مولودية وجدة يبلغ نصف نهائي كأس العرش    النيابة العامة تدخل على خط احتجاز مغاربة بميانمار    "بلومبيرغ": المغرب يُثبت أسعار الفائدة بينما يُواجه الفاتورة الباهضة لإعادة إعمار الزلزال    وزير النقل يعلن عن قرب إطلاق طلبات العروض لتوسيع مطارات طنجة ومراكش وأكادير    وزير الفلاحة يفتتح الدورة الثالثة للمنتدى الدولي للصناعة السمكية بالمغرب    خلال أربعة أشهر.. كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي بميناء العرائش يصل ل6177 طنا    "فايننشال تايمز": واشنطن تشجع المغرب ودول عربية على الانضمام إلى "القبعات الزرق" في غزة    أخنوش يتباحث بالمنامة مع رئيس العراق    جامعة كرة القدم تصدر عقوبات تأديبية    الجيش يتأهل لنصف نهائي كأس العرش    قمصان جديدة ل"أديداس" بلمسة مغربية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    الداكي يستقبل نائب وزير العدل الصيني    سفارة الرباط تتابع اختطاف مغاربة بميانمار    شركة تنفي استعمال الغاز والتسبب في اختناق عشرات التلاميذ بالدار البيضاء    مداهمة منزل بحي طنجة البالية وحجز 105 كلغ من الشيرا    تعبئة 10 ملايين درهم لإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة لسقي المساحات الخضراء بمدينة الحسيمة    الجيش الملكي يقتنص تأهلا مثيرا لنصف نهائي كأس العرش على حساب أولمبيك الدشيرة    الأمثال العامية بتطوان... (599)    رئيس سلوفاكيا في حالة حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    المالكي يستقبل أطفالا مقدسيين مؤكدا وقوف المغرب إلى جانب الفلسطينيين    سفر أخنوش يؤجل اجتماع المجلس الحكومي    موريتانيا تحقق في تحطم طائرة عسكرية ومقتل طاقمها    مزور تستعرض جديد "جيتكس إفريقيا" بالمغرب.. الصحة الرقمية والذكاء الاصطناعي    انتخاب المحامية كريمة سلامة رئيسة للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    الشرطة السويسرية تفض اعتصاما طلابيا    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    النصيري على رادار مدرب إشبيلية السابق    إضراب كتاب الضبط يؤخر محاكمة "مومو" استئنافيا    وسط "تعنت" ميراوي .. شبح "سنة بيضاء" بكليات الطب يستنفر الفرق البرلمانية    العودة إلى موضوع "شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين"!    بعثة المنتخب الوطني المغربي النسوي لأقل من 17 سنة تتوجه إلى الجزائر    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود        مدينة محمد السادس طنجة تيك تستقطب شركتين صينيتين عملاقتين في صناعة مكونات السيارات    تأجيل القرار النهائي بشأن الغاز الطبيعي بين نيجيريا والمغرب    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على أداء سلبي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    الرئيس السابق للغابون يُضرب عن الطعام احتجاجا على "التعذيب"    قصيدة: تكوين الخباثة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    زنيبر: رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمته المملكة    وفاة عازف الساكسفون الأميركي ديفيد سانبورن عن 78 عاما    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    معرض الكتاب يحتفي بالملحون في ليلة شعرية بعنوان "شعر الملحون في المغرب.. ثرات إنساني من إبداع مغربي" (صور)    رسالتي الأخيرة    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    الأمثال العامية بتطوان... (598)    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    الأمثال العامية بتطوان... (597)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الندوة العلمية الخامسة لطلبة الدكتوراه الرحلة المغربية وتمثيل الهوية
نشر في طنجة الأدبية يوم 05 - 07 - 2017

عرفت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء يوما استثنائيا من النقاش الفكري العميق والمسؤولية العلمية، والحماس بتجديد البحث العلمي من طرف باحثين شباب يهيئون أطاريحهم في الدكتوراه وينتمون إلى جامعات الدار البيضاء والرباط وفاس وتطوان وأكادير، شاركوا في الندوة العلمية الخامسة للباحثين في الدكتوراه، والتي نظمها مختبر السرديات والدراسات الثقافية وتكوين دكتوراه تحليل الخطاب السردي بآداب بنمسيك يوم الجمعة 03 يونيو 2017، في محور: "تمثيلات الهوية في الرحلات السفارية المغربية إلى أوربا".
استهلت أشغال هذه الندوة، التي توزعت على ثلاث جلسات، بكلمة افتتاحية لمدير مختبر السرديات شعيب حليفي أثنى من خلالها على أهمية تضافر جهود الباحثين من حقول معرفية مختلفة، أدبا وفلسفة وتاريخا وجغرافيا...في الاشتغال بالنص الرحلي الذي هو كنز يفتح آفاقا جديدة في البحث، كما نوه بجهود اللجنة العلمية ومجهوداتها لإنجاح الندوة رغم الإمكانات المحدودة التي بات يعيشها البحث العلمي في الجامعة المغربية في ظل غياب أو هزالة الدعم المخصص لمختبرات كليات الآداب.
وقد سير أشغال الجلسة الأولى سمير الأزهر (أستاذ الدراسات الانجليزية بالكلية) مرحبا بالباحثين القادمين من جامعات مختلفة، من أجل الانكباب على دراسة متون رحلية مختلفة في أزمنتها وأمكنتها وحمولاتها الثقافية، تشكل "صدمة وانبهارا وتقديرا ومقارنة وإحباطا ورفضا لتقاليد وقيم الآخر".
وكان أول متدخل في هذه الجلسة: نادية الأزمي (جامعة عبد المالك السعدي، مرتيل تطوان)، في مداخلة بعنوان "التمثّلات الثقافيّة في "النفحة المسكيّة" للتمكروتي"، انطلقت من مجموعة من الصفات التي تجمع المتون الرحلية السفارية التي اتجهت إلى أوروبا بشكل عام، وتنبع معظمها من الصدام الحاصل بين حضارتين وبين ثقافتين، تنظران إلى الدنيا والآخرة بطريقتين مختلفتين. وتأسيساً على هذا الصدام أفرزت تلك المتون موضوعات رئيسة تكررت في أكثر من رحلة، فصورة الآخر حاضرة بقوة، والتمسك بالذات الوطنية والقومية والدينية حاضر أيضاً، والانبهار بالعمران والصناعة لا يكاد يختفي من أية رحلة سفارية. وقد جاء هذا بخلاف الموضوعات التي برزت في الرحلات الحجازية التي قصدت بيت الله الحرام، دون أن تجابه في طريق سفرها، في الغالب، ذلك الآخر، أو عمرانه الباذخ، أو صناعته الباهرة، فاكتفت بوصف الأمكنة والشعائر، والحديث عن لقاء العلماء وزيارة قبور الأولياء الصالحين في طريقي الذهاب والإياب.
وقد صنفت الباحثة الرحلة التي هي بصدد دراستها بكونها تقف وسطاً بين النوعين؛ فعلى الرغم من أنّها رحلة سفارية، فقد جاءت أقرب من حيث خصائصها وموضوعاتها إلى الرحلة الحجازية، لكونها لم تمرّ في طريقها على أوروبا التي غصّت بذكر مدنها الرحلاتُ السفارية الأخرى. وبالتالي فإنّ هذه الرحلة السفارية اختلفت عن كثير من أخواتها في أنّها لم تواجه الآخر ثقافياً، أو أن الآخر نفسه لم يكن يخالفها في ثقافتها العقيدية. لذلك غاب عنها (إلا قليلاً) ذلك النّفَس الذي يدافع عن الإسلام من موقع مواجهة النصرانية التي كانت تتلقى الدعوات عليها بالويل والثبور في كثير من الرحلات السفارية.
وتطرق المتدخل الثاني نور الدين بلكودري (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) إلى "تمثيلات الذات المغربية والآخر الإسباني في رحلة الغزَّال إلى إسبانيا" عبر الاشتغال بمفهوم التمثيل الثقافي، ما دام ما يكتبه الرحالة السفير لابد وأنه يحمل تمثيلات ودلالات وإشارات ثقافية. من ثم أمكنه القول إن رحلة الغزال إلى إسبانيا منتصف القرن الثامن عشر، من الرحلات الحافلة بالمشاهدات والوقائع الحمالة لمواقف ذاتية وأحكام تكشف تمثل الغزال للإسباني، سواء كان مواطنا أم وزيرا أم حاكما ... مركزا على تمثيلات الذات والآخر، ومحاولا إبراز أوجه التصادم الهوياتي بين المغربي المسلم، الإسباني المسيحي، مع العناية بموقع ذات الرحالة الممثل لثقافة لها خصوصياتها الثقافية. وذلك عبر مقاربة ثلاثة محاور أساسية، هي: استعلاء الذات وتقزيم الغير، والانبهار بالآخر وانكماش الأنا، وأخير التصادم الهوياتي والارتداد إلى الأصل.
وتمحورت ورقة محمد رضا بودشار (جامعة عبد المالك السعدي، مرتيل تطوان)، حول موضوع "إسبانيا من منظور سفير مغربي من القرن الثامن عشر: ابن عثمان المكناسي" والذي شكلت رحلته الموسومة ب"الإكسير في فكاك الأسير" حلقة من سلسلة الرحلات المغربية إلى إسبانيا خلال العصر الحديث، بهدف حل المشاكل بين الطرفين وتمتين أواصر العلاقة بينهما، مما يُمَكِّن من التفرغ لمعالجة المشاكل الداخلية وتحسين الأداء الاقتصادي. لهذا فرحلة ابن عثمان المكناسي تعبير حي عن سياسة الانفتاح التي نهجها السلطان محمد الثالث، كما تعبر عن واقع سياسة الاستبداد المستنير لملك إسبانيا كارلوس الثالث والإنجازات التي حققتها على حد تعبير المتدخل الذي اعتبر النص غنيا بالمعلومات الاقتصادية والتجهيزية والاجتماعية المتعلقة بإسبانيا، ويعكس دولة آخذة بأسباب التقدم، وهو بذلك يوجه خطابا إلى المخزن مفاده ضرورة القيام بعملية التحديث وفق النموذج الأوربي، والشكل الذي تجسد في إسبانيا التي تشكل نموذجا لدولة أوربية تستنهض همتها في ظل المتغيرات التي كانت قد أخذت تبرز ملامحها مع بوادر الثورة الصناعية. ويُستنتج من ذلك أن الزيارات التي نُظِّمت للسفير المغربي كانت الدولة الإسبانية تسعى من خلالها إلى بهره من أجل ربط علاقات تجارية مع المغرب، وتخويف المخزن من مغبة الإقدام على إزعاجها في مستعمراتها في شمال المغرب.
وإلى جانب هذا، لم يتردد المؤلف في انتقاد صراع إسبانيا مع الإسلام، كما أنه لم يتوان في انتقاد المعتقدات والشعائر الكاثوليكية في كثير من لقاءاته، ومع ذلك فهو لم يقدم إسبانيا على كونها "آخرا مطلقا"، بحيث أنه لم يكن يفوت الفرص للحديث عن معالمها الحضارية الإسلامية. ومن ثمة فقد تحكمت ثنائية الإعجاب والانتقاد في نظرة ابن عثمان المكناسي لجارة المغرب الشمالية.
أما المتدخلة الرابعة، وفاء زيدان (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) فاختارت موضوع: "المسألة العسكرية في الرحلات السفارية، نموذج: رحلة السفير إدريس بن إدريس العمراوي تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" والتي تمثل في منظور الباحثة لحظة أساسية للوقوف عند انبهار الكاتب المخزني بدرجات تطور الدول الغربية على كافة مستوياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتتيح كذلك إمكانية معرفة مختلف أوجه التصورات والتمثلات التي حملها الكاتب المخزني لتلك الأنظمة مما يمكن من معرفة تأثيرات نظامه القيمي وتركيباته الذهنية من خلال إصداره لأشكال معينة في الحكم والتقييم لتلك الأنظمة. فالظاهر حسب المتدخلة أن الكاتب المخزني كان يحاول وصف مختلف السمات الأساسية المشكلة للبنيات المجتمعية والمؤسساتية للمجتمعات التي زارها غير أن احتكام الدول على منطق القوة في تسوية ما كان يبدو بينها من نزاعات اقتصادية، تجارية، أو سياسية كان باعثا أساسيا لتركز انتباه الكاتب المخزني على طرق وأشكال بناء مؤسسات عسكرية نظامية استطاعت أن تضمن الريادة لدولها.
وقدم الورقة الخامسة يونس أوجديد (جامعة ابن زهر، أكادير) وهي "قراءة في رحلة تحفة الملك العزيز بمملكة باريز" درس من خلالها موضوع البعثة السفارية المغربية التي أرسلها سيدي محمد بن عبد الرحمن مباشرة بعد حرب تطوان سنة 1860. إلى فرنسا في عهد نابليون الثالث، حيث ترأسها إدريس العمرواي، ولا تخرج عن غيرها من الرحلات السفارية الأخرى التي لا يعرف سبب إرسالها، رغم محاولة مصادر عربية وأجنبية كشف بعض جوانب موضوع الرحلة، عبر ربطه بقضية الحدود المغربية الجزائرية، والمناوشات التي تقوم بها الجيوش الفرنسية على الحدود المغربية، أو طلب من المغرب من فرنسا وانجلترا التدخل لدى الإسبان في محاولة للحصول على تخفيض لتعويضات حرب تطوان التي التزم المغرب بدفعها لإسبانيا، طبقا لما تنص عليه اتفاقية الهدنة المبرمة بتاريخ ماي 1860.
ومهما يكن من اختلافات حول موضوع الرحلة، فإن الأساسي في رأي المتدخل هو معرفة ماذا تناول العمرواي فيها، حيث قام الوزير إدريس العمراوي بعملية نقل أحوال المجتمع الفرنسي إبان عهد نابليون الثالث، مهتما في الرحلة بوصف أوضاع المجتمع الفرنسي، وبعض مقومات الحداثة الفرنسية على النحو الذي تجلت له في عدد من المظاهر الاجتماعية والعمرانية والسياسية والتكنولوجية. كما وصف مختلف الاختراعات الحديثة غير مخف اندهاشه، مما صادفه من الأمور الغريبة والعجائب المحيرة للأذهان، مبرزا مشاعره من الحياة الباريزية، والتنظيمات التي تضبط إيقاع عالم التجارة والصناعة. وبحكم أن رحلة العمراوي تناولت شتى مناحي الحياة في المجتمع الفرنسي سواء سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا.
وخلافا للرحلات المتجهة لفرنسا وإسبانيا، خص عبد العالي دمياني (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) بالدراسة نصا رحليا اتجه صاحبه نحو إنجلترا، وهو نص "الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية" لمحمد الطاهر الفاسي، ورامت ورقته رصد "دهشة الاكتشاف ورهبة التعرف صور الآخر في الرحلة الإبريزية"، وهي رحلة حققها العلامة محمد الفاسي، ضمن صنف الرحلات السفارية، ورافق فيها الكاتب صيف 1860 كلا من الأمينين الحاج عبد الرحمان العاجي ومحمد الشامي، بوصفهما مبعوثان من جهة السلطان محمد عبد الرحمان إلى ملكة إنجلترا فكتوريا في موضوع لم يفصح عن فحواه الكاتب كما هو شأن كل الرحلات السفارية.
وقد تميزت رحلة محمد الطاهر الفاسي، التي دامت شهرين ونصفا وتزامنت مع سفارة بعث بها السلطان العلوي إلى فرنسا ودونها الوزير إدريس العمراوي، بتوصيفها للمحطات التي زارها الوفد السفاري المغربي. واستطاعت الرحلة، على قصرها، أن تنقل صورة عن المدنية الأوروبية في صيغتها الإنجليزية، حيث سينقل الكاتب، بغير قليل من العناء في التعبير، تمظهرات الحضارة الغربية مجسدة في البواخر والقطارات والقصور الفخمة والآلات الصناعية والمدافع وأنواع الأسلحة والحدائق والمصانع الكبرى والاستعراضات العسكرية والمتاحف وحدائق الحيوانات والنباتات والقناطر الضخمة وأشكال التنظيم والتنسيق...
ولم يخف الكاتب، في محاولة اضطلاعه بوصف هذا العالم الجديد عليه كلية، انبهاره بما تنطوي عليه المدنية الإنجليزية من عجائب وغرائب، إلا أنه اعتبر هذا التفوق الدنيوي لا يساوي شيئا في ظل الكفر الذي تعيش فيه الأقوام الإنجليزية، وكان إحساسه بالتفوق الديني، على اعتبار أن الإسلام هو الدين الحق، يخفف من غلواء شعور مبطن بالتخلف الحضاري إزاء المدنية الأوروبية الصاعدة بقوة في أواسط القرن التاسع عشر.
وترأس أشغال الجلسة الثانية الميلود عثماني (ناقد ومترجم وباحث في مختبر السرديات)، وخصصت لتقديم كتاب "الرحالة الفرنسيون في بلاد المغرب لرولان لوبيل"، ترجمة حسن بحراوي. حسن بحراوي الذي كان ضيفا شرفيا في هذه الندوة؛ وقد قدمه رئيس الجلسة على أنه رقم يصعب تجاهله أو نسيانه، ما دام يبصم بقوة في التجربة النقدية والإبداعية، ومنفتحا على كثير من الأجناس، فهو ناقد وباحث ومترجم وشاعر وحكواتي ومهتم بالأدب الشعبي.
وقدمت خلال هذه الجلسة ورقتان نقديتان، الأولى: لبوشعيب الساوري (ناقد ورائي وباحث في مختبر السرديات) عرضت للكتاب من حيث أقسامه ومضمونه وأهميته العلمية ومكانته ضمن التجربة النقدية لرولان لوبيل المهتمة بالنصوص الرحلية المكتوبة حول المغرب، والتي منها أيضا نص "الرحالة الإنجليز في بلاد المغرب" الذي هو قيد الترجمة. وأكد الساوري على أهمية الكتاب التوثيقية والتصنيفية والمقارنة، التي مكنت من رسم صورة واضحة عن المغرب، وكشف خلفيات الكتابة، والعمق الفكري لكتابة النصوص والتصورات، ليخلص المتدخل في الأخير إلى أن الكتاب:
درس في تاريخ الأدب.
مؤسس للدرس النقدي الرحلي، حيث لوبيل يبرز سخافة النصوص أو جودتها، بكل موضوعية
إثارة إشكالات النص الرحلي مثل علاقة الرحلة السفارية بالنص الرحلي والرواية
أما صاحب الورقة الثانية عبد الرحمان غانمي (ناقد- كلية الآداب بني ملال) فمهد لقراءته بالحديث عن انشغالات حسن بحراوي المتعددة وحضوره النقدي المغربي والعربي، وشخصيته المتنوعة ثقافيا. وتعامله الجيد مع اللغة. معتبرا أن كتاب لوبيل يقدم مادة ثرية حول المغرب، وفق منهجية تستقصي ما هو تاريخي وسياسي وثقافي... رغم تغييب الكتاب أشياء مهمة، واكتفائه أحيانا بالعرض والتقديم المضموني للنصوص دون مقاييس محددة في التعامل مع ستة وعشرين نصا رحليا المشغل بها في الكتاب. وانتهى المتدخل على ضوء قراءته للكتاب وأصناف وأنواع الرحلات المدروسة داخله إلى أن المغرب كان محط اهتمام من زوايا مختلفة، وأن الفكرة الاستعمارية لم تكن وليدة القرن التاسع عشر أو العشرين؛ بل تكفل بها منذ قرون كما يكشف كتاب لوبيل أسرى ورهبان ومخبرين وديبلوماسيين ومستكشفين ومغامرين وفنانين وأطباء ورجال أعمال وصحفيين وضباط وعلماء وغيرهم.
وبعد تقديم ورقتي الساوري وغانمي؛ تناول الكلمة مترجم الكتاب حسن بحراوي الذي عبر عن اعتزازه بالحضور ضمن أنشطة مختبر السرديات. وقسم حديثة لثلاثة موضوعات هي الترجمة والمعرفة والمجتمع. منطلقا من عدة أسئلة منها كيف جاء الكتاب؟ وكيف كتب؟ ولماذا اهتم المستعمر بالثقافة غير الرسمية والأدب الهامشي؟ ومكانة الرحلة المعلقة بين التاريخ والأدب والجغرافيا...؟
انطلق بحراوي من احتلال الجزائر سنة 1830، والذي امتد لقرن ويزيد، وفات فرنسا خلاله أن تدرك هوية الجزائر البشرية والإنسانية والأخلاقية، إلى أن جاء الاستقلال، لذا عندما قرَّ عزمهم على استعمار المغرب قرروا أن يسبق الغزو العسكري بغزو فكري، وكانوا عمليين في ذلك حيث بعثوا بجماعة من المستكشفين والمغامرين للتغلغل في الأرض المغربية لتسجيل الطرق والمناخ والتضاريس وجمع الخرائط وفهم التنوع اللغوي والبيئي. حيث بعثوا بشارل دو فوكو الذي مات على يد القبائل الصحراوية سنة 1916، وادموند دوتي الذي غامر بنفسه، كما أن من الرحالة من بعث ببديل عنه من الجزائريين خوفا على نفسه. وكل ذلك وفق خطة محكمة من فصولها تأسيس الماريشال ليوطي مع نهاية العقد الأول من القرن العشري لمعهد الدراسات المغربية، ولمجلة هسبريس التي تجمع كل شيء عن المغرب. وأُعطِيَ رولان لوبيل كرسي الرحلة ليُعلم طلبة معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط، والذين كانوا يتشكلون في جملتهم من المراقبين المدنيين وضباط الاستعلامات وموظفي الدولة الحامية ممن يجري تعينهم في المغرب، وقد كان نظر المقيم العام الماريشال ليوتي قد ذهب إلى ضرورة أن تزودهم الاستعمارية بالحد المعقول من المعرفة باللغات الرائجة بالبلاد والقدر الضروري من تاريخها الاجتماعي والثقافي وعوائد سكانها وأنظمتهم القبلية والمخزنية... وبكل ما يمكن أن يسهل مأموريتهم ويقلل من اعتمادهم على المترجمين. ولهذه الأسباب استثنى لوبيل الكتابات الأجنبية الكثيرة حول المغرب ذات المنحى التخييلي، وخص لها كتابا آخر مقتصرا على الأدب الغرائبي الكولونيالي.
كما بين بحراوي أن الكتاب يكشف أيضا المرحلة المزدهرة من تاريخ المغرب، تجلت في "أدب الافتداء" حيث الأسرى "النصارى" الذين ينتظرون من يخلصهم والتي ذاع صيتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تزامنا مع سنوات ازدهار القرصنة، واحتجاز المواطنين المسيحيين والتي مثلتها كتابات جان موكي (1617) والأسير السعيد لامارتينيير (1674) والسيور موويت (1682) وغيرهما.
وخصصت الجلسة المسائية من أشغال هذه الندوة لتقديم أربع أوراق نقدية، تشتغل هي الأخرى بالمتن الرحلي السفاري المغربي، قدم أولاها آسية واردة (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) تحت عنوان "فرنسا بعيون الفقيه محمد الصفار اللقاء مع الآخر واكتشاف الجديد". ومهدت الباحثة دراستها للرحلة ببحث سياقها التاريخي الذي تناسب مع الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1246ه/1830م، الذي يعتبر بداية حقيقية مهدت الطريق أمام إمكانية توسيع المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب. أعقبه الفوز الكاسح للجيوش الفرنسية المحكمة التنظيم والمزودة بالعدة والعتاد على الجيش المغربي التقليدي والهش في معركة وادي ايسلي سنة 1844م.وأثناء مفاوضات اتفاقية للامغنية سنة 1845م وترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، اقترح الفرنسيون على السلطان عبد الرحمان بن هشام (1822-1859) إيفاد مبعوث عنه إلى فرنسا، قصد إدخال التغييرات والتحولات التي يتطلبها "الوضع الجديد" في الوقت الذي كان فيه المخزن يدرك أن النية غير سليمة وأن شعار الإصلاح لن يكون إلا آلية للتفكيك والإخضاع.
وقع الاختيار على عبد "القادر اشعاش" عامل تطوان ذو الثماني والعشرين ربيعا ليكون سفيرا مخصوصا من سلطان المغرب إلى ملك فرنسا "لوي فيليب"(1830-1848).وكان الفقيه التطواني محمد الصفار من بين أعضاء الوفد المغربي. وبعد رحلة استغرقت أزيد من شهر سجل خلالها مشاهداته، عاد أعضاء البعثة إلى المغرب، فشرع الفقيه الصفار في تحرير نص رحلته، وبعد تقديمها للسطان اختفت عن الأنظار لمدة تجاوزت 120 سنة. ولم يتم كشف النقاب عنها إلا في مستهل ستينات القرن العشرين بمحفوظات القصر الملكي بمراكش. بعدما قامت الباحثة الأمريكية "سوزان ميلر" باختيار مخطوطة الصفار موضوعا لأطروحة نالت بها درجة الدكتوراه من جامعة "ميشغن" الأمريكية.
وبينت الباحثة أن هذه الرحلة تكشف لنا عن مشاهدات الصفار بالديار الفرنسية التي قدم فيها وصفا معبرا لعناصر تطور الآخر وتفوقه في مختلف المجالات، فبعد ركوبه القطار الذي أطلق عليه "ببور البر"، واندهاشه بسرعته وشكله، أبدى إعجابه بمدينة باريس وشكلها ودينامية الحركة داخلها، ومنتزهاتها ونمط القلاع المحيطة بها . كما افرد فصلا كاملا من رحلته عن عوائد الفرنسين في الأكل إلى غيره من الأشكال الحضارية الجديدة على ثقافة الصفار وبيئته.
ومن شعبة الإنجليزية (جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس) شاركت الباحثة هاجر برغابي بورقتها: Britain through Al Ghassal's Eyes: Rihla Tatwijiya ila A'ssimat al Bilad al Injaliziya (1902) (بريطانيا بعيون الغسال في الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية). وتناولت بالوصف والتحليل الرحلة السفارية للرحالة الغسال "الرحلة التتويجية إلى عاصمة الديار الإنجليزية"، سنة 1902م. مبرزة أهم المحطات التي اهتم بها الغسال في رحلته إلى العاصمة البريطانية لندن، وتقديم توصيف وتحليل للمجالات التي اهتم بها وعلى وجه الخصوص البنيات التحتية للعاصمة لندن والمجال الصناعي والتجاري والديبلوملسي والعسكري. كل ذلك من أجل هدف أساسي تمثل في فحص مفهوم الحداثة عند الغسال. ودحض الأفكار الاستشراقية، وتبيان مكانة العرب في السفر.
وفي ورقة "إسبانيا كفضاء استشكال ثقافي للسفراء المغاربة.. بحث في تميز الفضاء الإسباني عن الفضاء الأوربي والأجنبي" الكردودي والرهوني نموذجين، بين المبارك لغروسي (جامعة عبد المالك السعدي، مرتيل تطوان)، تميز رحلة السفراء المغاربة إلى بلاد إسبانيا بميزة عن الرحلة الأوربية، تتمثل في الاتصال بفضاء يمثل فعلا حالة استشكال ثقافي بالنسبة للمبعوث الماضي في رحلة تقتضي منه إعمال العقل أكثر من الوجدان.... ففضاء إسبانيا يتضمن جانيا أندلسيا يجعل الرحلة انتقالا إلى ذات مفقودة واستعادة وصل بفضاء معروف من خلال الثقافة الأدبية والتاريخية. لذلك صارت الرحلة إلى إسبانيا بالنسبة للرحالة المغربي رحلتان متوازيتان، رحلة في البلاد الحديثة ينظر لها الرحالة بعين الموضوعية والعقل والانتقاء، ورحلة في مدن ومآثر الأندلس تقوده في استحضار للتاريخ والماضي واستبحار في الكتب التاريخية والأدبية واستحضارا للحظات الصراع والألم واعتبارا بمكر الزمان والأقدار. لكن هذه الرؤية الأندلسية ستتخذ طابعا وجدانيا مكتئبا ومتصادما مع الآخر في رحلة ما قبل اللقاء مع الاستعمار، وستتطور إلى استحضار أقل سلبية مع الرحلة المغربية الشمالية والرحلة العربية المشرقية المتصالحة مع جانب من إسبانيا الحديثة التي تبنت الميراث العربي الإسلامي كجزء من ذاتها فوافقه خطاب متصالح في الجانب العربي تكرس في الرحلة الأندلسية.
واختارت المتدخلة الرابعة والأخيرة نسرين الجعفرية (جامعة محمد الخامس الرباط) موضوع "الهوية الثقافية في خطاب الرحلة الأوروبية" عبر دراسة من متن الرحلة السفارية "الرحلة الأوروبية" لمحمد الحجوي، التي تعكس اندهاشا وإعجابا ثم اعترافا برقي الفن الفرنسي وقوة الصناعة الإنجليزية، واستعراضا للخصوصيات الثقافية والعادات مقارنة بين البلدين (فرنسا والإنجليز) وحتى مع المغرب في لحظات أخرى. والتي تمكن من لمس تلك الهوية الثقافية المتجددة، التي تنتقي من معطيات العصر في ميادينه المختلفة واستثمارها من لدن الذات. وركزت ورقة الباحثة على الوظيفة التنظيمية لفعل الرحلة، ومحطاتها (مشهد الذهاب- مشهد الوصول- مشهد الإياب). والهوية الثقافية في الرحلة من خلال المستويات الدينية والأخلاقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية
واختتمت أشغال الندوة بفتح نقاش عميق مع الحضور، طرحت من خلاله أسئلة وإجابات مرتبطة بأهمية الاشتغال على المتن الرحلي ودوره في كشف الهوية وصورة الأنا والأخر، وعلاقة الرحلة بالوثيقة والرواية، ودراسة المسرح في الأدب الرحلي، والتخييل وغيرها من القضايا التي ما تزال غير مطروقة بشكل جيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.