرةً تجعلُ الإنسان يحمل جسداً شابّاً كما لو أنه تحرر من عبء ووزرٍ ثقيل، يستعيد كرامته التي طالما طمست و جرجرت في الوحل"
وهي نفس الصورة التي رسمها سارد رواية "سيرة الصمت" لما صوّر المدينة محاصرة ، تأكل أولادها، مستباحة للجميع، بل تبحث عن قواد يقدمها فريسة للغرباء، يقول: "كانت مدينة آسفي تشبهني محاصرة ببحر بدل أن يكون سبب عزها أصبح سبب ذلها، لم ينلها منه سوى الغزاة الآتين منه والقادمين نحوه. آسفي مدينة الظِلال في الليل تأكل كالقطة الأصيلة أبناءها خوفا وحبّاً، كالعناكب تسلم نفسها لفلذات كبدها يتقاتلون على جسدها كي يعيشوا ويكبروا ويلهيهم الأمل، تدفع ضريبة التخلي عن رفيق دربها، وصباحا تبحث عن قوَّاد كي يقدمها فريسة على فراش الغرباء" أي صورة سوداء هذه عن علاقة مدينة ببحر كلاهما ينبض بالحياة العطاء والجمل، أهي غيرة، تشف أم انتقام من مدينة لا ينقصها شيء، مدينة فيها ما لا يوجد في غيرها من المدن من المؤهلات؟؟ أم هل هو قول غير الحق وذم بما يشبه المدح لغرض في نفس الروائيين؟
وتعمم رواية "درب كناوة" اعتبار البحر حصارا وسيَّاجا يحاصر بلدا بكامله فيعبِّر ساردها عن أمنية غريبة لو تحققت لكانت نتائجها أغرب عندما يقول: "لو جف البحر المتوسط لهاجر السكان كلهم كبيرهم وصغيرهم مشيا على الأقدام، سعيا إلى القارة الفردوس التي تذر اللبن والعسل، لن يقعد أحد عن السعي… حتى كسيح الأطراف ومن بهم إعاقات سيذبون ويجرُّون أجسادهم ليصلوا.." ولتحقيق أمنية الهروب من المدينة التي يحاصرها البحر ألفينا بطل الرواية يتحيًّن الفرصة: "كلَّ ليلةٍ يسهر مترقبا حتّى الفجر في محاولات عديدة متكرّرة لا يملّ ولا يكلّ همّه الوحيد القفز على ظهر باخرة الحلم والمكوثُ بلا حركة بين الحاويات لترسوَ به في أرض الأحلام"
و الميناء الذي ظل على امتداد التاريخ مفخرة المدينة، أشهر من نار على علم، وأبعد نقطة يمكن أن يصلها مركب. قال فيه الحميري: "وهو آخر مرسى تبلغه المراكب من الأندلس إلى غاية القبلة، وليس بعده للمراكب مَذْهب". وشكَّل الميناءَ الرَّسميَ والدبلوماسي للمغرب في مراحل متعددة، فإن روائيي آسفي تفننوا في الانتقام منه، وتشويهه عن سبق إصرار وترصد، فلا ترى فيه رواية "درب كناوة" إلا فضاءً أجرد كئيباً مُخرِّباً ينشر الخوف والهلع في الأهالي لما قال السارد:" يضحي أجرد كئيبا، تحوم في سمائه طيور النورس مصخبة المكان بصياحها من يجرؤ على الوقوف أمام أمواج عاتية تقفز فوق الحاجز الواقي لتتكسر بقوة في الحوض تلحق الضرر بالقوارب الصغيرة تكسر ألواح قوارب الصيد وتخلق الهلع كأن ماردا جنيا يحرك القاع بعصا" ومن لم يكرس هذه الصورة السلبية اكتفى بالبكاء على المجد التليد والماضي الضائع، ليقدم الروائيون صورة مأساوية للمدينة في علاقتها بالبحر، مُجمِعون على أن المدينة اليوم تعاني النسيان والتهميش ووحدهم الأقدمون من كانوا يقدرونها حق قدرها: " آسفي المدينة الغفل الغارقة في الليل، المنسية على سواحل التاريخ، البعيدة قسرا عن خطوط الطول والعرض والتماس، فلا تضبطها المراصد ولا تحددها ولا تعبُرها المسالك، وحدهم الأقدمون عرفوا قدرها". وهي مدينة توالت عليها المصائب والأرزاء، و"أنهكتها المجاعات والأوبئة والفتن والدسائس والخيانات فرحل عنها علماء وفقهاء وعاش فيها الصعاليك والأوباش والأوغاد حتى قيل عن أهلها "إنهم أناس لا تربية لهم ولا أخلاق ولا حضارة"".
ولم يقتصر الروائيون على تقديم ميناء المدينة في هذه الصورة السلبية الممقوتة، بل نفى عنها بعضهم كل سمات التحضر، وأن عراقتها لم تعد سوى ذكريات بين بعض أبنائها الأصليين يقول سارد "سيرة صمت" : "آسفي حاضرة المحيط لم يعد بها حضارة إلا تلك التي يتنفسها أصيل أبنائها بين دروب الزمن فيجودون علينا بنسمات الذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد". وضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد الواقع، سعى إلى فصلها عن البحر وعن الشاطئ، يؤكد نفس السارد أن آسفي لا بحر لها ولا شاطئ لها ، وأن خيراتها من الأسماك التي تميزها عن غيرها من المدن المغربية والعالمية لا يستفيد منها إلا الغرباء والمهربون حين قال: "آسفي ليس بها شواطئ غير تلك التي تسرق رمالها في واضحة النهار، ليس فيها بحر غير ذلك الذي تلوثه مركبات الفوسفات بمخلفاتها، ليس فيها سمك غير ذلك الذي تختطفه السفن الأجنبية وسماسرة التهريب القانوني قبل أن يصل إلى جوع أبنائها" . وهي ذات الصورة التي يكررها السيد "س" في نصوص عبد الله إكرمن حين قال" مدينتي كانت ذات زمن عاصمة سمك ، ولم تعد… ولكنها كانت ولا تزال وستستمر مدينة الغريب… – هاد آسفي شحال كتعطي لبراني … جملة يرددونها"
ولإتمام هذه الصورة السالبة آثرت بعض الروايات اعتبار الميناءَ المسؤولَ عن فساد أخلاق أبناء المدينة؛ يَدخُله الشاب مهذبا وقورا، وفي وقت وجيز يحيله طائشا فاقدا للأمل، ولنتأمل كيف تحولت أخلاق وشخصية الكوشي بهذه السرعة لما اشتغل في مرسى المدينة: "خلال الشهور الثلاثة التي قضاها بالشغل في المرسى بدأ يتحول من إنسان مهذب ذمت إلى آخر لا يعرفه أبدا. ضاع إلى الأبد الشاب المليء بالأمل، المفعم بالأماني، انمحت في داخله صور الفضيلة والأخلاق والشرف ليحل محلها شيء آخر مانع مُهترئ أين ذهب الوقار والنقاء والإيمان بالصالحين(…) فقد طاشت ألفاظه، تغير سلوكه، خشنت تصرفاته، غدا تمثالا تنوح بداخله رياح اليأس، والإحباط، انعكست على مرآة روحه آلام البحارة وبؤسهم"
وحتى ما تراه المدن الأخرى مِنَّةً من البحر، وهبةً تُحْسَد عليها مدينة آسفي في علاقتها بالبحر، فضل بعض الروائيين – من خلال حب جلد الذات وتحقير كل ما هو موجود بالمدينة – تكريسَ الصورة السالبة عن العمل في معامل التصبير، واحتقار كل من يشتغل في أعمال مرتبطةٍ بالبحر، واعتباره بطَّالا بدون شغل وإن كان عاملا مشتغلا، فنجد في مفارقة غريبة بحارا يعمل بالميناء يُنظر إليه "وهو يشتغل شغله أنه بطَّال بدون شغل"، وأن معامل تصبير السمك رغم دورها الاقتصادي والاجتماعي ليست سوى : "فخاخ ابتكرها السَّادةُ ليجعلوا من البشر عبيدا… تحت اسم مشوه معنويا هو العمل… والراتب الشهري طعمٌ يخدر ضعاف النفوس ليبقيهم جراءً يبيعون أيامهم المعطاة من الله بالتقسيط لنخاسي الأعمار وتجار عرق الوجوه" ، لدرجة أن صفة "عاملة في الفبركات" أضحت صفة للحط من قيمة المرأة، وسبة لها بين النساء.
وبدل الدعوة إلى تقنين استغلال رمال البحر، واعتبار رمال البحار كنزا، اكتفت بعض الروايات بالإشارة إلى ظاهرة تهريب الرمال، وما يثيره مهرِّبوه من هلع وسط السكان فقد توقف بطل رواية " النادل والصحف" خائفا بالليل من اللصوص لكن ازدادت مخاوفه لما "فطن إلى أن الشاحنة من ذوات الهيكل الخاص بحمل الرمال، فزاد ذلك من مخاوفه، لكثرة ما يحكى عن مهربي الرمال من ارتكاب حوادث يشيب لها الولدان" وبدل التركيز على عمل الصيادين وصراعهم من أجل تأمين لقمة العيش تقدمهم إحدى الروايات:" يقضون أوقات الصيد في تدخين قاذفات اللهب أو "السبسي""
أي نظَّارة سوداء ارتداها هؤلاء الروائيون فغدوا لا يرون في المدينة إلا السواد، ويحيلون كل شيء جميل فيها-بما فيه البحر- قبيحاً، بل منهم من يتوغل إلى قلوب الناس ليراها سوداء، فلنستمع كيف ينظر هذا السارد إلى ممارسي رياضة ركوب الأمواج التي بدأت تنتشر في السنوات الأخيرة بالمدينة لما قال: " يمارسون رياضة ركوب الأمواج التي تشتهر بها المدينة، وهم يرتدون زيّاً أسود يقيهم من البرد، أرى أنا الأمواج دنيا الناس والزبد سواد الإنسان من الداخل" وعلى نفس المنوال لما فكر شاب في مقتبل العمر في كتابة أول رواية له " أوراق عبرية" اختار عائلة " كبيرهم من أفقر عائلة بآسفي" وتحدث عن المدينة في أسوء مراحلها مما جعل أبطالها من " من "الهاربين من الجفاف والطاعون الذي ضرب مدن الساحل"، حتى ليتساءل المرء ماذا ترك هؤلاء الروائيين لمدينة آسفي إذا اجتثوها عن البحر والخزف، وأكدوا عدم استفادة المدينة من بحرها وخزفها: "آسفي مدينة الخزف الذي يعطى للعالم تحفا فنية ولا ينال حرفيوه غير لهيب الفران المتقدة".
ولم تقتصر هذه النظرة السوداوية على الماضي والحاضر فقط، بل وجدنا روائيين يتنبؤون بمستقبل أكثر سوادا، ويرون أن المدينة تسير إلى الخلف في عالم يتطور سريعا، وأنها مدينة تفقد بالتدريج معالمها وما كان يصنع الفرجة فيها، وأن أنشطتها ومؤسساتها الاجتماعية يتم إبعادها عن البحر مما يئد أحلام الشباب؛ فقد كان كورنيش المدينة واجهتَها ووِجْهةَ سكانها، وساحة الفرح والفرجة فيها، وكانت به "دار الشباب العتيدة أيام الستينيات والسبعينيات قبل أن تجهز عليها الجرافات فتهد كل أحلام الشباب"، وهو ما أكدته رواية "سيرة صمت" حين تحن إلى أيام الفرجة التي اختفت عن كورنيش المدينة بالتدريج، فقد كانت "في الكورنيش حلقة من حلقات الفرجة التي بدأت تختفي شيئا فشيئا، ألعاب سحرية ورقصات غريبة تؤديها كلبة على نغمات قرد طبال" دون أن تنتبه رواية واحدة لما يُبنى من معالم جديدة بالمدينة، ولما تشهده من توسع عمراني، وتزايد سكاني…
هذه أمثلة وغيرها كثير تفرض على الباحث عدة أسئلة حول سبب هذه الصورة السالبة عن علاقة مدينة آسفي بالبحر، وكره أبناء المدينة لمدينتهم، وشغفهم بجلد الذات والقصد في تغييب فضل البحر على مدينة يجمعها به عشق أبدي…
يتبع ……


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.