الريال يعلن نقل مبابي إلى المستشفى    ‪حريق غابوي ضواحي تطوان يلتهم هكتارات.. و"كنادير" تواصل الطلعات    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم يتعلق بمدونة السير على الطرق بشأن المركبات    الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية يؤكد على التحديات وجهود المملكة المغربية في مكافحة الجريمة المنظمة        بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي    نشرة إنذارية.. طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح يومي الخميس والجمعة بعدد من مناطق المملكة    تفكيك شبكة مغربية-إسبانية لتهريب البشر والمخدرات تستعمل قوارب الفانتوم    هشام بلاوي: الجريمة المنظمة تهديد متصاعد يتطلب تعاونًا قضائيًا دوليًا فعالًا    بنيله شهادة البكالوريا من خلف أسوار السجن، نزيل يخطو أولى خطواته على سكة إعادة الاندماج (بورتريه)        نشرة إنذارية..طقس حار وزخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح بعدد من مناطق المملكة    معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    ميداليات تحفز "بارا ألعاب القوى"    الشعب المغربي يحتفل غدا الجمعة بالذكرى ال55 لميلاد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد    دلالات ‬تجديد ‬مجلس ‬حقوق ‬الإنسان ‬دعمه ‬لمغربية ‬الصحراء    الذهب يصعد وسط التوتر في الشرق الأوسط    التصعيد بين إسرائيل وإيران يعيد للواجهة مطالب إحياء مصفاة "سامير" لتعزيز الأمن الطاقي    مجموعة "فيسين" تطلق طرحا عاما أوليا في بورصة الدار البيضاء    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    رائحة دخان تجبر طائرة على الهبوط في ميونخ    "حزب الله" يدين التهديد بقتل خامنئي    العيون ‬تحتضن ‬منتدى ‬إفريقيا ‬لبحث ‬الآفاق ‬الاقتصادية ‬والتجارية ‬بالقارة    جوفنتوس يكتسح العين الإماراتي بخماسية    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    فرحات مهني يكتب: الجزائر الإيرانية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الانخفاض    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    لقجع: المغرب ملتزم بجعل كأس العالم 2030 نموذجا للاندماج والاستدامة البيئية    رحيمي وحركاس وبنعبيد ضمن قائمة أغلى اللاعبين العرب في مونديال الأندية    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    الصين تدفع نحو مزيد من الانفتاح السياحي على المغرب: سفارتها بالرباط تتحرك لتعزيز توافد السياح الصينيين    ندوة علمية تناقش موضوع النخبة المغربية في زمن التغيير    بيب غوارديولا في تصريح أعقب مواجهة الوداد الرياضي المغربي، إن "المباراة الأولى في دور المجموعات دائما ما تكون صعبة    برلمان أمريكا الوسطى يُجدد دعمه الكامل للوحدة الترابية للمغرب ويرد على مناورات خصوم المملكة    برلمان أمريكا الوسطى يجدد دعمه للوحدة الترابية للمغرب ردا على المناورات    مجموعة العمل من أجل فلسطين تعقد ندوة صحفية تحضيرا لمسيرة وطنية الأحد بالرباط    مربو الدجاج يثمنون توجه الحكومة لإعفاء الفلاحين الصغار ويدعون لإدماجهم الفعلي في برامج الدعم    كارثة صامتة .. ملايين الهكتارات العربية على وشك الضياع    طنجة.. سيارة تدهس "مقدّم" بعدما دفعه متشرد نحو الطريق    إطلاق الهوية الجديدة ل "سهام بنك" خلفًا ل "الشركة العامة المغربية للأبناك"    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    انتخاب المغرب نائبا لرئيس المجلس العلمي لاتفاقية اليونيسكو حول حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    دورة تكوينية وورشات فنية لفائدة الأطفال والشباب بالمركز الثقافي لمدينة طانطان    فجيج بين ازيزا النادرة والتربية العزيزة.. حكاية واحة لا تموت    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النيل يسأل عن وليفته لفاروق شوشة
نشر في العلم يوم 11 - 02 - 2011


الشاعر
فاروق شوشة هرمٌ شامخ من أهرام الثقافة العربية في مصر. فهو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وصاحب البرنامج الإذاعي اليومي الشهير " لغتنا الجميلة"، وكاتب مقال أسبوعي في جريدة "الأهرام"، وأستاذ جامعي، ومؤلِّف حوالي عشرين مجموعة شعرية، وستة أعمال شعرية للأطفال، وثمانية عشر كتاباً في الدراسات والمختارات، وأربعة كتب في التحقيق.
ولد فاروق شوشة سنة 1936 في بلدة " الشعراء" في محافظة دمياط في دلتا النيل شمالي مصر. وسُمّيت البلدة ب "الشعراء"، لأنها الموضع الذي كان يتجمّع فيه شعراء الربابة ليتغنّوا بالأبطال الشعبيين، وينشدوا أشعارهم الوطنية الحماسية، تشجيعاً لجيوش المجاهدين المدافعين عن أرض مصر في وجه الحملات الصليبية، من أواخر القرن الحادي عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر. ففاروق شوشة هو حفيد الشعراء، وسليلهم، وحامل رسالتهم، والعازف على ربابتهم. ومنذ طفولته كان يحلم في ولوج بستان الشعر، ليتسلّق أعلى شجرة تفاح فيه:
أكتبُ أوَّلَ حرفٍ
في أوَّلِِ بيتٍ
في أوَّلِِ نصٍّ شعريٍّ
في أوَّلِ ديوانٍ أُصدرهُ حين أشبُّ
وأعلنُ للشعراء:
إليكم أنتسبُ الآن
وجئتُ إلى بستانِ الشعرِ
لعلّي أقضمُ من تفاحة هذا الحُلمِ...
تخرّج في كلية دار العلوم سنة 1956، ثم في جامعة عين شمس سنة 1957. التحق بالإذاعة المصرية، وتدرّج في المناصب ليصبح رئيساً لها حتى تقاعده.
فاروق شوشة الإنسان، نبيل العاطفة، شفّاف الروح، رقيق الطبع، رخيم الصوت، هادئ ساحر في حديثه. وفي الوقت نفسه، جادٌ في عمله، ملتزمٌ بمواعيده، منضبط بالتزاماته؛ ولهذا يقول صديقه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عنه: " الرجل الذي نعرفه بهذا الاسم يختلف عن الشاعر الذي نقرأ له. الرجل محتاط، متوازن، عاقل، منضبط؛ والشاعر صريح، منفعل، طروب، مندفع..." (1).
شعره
فاروق شوشة شاعر رومانسي غنائي، ذو لغةٍ عذبةٍ مشرقةٍ سلسة، وأسلوبٍ دافئٍ مموسقٍ منغِّم، اكتسبهما من خلال وعيه العميق باللغة، واِطّلاعه على تراث الشعر العربي، وثقافته الموسوعية. يُعنى في شعره، في المقام الأول، بالجمال. يقول الناقد الدكتور صلاح فضل: "إنَّ أعمال شوشة تكريسٌ للجمال، سواء جمال اللغة أو جمال الشعر" (2). وجمال شعره نابع من جمال لغته التي سكنته منذ أيّام الكُتّاب وحفظ القرآن. فالشعر عنده هو بناء باللغة، وأسمى تمظهراتها، ومكمن أسرارها، وكيمياء تراكيبها:
ها أنتَ تشاغل لغة
كبرت بك،
ومعكَ...
لم تبتعدا،
أو تتباعد أجنحةٌ منك ومنها
بينكما سرٌّ
أقدم من سفر التكوين...
ومثل جميع الشعراء الرومانسيين، فإنَّ فاروق شوشة وحيدٌ كحبةِ رملٍ صادية، ظمآن دائم البحث عن نبع الحبِّ الصافي، يحلم بعالمٍ أخضرَ ندي، يظلّه الغمام، ويسقيه الغيث، ويحلّق فيه اليمام، فيغرّد للحبِّ، الحبِّ بمعناه الوجودي الواسع الذي يهََبُ الحياةَ مذاقاً ومعنىً وغاية. وتجلّى هذا الحبُّ في صورتيْن رئيستيْن: حبِّ المرأة وحبِّ الوطن.
ولا شكَّ في أن شعره الوطني ناتج عن الخيبة التي أصابت جيله، جيل الستينيّات، الذي شاهد سفينته المحمَّلة بطموحات الوحدة العربية، والتنمية البشرية، والحرية، والديمقراطية، تتحطَّم على صخرة الأنظمة الحاكمة قبيل الوصول إلى شاطئ الأمل.
في شعره، ينطلق في مغامراتٍ فنية وفكريةٍ جامحة. وهو متمكِّن من أدواته الفنية، مسلَّح برؤيةٍ إبداعيةٍ شفافةٍ موحيةٍ مشرعة على التأويل، وبمقدرةٍ لغويةٍ فذّة تنتقي الكلمات العذبة المنغّمة، والصور الشعرية الرائعة، والإيقاعات الملائمة بمهارة فائقة، بحيث لا تستطيع، وأنت تقرأ إحدى قصائده، أن تبدّل كلمةً بأُخرى، أو تسقط كلمةً موجودة، أو تضيف كلمةً غير موجودة. فبناء القصيدة اللغوي قائمٌ على أُسسِ هندسيةٍ دقيقةٍ محكمةٍ فريدة، شكلها ومضمونها توأمان سياميان لا يمكن فصلهما دون إلحاق الضرر. وهو متمكّن من العروض العربي، قديمه وحديثه، بحيث ينتقل من الشعر العمودي بوزنٍ خليلي إلى شعر التفعيلة الحرّ، دون أن تلحظ ذلك، لأنه يختار، بعفويةٍ نادرة، التفعيلات التي تنسجم إيقاعاً مع الوزن الخليلي الذي بدأ به، ولأنك مسحورٌ بموسيقى شعره العذبة: الموسيقى الداخلية المنبعثة من تواؤم المفردات المتجاورة، المتماثلة في وزنها الصرفي والمنسجمة في أصواتها وإيقاعها؛ والموسيقى الخارجية المنبعثة من وزن البيت العروضي وإيقاع القافية. ولهذا يلقِّبونه بموسيقار اللغة. يقول العروضي الدكتور حماسة عبد اللطيف:
" واللافت للنظر أن الشاعر فاروق شوشة من الشعراء القلائل الذين يتحكّمون في وزن الشعر، ولا يتحكّم فيهم الوزن، فهو لا يعجزه نمط من أنماطه، يستطيع السباحة في أي بحر بالتمكُّن نفسه والاقتدار ذاته، "(3)
يؤمن فاروق شوشة بأنَّ الشعر نبراس الدنيا وبدونه يعتم الكون، وتظلمُّ الحياة، ويقفر الوجود؛ فيقول: " دَور الشعر الآن في ظل وجودنا العربي المتهافت هو دور الحارس الأخير والشاهد الأخير على حقيقة هذه الأمة وجوهرها، وهو نافخ بوقها، ومطلق أشرعتها ومجدّد ألوانها، وباعث حيويتها، وحامل قسماتها وجيناتها، ومفجِّر كيميائها"(4).
النيل يسأل عن وليفته
في هذا الديوان، يلتقي الحبّ والوطن معاً، ويمتزجان خمرةً عذبة في كأسٍ واحدة، فموضوعه هو: حبُّ الوطن، مسكوبٌ في إحدى عشرة قصيدة؛ يستقلُّ الشاعرُ خلالها قاربََ الخيال في رحلة على أمواج النيل الخالد، مسافراً عبر أماكن واقعية وأخرى سحرية، حتى دلتا الإلهام وضفاف الإبداع، حيث يستريح ويرتشف رشفة من ماء النيل تُسكره، فيصبح القلم ريشةً بيد رسام ماهر يجوّد في اللون والخط والمنظور، وتبلغ صوره الشعرية أقصى تخوم التشكيل، دون أن تعبث بأشرعته عواصف الغموض أو زوابع الابتذال. في هذا الديوان، لا يكتفي الشاعر بتذوق جمال الأشياء في ظاهرها، بل يتوحّد مع جوهرها، لتحويل الرؤية إلى رؤيا، وتطوير الشعور إلى شعر:
هل رشفةٌ يا نيلُ تسكرنا
فلعلَّنا أن نكمل الرُّؤيا
وأْذََنْ لنا أن نستريح هنا
فهنا نحبُّ،
وها هنا نحيا!
أوّل ما يلفت نظرنا في الديوان هو عنوانه، فهو أول عتباته، وله حضور رمزي ودلالي داخل النصوص الشعرية التي يضمُّها. وهو يتألَّف من جملة فعلية كاملة؛ ويشتمل على تقديم وتأخير. وتقديم الفاعل في العنوان تقديمٌ بلاغي يرمز إلى أهمِّية النيل:
ولدتُ ببابك العالي
وعلّمني طلوع الشمس أنك فاتحُ الأيامِ
ملهمُها
ومعطيها
وواهبها معانيها...
ومما يلفتُ النظر انتقاء الشاعر لفظة " وليفته"، المثقلة بالرمز والإشارة والإيحاء. فمن مشتقات جذرها (الأليف)، أول حروف الألفباء العربية، وحبيبة النيل هي الأول والآخر. وتذكِّرنا هذه اللفظة بأشهر كتاب في الحبِّ: " طوق الحمامة في الألفة والأُلاف" لابن حزم. ومن جذر الوليفة (أ ل ف)، نشتق ألَّفَ الشيءَ تأليفاً وتوليفاً، إذا وصل بعضه ببعض. وفي الاصطلاح الفسلفي، يدلّ (التوليف) على جعل الأشياء الكثيرة شيئاً واحداً. وسنرى فيما بعد كيف أنَّ (الوليفة) تشير إلى " اتحاد وحلول" بين النيل ومصر والشاعر.
النيل مكانٌ واقعي، بيدَ أن الشاعر يحوّله من مكان حقيقي إلى مكانٍ فنّيٍّ مُتخيَّل، يتحقَّق وجودُه لا من خلال طوبغرافيته وخطِّ سير مجراه، بل من خلال اللغة والعلاقات اللغوية الكامنة في الصور الشعرية المرسومةِ بالألفاظ. فالنيل هنا فضاء لفظي لا يوجد إلا في الكلمات. فالإبداع لا يعكس الواقع، وإنما يخلق واقعاً جديداً.
إذا كان النيل يحيط بالشاعر واقعياً، فإنّ الشاعر يحيط بالنيل فنيّاً، فيضفي عليه معنىً ويحوّله من ظاهرةٍ طبيعية إلى حقيقةٍ سيميائية ذات معطىً ثقافي، عبر اللغة التي تخضع على يد الشاعر إلى كيمياء التكثيف والتركيز والترميز والإيحاء:
في القلبِ مكانكِ
والنيلُ ورائي وأمامي
أخرجُ منه إليكِ
وحولي لغةُ الطير
وهسهسةُ الأغصان
وعطرٌ دلَّ عليكِ...
إذا كان المكان الواقعي يتمتع بأهمّيةٍ كبيرة بوصفه من أهم عناصر الوجود؛ فإن الشاعر يرفع من منزلة النيل المكان الفني إلى أرفع منزلة في الوجود، لأن هذه المنزلة لا تتوقَّف على مكانته الفعلية، وإنما على بنيته الفنّية. وتتَّحد هذه البنية الفنية برؤية الشاعر إلى المكان، وعلاقته به، اقتراباً وابتعاداً، انجذاباً ونفوراً، محبّةً وكراهيةً. ولهذا رفع الشاعر منزلة النيل إلى ذاتٍ مطلقة، تخلق وتبيد، وتعطي وتمنع، وتأمر وتنهي:
عمّدني عطاءُ يديكَ
طهّرني،
وصوّرني من العدمِ
فأنتَ، وليس غيركَ، واهبُ النعمِ
وليس هناك من ينهاكَ
أو يُجريكَ في غير المسار.
وإذا كان علماء النفس يتحدَّثون عن ثلاثة أمكنةٍ إدراكية: المكان البصري الذي يحصل لنا بإدراك صورة العالم الخارجي، والمكان السمعي الذي نستطيع أن نحدّده بوصفه مصدر الصوت، والمكان اللمسي الذي نحسّه باللمس؛ فإن النيل، المكان الفني، هو جميع هذه الأمكنة. فالشاعر يدرك صورته الخارجية بعينيْه، ويراه جَدّاً حبيباً يأتيه وهو يرتدي عباءته، شيخاً مقوّس الظهر:
ألقى النيلُ عباءتَه
فوق البرّ الشرقي ونام
هذا الشيخ المحنيّ الظهر
احدودب ثم تقوّسَ عبر الأيام ...
كما أن الشاعر يسمع النيل وهو يتحدّث إلى حبيبته مصر:
ويبيتُ النيلُ
يناغي معشوقته
الرابضةَ على شطيّه...
كما أن النيل مكانٌ لمسي، لأنَّ مياه النيل وأمواجه لمست الشاعر، وعمّدته طفلاً، وباركته:
أباهي أنني مَن باركته يداك
ومَن لمسته لمسَ السحر حين خطا
حشود خطاك ..
بيدَ أن الشاعر لا يستعمل الحواس: البصر، السمع، اللمس (باليد)، بوصفها وسائل لإدراك المكان والمحسوسات الأُخرى، ولكنه يستخدمها كذلك رموزاً فنية، فيصبح المحسوسُ الملموسُ أساسَ المعقول ومنطلق التفكير المجرد، ويصير الواقعُ بدايةَ الخيال ومنبع الإبداع. ففي النص الأخير، يستعمل الشاعر (اليد) بجميع معانيها المجازية دفعةً واحدة. ف (اليد) تشير إلى: الحيازة والملك، والنعمة والفضل، والعطاء، والقدرة، والقوة (5). فيدا النيل لا تمثلان " تشخيصاً" فنياً ، أي تحويل النيل إلى شخصٍ حيٍّ ذي يديْن فحسب، وإنما ترمزان كذلك إلى جميع تلك المعاني التي ذكرنا، والتي تطرَّق إليها فاروق شوشة في بحثه القيم " غريب الوجه واليد واللسان" (2007). وقد أثارت روعة الصور الشعرية ورمزيتها في هذا الديوان انتباه الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة فقال إن فاروق شوشة قد تحوّل من عذوبة اللغة إلى فتنة الصور، أصبح مولعاً بالتركيز على الصور الرمزية التي تكون أساس القصيدة وتسهم في بنائها ووحدتها (6) . وهذه الصور الشعرية ليست صوراً فوتغرافية ثابتة، وإنما هي صور سينمائية أو تلفزيونية متحرِّكة، بفضل خبرته الإعلامية المتميزة.
علاقة الإنسان بالمكان علاقة جدلية، فالإنسان يمارس سلطته على المكان ليجعله حيزاً أفضل وأكثر راحة وأماناً لإقامته، والمكان بدوره يمارس سلطته على الفرد بسبب إقامته فيه، واعتياده عليه، وتعلّقه به. ولكن علاقة الشاعر شوشة بالنيل المكان الفني علاقة تماثلٍ، وانجذابٍ، والتحامٍ، وتماهٍ، واتحادٍ صوفي. وقد حقّق الشاعر هذا الاتحاد وعمّقه عبر تقنيات لغوية وفنية. تبدأ هذه التقنيات باقتسام النيل والشاعر بعض الصفات والخصائص:
بي بعضُ ما بكَ،
فاحتملني
حينَ تزدحمُ الهمومُ
فأجتلي فيك ادّكاراتي
وأيامي التي عبرتْ...
ثمَّ التشبيه، والتناظر، والتماثل. فالشاعر شبيه النيل في تدفُّقه؛ نظيره في زهوه؛ مثيله في طهارته، وتعلّقه بمبادئ الحرية، وخلود شعره بالمقارنة إلى الأشعار العابرة التي يدبّجها بعض الخانعين لمدح الولاة والسلاطين:
ومثلكَ جئتُ،
منطلقاً ومزهواً،
لأنّكَ حرٌّ
فأنتَ الخالد الأبقى
وحولك عابرون وزائلون،
وأنتَ الدافق الجاري
ودونكَ، راكدون وخانعون،
وأنتَ الطاهر الأنقى...
(وفي الأبيات الأخيرة، لا تدري إذا كان الشاعر يخاطب النيل أم يخاطب نفسه؛ وعلى كلٍّ، فهما واحد.)
ومن هذه التقنيات، تحوُّلُ الضمائر في النصِّ الواحد؛ إذ تتحوّل الضمائر في الصورة الشعرية الواحدة من (هو : النيل) ? (أنا : الشاعر). فالنيل متيَّمٌ بمعشوقته، مصر، فحالما يُولَد في منابعه الأولى يجري مسرعاً قاطعاً آلاف الأميال، ليلقي بنفسه في أحضانها فيذوب فيها ويتوحّد معها، ويتجدّد في كلِّ يومٍ وفي كلِّ لحظةٍ، كما يتجدّد الشاعر في لغته ورؤاه وأساليبه في كلِّ قصيدة يناغي بها مصر:
ويبيتُ النيلُ
يناغي معشوقته
الرابضة على شطيه:
يا قدري الأجمل
يا كوكبي الأسنى
يا نبض حروفي الأولى حين أتمتم
أو أتكلّم...
فالنيل والشاعر هنا ذاتٌ واحدة تناغي مصر على لسان الشاعر القادر على الكلام حقيقةً لا مجازاً. وبطريقةٍ حسابيةٍ منطقيةٍ بسيطة، نستدلُّ على توحُّد الشاعر ومصر كذلك، وذلك طبقاً للمعادلة التالية: الشاعر = النيل؛ والنيل = مصر؛ إذن: الشاعر = مصر:
لا شيءَ غير النيل
مخترقٌ بهاءَكِ كانتصابِ السيفِ
معقودُ اللواءِ على جبينكِ
موغلٌ فينا
وحاملنا سخياً طيّعاً
ضمّيهِ
ضميني
أضمّكِ فيه...
وهكذا يوحِدُّ العناقُ والضمُّ الأحبابَ الثلاثة ليكونوا ذاتاً واحدةً سبكها الحبّ والشعر. ( لاحظ تحوّل الضمير في هذه النص من " مخترق جبينكِ ( أنتِ يا مصر)" إلى " موغل فينا (نحن: أنا وأنتِ يا مصر، فنحن واحد)" ، وليس موغلٌ فيكِ.
خاتمة
يزخر الديوان بنصوصٍ تضجّ بشكوى مُرَّةٍ من أوضاع الحبيبة، فالنيل والشاعر يتفجّران غضباً، لأن وليفتهما تتعرَّض للفساد والظلم والطغيان والعدوان:
أنتَ هل تصلحُ ما أفسده الدهرُ؟
وهل تمحو من السيرةِ
أيامَ طغاةٍ
وعصاةٍ
أشعلوا النيرانَ في الأجرانِ
والأحزانََ في الأزمانِ
والأحقادَ في القربانِ
وانحازوا إلى الطاغوتِ
جبّارينَ ...
شاهدٌ أنتَ على الظلمِ
الذي طال عميماً وعتيّاً
وظهورٍ فتكتْ فيها سياطُ القهر...
وهذه الشكوى تعيدنا إلى مغزى كلمة " يسأل" التي وردت في عنوان الديوان، فالسؤال يُطرح، عادةً، عن الصحة والأحوال، فأنتَ وأنا نسأل عن حال الحبيبة المريضة (7).
الهوامش
(1) أحمد عبد المعطي حجازي، " فحولة السبعين"، في كتاب: فاروق شوشة، سبعون عاماً من الإبداع الشعري، إعداد وتقديم: د. محمد حماسة عبد اللطيف ( القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، لجنة الشعر، 2006)، طبعة خاصة بمناسبة احتفالية الشاعر فاروق شوشة عند بلوغه السبعين، ص 2
(2) من كلمة د. صلاح فضل في احتفالية الشاعر فاروق شوشة عند بلوغه السبعين، التي أقامها المجلس الأعلى للثقافة. ولكن الكلمة لم تظهر في الكتاب الذي أصدره المجلس والمشار إليه في المرجع رقم (2)، وقد اقتبسنا الاستشهاد بكلام د. صلاح فضل من الشابكة (الإنترنت).
(3) د. محمد حماسة عبد اللطيف، فتنة النص: بحوث ودراسات نصيّة (القاهرة: دار غريب، 2008) ص 6180.
(4) فاروق شوشة، " إطلالة على الذات" في كتاب: فاروق شوشة، صفحة مضيئة في كتاب الشعر العربي، مرجع سابق، ص 1516.
(5) د. محمد كشاش، اللغة والحواس ( صيدا/بيروت: المكتبة العصرية، 2001) ص 98.
(6) محمد إبراهيم أبو سنة، " فاروق شوشة: النيل يسأل عن وليفته" في مجلة (الهلال)، أبريل (2009) ص 80 83.
(7) جميع الشواهد الشعرية من شعر فاروق شوشة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.