الشرع يصل إلى أمريكا في زيارة رسمية    كرة القدم: "أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي" (إنفانتينو)    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    توقيف التجمعي يوسف مراد في المطار بشبهة التهريب الدولي للمخدرات    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    مونت-لا-جولي.. مغاربة فرنسا يحتفلون في أجواء من البهجة بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    مقتل فلسطيني في قصف إسرائيلي    طقس الأحد: ضباب وسحب منخفضة بعدة مناطق بالمملكة    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد النفسي و الذاتي في الإبداع الشعري
بين النقد الأدبي القديم و الحديث
نشر في طنجة الأدبية يوم 27 - 06 - 2011

تمهيدا لمناقشة هذا الموضوع، وتمهيدا بالتالي للحديث عن علاقة النفس بالنص الأدبي (الإبداع)، لابد من الإشارة إلى هذه العلاقة من منظور نقدي وبلاغي. ونستهل هذه الإشارة بالقول بأن هذا الموضوع قد شكل ميدانا فسيحا في الدراسات النقدية والبلاغية القديمة منها و الحديثة، واحتوى العديد من الآراء من جانب الشرح والتفسير.
وفي هذا الصدد، اهتم النقاد القدامى كثيرا بدراسة علاقة النص الأدبي بنفسية صاحبه من خلال « البحث في صحة المعاني أو فسادها في الدلالة على حالة الشاعر وملاءمتها لمزاجه وطبعه، وفي العناية بتقويم المحسنات وأساليب الجمال الفني»(1).
وهكذا ،روي عن يونس بن حبيب قوله : « كفاك من الشعراء أربعة امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهيرا إذا رغب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب»(2). وهذا يفيد في القول ،بأن اختلاف الإنتاج الأدبي له علاقة وطيدة بتباين الأمزجة والطباع. كما يفيد، في القول أيضا، بأن الفروق في تركيب البنية النفسية للشعراء له دور مهم في الاستجابة لدوافع الرغبة و النفور من جهة و دواعي التميز و التفرد . وكان عبد القاهر الجرجاني قد أشار إلى هذا الاختلاف في قيمة الإنتاج الشعري، وذهب إلى القول بأن الشاعر « قد يكون في المديح أشعر منه في المراثي، وفي الغزل واللهو والصيد أنفذ منه في الحكم والآداب»(3) .
وكانت أوضح إشارة نقدية إلى علاقة الأساليب الأدبية والبلاغية بنفسية مستعمليها، هي التي سجلها ابن قتيبة، في كتابه (الشعر والشعراء)، والتي اعتبر فيها« أن للشعر تارات(اوقات) يبعد فيها قريبة ويستعصب فيها رُيّضه، وللشعر أوقات يسرع فيها أتيُّه، ويسمع فيها أبُّهن منها أول الليل [...] ومنها صدر النهار [...] ومنها الخلوة[...]»(4) . كما عبر غيره من النقاد من بعده ،على علاقة البنية النفسية للشاعر بالأساليب الأدبية
(1) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إبراهيم طه، ص : 72.
(2) العمدة ، 1/204 .
(3) الرسالة الشافية، عبد القاهر الجرجاني، ص : 126.
(4) الشعر والشعراء، 1/86-87.
وربطوها بالعملية الإبداعية ربطا وثيقا. وهكذا يقول القاضي الجرجاني : « ثم تجد الرجل منها ( في القبيلة) شاعرا مفلقا، وابن عمهن وجار جنبه ولصيق طنبه بكئا مفحما، وتجد فيها الشاعر أشعر من الشاعر والخطيب أبلغ من الخطيب، فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدّة القريحة والفطنة؟ وهذه أمور عامة في جنس البشر لا تخصيص لها بالأعمار ولا يتصف بها دهر دون دهر»(1) . ثم يضيف « والقوم يختلفون في الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعر منطق غيرهن وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق»(2) . وأكد عبد القاهر الجرجاني من جهته هذه العلاقة ، معتقدا أن العملية التعبيرية الفنية تتحكم فيها أمور غيبية تعلق بالعقل والنفس ، وهي التي تهدي المتلقي إلى إدراك المعاني الدلالية الخفية وقال: « فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء من حيث اللفظ فيقول، حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أن ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، أو إلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقترحه العقل في زناده»(3)، ثم أضاف عبد القاهر الجرجاني إلى أن معرفة هذه المعاني صعب المنال، لأنها معان خفية، « لا تبصرها إلا ذوو الاذهان الصافية والعقول النافذة، والطباع السليمة والنفوس المستعدة لأن تعي الحكمة، وتعرف فصل الخطاب»(4). وقال الجرجاني في موضع آخر مؤكدا السابق و « اعلم انه لا يصادف القول في هذا الباب موقف من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلا وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحة تارة ويعرى منها أخرى، وحتى إذا عجبته عجب، وغذا نبهته لموضع المزية انتبه»(5) .
وقد قفا هذا النهج كثير من النقاد التابعين مثل : ابن طباطبا العلوي ( ت، 322ه) وقدامة بن جعفر ( ت 337ه)، والحسن بن بشر الآمدي (ت 370ه)، وعلي بن عيسى الرماني (ت 384ه)، ويوسف السكاكي ( ت 626ه)، وضياء الدين بن الأثير (ت 637ه)، وحازم القرطاجني ( ت 684ه) وغيرهم... ممن تنبهوا إلى العلاقة بين النص الأدبي، ومزاج وطباع المبدع له.
وبناء عليه ،يمكن القول إن القدامى من النقاد والبلاغيين يعنون بالقضايا النفسية في علاقتها بالأساليب الأدبية من الناحية الفطرية وأن غايتهم لا تخرج عن كونها إشارات وملاحظات مقتضبة تعكس خلاصة تجارب الناقد والبليغ وخبرتهما . واهتمت دراساتهم أساسا بمعرفة أحاسيس الشعراء وانفعالات مشاعرهم وتحديد المؤثرات البيئية
(1) الوساطة، القاضي الجرجانين ص : 16.
(2) نفسه، ص / 17-18.
(3) أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، ص : 3.
(4) نفسه، ص : 50.
(5) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص : 279.
والاجتماعية التي توجه سلوكهم وميولاتهم الفطرية والغريزية، ووصف تعاملهم مع الألفاظ بأوصاف تنسجم وطبيعة كل منهم» أكثر من أي شيء. ومن ثمة أيضا ، كان عنترة بن شداد عندهم مثلا : فارس شجاع، وشاعر مجيد، سهل الألفاظ، رقيق المعاني، على حسب ما يقتضيه كل غرض... وزهيرمثلا ، قاض حكيم، وشاعر فحل، يضع اللفظة موضعها، ويجمع كثير من المعنى في قليل المنطق.... وباختصار، فقد ركز النقاد والبلاغيون القادى في دراستهم لهذه الظاهرة على نقطتين رئيسيتين:
الأولى : معرفة البواعث التكوينية التي دفعت القول الشعري إلى الظهور، وبالتالي معرفة الأسس الفعالة، والمؤثرات العامة التي تكمن وراء كل عمل أدبي، في إطار العلاقة بين الشعور الداخلي والتجارب اليومية والممارسة الفنية وخاصة فيما يتعلق بمعرفة قدرة الشاعر على جعل النتاج الأدبي نوعا من التعويض ينحاز إليه كلما أحس بالنقص (نفسي، أو جسماني، أو اجتماعي)، له انعكاس سلبي على طبيعة حياته اليومية.
والثانية : معرفة الأحوال التي تقف وراء تأثير الأساليب التعبيرية في المتلقي (الرسالة)، إذ كثيرا ما اتجه النقاد والبلاغيون وخاصة في دراسة الصىور الشعرية والأساليب التعبيرية، المباشرة منها وغير المباشرة(1) إلى إبراز دورهما النفسي، ومدى قيمتها الدلالية الوجدانية وتأثيرها في المتلقي .
وأخيرا فقد ركز النقاد العرب القدامى في دراستهم لهذه الظاهرة على ثلاثة عناصر، هي : المبدع، الرسالة، المتلقي.
وإذا انتقلنا إلى الدراسات العربية الحديثة في هذا المجال(2)، فإننا نجد عباس محمود العقاد في طليعة الدارسين الذين ناصروا الاتجاه النفسي في الدراسات الأدبية، وأكدوا على وجود علاقة وطيدة بين الأدب عموما، ومبدعه من الناحية النفسية. بل لقد تأثر العقاد بمناهج ونظريات مدرسة التحليل النفسي الحديثة واعتبرها « أقرب المدارس إلى الرأي الذي ندين به في نقد الأدب، ونقد التراجم، ونقد الدعوات الفكرية جمعاء، لأن العلم بنفس الأدبي أو البطل التاريخي يستلزم العلم بمقومات هذه النفس، من أحوال عصره وأطوار الثقافة والفن فيه، وليس من عرفنا بنفس الأديب في حاجة إلى تعريفنا بعصره وراء هذا الغرض المطلوب، ولا هو في حاجة إلى تعريفنا بالبواعث الفنية التي تميل به من أسلوب إلى أسلوب»(3).
(1) ونقصد بالأساليب المباشرة، أساليب علم المعاني، الطلبية منها وغير الطلبية، وبالأساليب غير المباشرة، المحسنات البيانية والصور البديعية.
(2) ونود ان نذكر في هذا الإطار، أن الدراسات العربية الحديثة، لا تزال متكئة اتكاء كاملا على ما أنتجه الغربيون. ويكفي ان نذكر، علم النفس واستغلاله في دراسة الفن عامة خاصة من طرف : فرويد Sigmond Freud وجاستون باشلار Gaston Bachelard وشار مورون Charles Mouron، وغيرهم...
(3) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد، ص : 112-113.
(1) ونقصد بالأساليب المباشرة، أساليب علم المعاني، الطلبية منها وغير الطلبية، وبالأساليب غير المباشرة، المحسنات البيانية والصور البديعية.
(2) ونود ان نذكر في هذا الإطار، أن الدراسات العربية الحديثة، لا تزال متكئة اتكاء كاملا على ما أنتجه الغربيون. ويكفي ان نذكر، علم النفس واستغلاله في دراسة الفن عامة خاصة من طرف : فرويد Sigmond Freud وجاستون باشلار Gaston Bachelard وشار مورون Charles Mouron، وغيرهم...
(3) دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، عباس محمود العقاد، ص : 112-113.
وهكذا اقتنع العقاد بوجود علاقة وطيدة بين العوامل البيولوجية والسيكولوجية للشاعر أو الأديب... والعملية التعبيرية خصوصا أو النص الأدبي عموما، كما في قوله مثلا : « لا تعوزنا الأدلة على اختلاف أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره أو من غير شعره، فإن أيسر ما تقرأه له أو عنه يلقي في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه، واعتدال صوابه، ثم يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه»(1) ، ثم أضاف : « وكل ما نعلمه من نحافه وتقزز حسه، وشيخوخته الباكرة، وتغير منظره، واسترساله في الوجوم، واختلاج مشيته، وموت أولاده، وطيرته ونزقه وشهوانيته الظاهرة في تشبيهه وهجائه، وإسرافه في لهوه ولذاته، ثم كل ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس، قرائن لا تخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلاف الأعصاب وشذوذ الاطوار، بل لا تخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ»(2).
وهكذا ،وجد العقاد أن اختلال أعصاب ابن الرومي، كان له الدور الفعال في إبداعه الشعري، وبالتالي، فإن واقع الشاعر وشعره شيء واحد عند العقاد، « فموضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته»(3).
وقد أكد أمين الخولي من جهته وجود صلة وثيقة بين النص الأدبي وصوره وأسلوبه، بل ومختلف تعابيره من جهة ونفسية مبدعه من جهة ثانية، فحث الدارسين والباحثين على الاهتمام بعلم النفس لتحليل الجوانب النفسية، بل ومختلف الوقائع والأحداث التي رافقت شخصية المبدع، عن طريق « وصل الأديب بأدبه، بحيث نفهم الأدب بشخصية صاحبه، كما نفهم شخصية الأديب بآثاره الفنية»(4).
وبناء على ذلك ،تركزت أعمال الخولي في هذا الشأن على دراسة التكوين الداخلي للمبدع، ومعرفة سلوكه الخارجي، ومختلف تصرفاته، التي تظهر بين الفينة والأخرى في إنتاجه الأدبي، عبر ثنايا الأسلوب(5).
وقد ساند محمد خلف الله تلك الآراء، لكنه دعا إلى دراسة النصوص الأدبية أو الأدب بشكل عام، انطلاقا من مناهج النقد الأدبي القديم ، مبديا في هذا الصدد إعجابه وتأثره، بنظرية عبد القاهر الجرجاني في هذا الشأن، ومعتبرا إياها جزءا « من تفكير سيكولوجي أعم، يطبع كتاب الأسرار بطابعه، فالمؤلف لا يفتأ يدعوك بين لحظة وأخرى إلى تجربة الطريقة النفسانية التي يسميها المحدثون (الفحص الباطني)، وذلك ان تقرأ الشعر وتراقب نفسك عند قراءته وبعدها، وتتأمل ما يعروك من الهمزة والارتياح والطرب والاستحسان،
(1) ابن الرومي، عباس محمود العقاد، ص : 101.
(2) نفسه، ص : 101.
(3) نفسه، ص : 12.
(4) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، أمين الخولي، ص : 332.
(5) راجع نفس المصدر، ص : 327 وما بعدها.
ويحاول ان تفكر في مصادر هذا الإحساس»(1) . ثم أكد على أنه من الممكن الاستفادة من نظرية الجرجاني النفسية عن طريق توظيف منهاجها واستغلال أفكارها، لتغذو نظرية حديثة « تنهض بما لم يفطن إليه من نواحي النظرية الأدبية، وتبين ما أجمله من مسالك الأدب إلى النفوس، تعالج ما أشار إليه من ضروب الصور الذهنية [...] منتفعة في ذلك بنتائج الدراسات الأدبية الحديثة، وبما وصلت إليه الفروع الإنشانية المختلفة التي تمت إلى الأدب والفن بأوثق الصلات»(2).
وكتب مستنتجا : « والواقع أن ميدان التحليل النفسي من أخصب ميادين علم النفس، من جهة علاقاته الأدبية، فإن تنقيبه في أعماق النفس الخفية، يقفه وجها لوجه أمام طائفة من المعضلات التي شغلت باحثي الأدب قرونا، ولا تزال تشغلهم»(3).
هكذا دعا محمد خلف الله إلى تبني التحليل النفسي لدراسة الأدب وفنونه بل ودراسة طبيعة الشعر وأغراضه وأساليبه التعبيرية(4).
ولم يخرج محمد النويهي، عن سابقيه في أفكارهم ومناهجهم التطبيقية .وجاءت تفسيراته لهذه العلاقة من خلال دراساته النفسية والبيولوجية لشخصية بعض الشعراء من مثل : ابن الرومي(5) وبشار بن برد، وأبي نواس، انطلاقا من استكشاف العوامل المؤثرة في شخصيتهم وبعض مظاهر سلوكهم ، من خلال أشعارهم و طريقة كتاباتهم و أخبارهم ، معتمدا في كل ذلك على مناهج نفسية حديثة مختلفة، حيث أكد قوله :
« فإنني لم أتبع فرويد هذا الاتباع المذهبي الضيق [...] وإنما تخيرت من شتى الفلسفات النفسية الحديثة الأخرى ما رأيته نافعا في شرح موضوعي الخاص الذي تناولته»(6).
وقد علق أحمد كمال زكي على آراء محمد النويهي في كتابه ( شخصية بشار)(7) وقال : « والكتاب في جملته جاء مظاهرة للتأثير الاجتماعي في الشاعر العظيم»(8).
في حين انتهى محمد النويهي في كتابه الثاني (نفسية أبي نواس) إلى أن هذا الشاعر الذي في رأيه « ولد رقيق التكوين، مشحوذ الأعصاب، بالغ الحساسية، وإلا لم يكن الشاعر الذي نعرفه في حدة شعوره، وسرعة تأثره، ودقة استجابته الشعرية لمؤثرات حياته. ومثل
(1) من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، محمد خلف الله، ص : 135.
(2) نفسه ، ص : 138.
(3) نفسه، ص : 22.
(4) راجع: المرجع نفسه ، ص :76، وما بعدها.
(5) راجع تعليق أحمد كمال زكي في كتابه : النقد الأدبي الحديث، ص : 184، حول ما جاء به النويهي من آراء في تحليل شخصية ابن الرومي. وانظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، عبد القادر فيدوح، ص : 173.
(6) نفسية أبي نواس، محمد النويهي، ص : 185.
(7) راجع: شخصية بشار، محمد النويهي.
(8) النقد الأدبي الحديث، كمال أحمد زكي، ص : 184.
هذا الطفل المستوفز الإحساس يكون عظيم التأثر بأحداث طفولته. فصفحة نفسه غشاء بالغ الرقة تنطبع عليه تجاربه العاطفية انطباعا عميقا، وتهز كيانه هزا عنيفا»(1)، كان يجد في شرب الخمر، و « ارتشافها، ارتضاء لشهوته تلك»(2)، ومحو آثار فقدانه لحنان الأبوة والأمومة (3)، وبالتالي « عجز عن التخلص منها (الخمرة) طوال حياته»(4)، فأقر أن حاجة أبي نواس للخمرة هو كحاجة الطفل نحو أمه وأبيه، وبالتالي رأى أن هذا الشاعر كان يعاني من عقدة نفسية رافقته في نشأته وتربيته الأولى، وتجسدت بجلاء في شذوذه الجنسي(5).
هكذا أثبت محمد النويهي بدوره نجاعة التحليل النفسي الحديث في الكشف عن مختلف البواعث التكوينية التي دفعت الشعر إلى الظهور، وبالأسس الفعالة التي تكمن وراء كل عمل أدبي قام به الشاعر أو الأديب.
وبناء على هذه الآراء والدراسات يلاحظ بجلاء ولا شك، تأثر الدراسين العرب المحدثين بمناهج النظريات النقدية القديمة من جهة وبمناهج التحليل النفسي للدراسات الغربية -علم النفس- من جهة ثانية، واتفاقهم جميعا في القول بأن الشعر كمعطى تعبيري أسلوبي، لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال بالبواعث التكوينية والعوامل المؤثرة في شخصية الشاعر، وبأن الشعر بمختلف أساليبه التعبيرية لا يمكن فهمه وتبين ملامحه إلا بالرجوع إلى واقع الشاعر، إيمانا منهم بأن الشاعر ليس سوى نتيجة لهذا الواقع، ومرآة عاكسة له. وبعبارة أدق، يعكس هذا الاتجاه، إيمانهم بأن فهم النص الأدبي، ومختلف أساليبه لا يبدأ من الشعر، بل يبدأ من واقع الشاعر. ومن ثم، جاءت محاولات هؤلاء الدارسين لتحديد خصائص وملامح علاقة الأدب عامة أو الشعر خاصة بنفسية صاحبه، وواقعه المعاش، وكأنها خاضعة لهذه النظرة، أي أنها تخدم أولا وقبل كل شيء فكرة العلاقة الحتمية والبديهية، بين هذا النص وحياة صاحبه.
(1) نفسية أبي نواس، محمد النويهي، ص : 79.
(2) نفسه ، ص : 46.
(3) نفسه ، ص : 80.
(4) نفسه : ص : 52.
(5) راجع نفس المصدر، ص : 55.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.