الشعر من أجل التعايش السلمي في ملتقى لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بالإمارات العربية المتحدة كنوارس تحاكي الطائرة في الانتضاء الأخير لعجلاتها ذات الهزيم، انتضينا أيضا سيقاننا الواهنة على إسفلت مطار دبي، بعد ليلة آسنة من وسن، امتدت سربيتها التي لا تحدها سماء، من منتصف ليلة الجمعة 15 أكتوبر 2011 بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء، حتى انفلاق الفجر لؤلؤةً في الصدف البحري لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ ولم تكن ثمة من بوصلة تأتلق ألمعية في دوخة هذا العُباب، سوى نداء الشاعر «عبد العزيز سعود البابطين»، الذي لا يني ماخراً بمؤسسته الجائزة، على إيقاع كل بحور الشعر، عاشقاً للقصيدة حتى تعشَّق بإهابها ذي حَوَر الفراديس؛ لكأنه يبذرها بيداء ليس تزور من وارف ورُواء، في أجمل عواصم العالم، مهما تنطَّعت في المادة والحديد؛ الشعر إذاً من يمضي خبباً بصافناته الضامرة، لاستكناه الآخر في كل أين (...)؛ ولو كان هذا الآخر جحيماً - بتعبير فيلسوف الوجودية «جان بول سارتر» - ، ولكن يكفي النطق دونما رَتْقٍ، بأيتها بلاغات أو محسِّنات جمالية، بعنوان هذا الملتقى البابطيني في دبي، لينتثر بَدداً، المفهوم الجحيمي لسارتر حول الآخر، مستورقاً فراديس غَنَّاء بالحياة التي تعتبر حقاً إنسانياً يمليه الشعر؛ إنه إذاً «ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي»، الذي انتسجت والتأمت حول نَوْلهِ الإبداعي، القارات الخمس، بجمهرة غفيرة من الشعراء والنقاد والجامعيين والإعلاميين العرب والأجانب، ناهيك عن كوكبة من رجالات الدولة الأمراء والوزراء والديبلوماسيين، وبرعاية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي وشاعرها أيضاً؛ وقد كان الاستهلال بإيقاع ترتقص لسنابكه المسنونة مهرة الشعر، حين صرَّح الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، بكلم أفْصَحَ من الذهب، أن هذا الملتقى الشعري الذي انقشع بكل الشموس، إنما آثر الانعقاد كقبة زرقاء «في فضاء جزيرتنا العربية، الأرض التي قدست الكلمة، أرض المعلقات والآيات، حيث رمالها المترامية لم تُنبت شيئاً سوى الشعر، وسماؤها الصافية لم تمطر غير كلام الله، وبين المعجز البشري والمعجز الإلهي، ترعرعت قبائل هذه المنطقة، لتكون الأداة البشرية لتحقيق أعظم تطور في تاريخ الإنسان»؛ ولنا أن نجزم أن ذا الكَلِم، من كثافات المعاني الموقوتة، بحيث أوجز كل مُهْراق الحبر الذي انهمر مدراراً، من بحوث لم تأْلُ تحليلا واستقراء، واستبطاناً، للشعر القديم تحديداً، في محاولة لاستجلاء وتقَفّي، أثر المُغاير أو صورة الآخر، ديناً أو عِرقاً أو لغة، في القصيد العربي الذي مهما بلغ من الجَدَل النفسي، واستعر بالاختلاف، سلباً أو إيجاباً، إلا أن أمشاجه البذورية، تندغم أخيراً في رحم عظيم؛ هو جمالية الشعر؛ أعترف أن خاطِري، لم يكن خلواً، وأنا أتقطَّى من بحث إلى آخر، من احتدامية نقدية تُزيِّن لتفكيري الكثير من الأسئلة المناوشة، أذكر من زٌبدة تمخضاتها: لماذا انتبذ أغلب النقاد والجامعيين العرب، في بحوثهم (القيمة طبعاً)، استقراء معيارياً قصياً، يكمن في الشعر العربي القديم؟؛ لا يمكن نكران أن جدل الشاعر مع المُغاير أو الآخر، يمتد سحيقاً في تاريخ الأدب العربي منذ الجاهلية، ولكن ملامح هذا الجدل الإبداعي ، اتضحت ونتأت بارزاً في الزمن الحديث، من خلال التبلور الفكري والفلسفي، للعديد من المفاهيم، مثل حوار الحضارات، المثاقفة، الاغتراب الأدبي، الآخر، المغايرة.. وهلم حفريات فلسفية ما فتئت تضع تحت مجهر التفكير العقلاني، تشظيات الذات المبدعة بين الهوية والذوبان في ثقافات الآخر؛ فما أكثر الشعراء من كل الدول العربية، الذين يعيشون إبداعياً اليوم، في كنف لغات وثقافات غربية، بل ويكتبون بلغة هذا الآخر؛ أما كانت تستحق ظاهرة هذا الذوبان أو الانسلاخ أو الاغتراب الأدبي، التي تتمزق أرتا لا من شعرائنا العرب اليوم، وقفة تأمل واستقراء ، قد تتلمس بعض جمارها الحارقة قدْر مُستطاع الكتابة؟ ؛ حقاً، إن غَمْر هذه الظاهرة الأدبية من العمق والسُّمق والتوتر أيضاً، بحيث تجيشُ بدلالات ومعاني الفقدان، كفيلة بإضاءة التطور الذي بلغه الشعر العربي الحديث في فهم الآخر.. هذا الآخر الذي وإن استطاع صَهْر وتذويب الكثير من شعرائنا في بوتقة لغته الأجنبية، لكنه لم يتمكن من استئصال جذور شجرة أنساب الكثير من الشعراء العرب، الذين لم يصنعوا شيئاً سوى أنهم اشتروا الحذاء من الخارج، واحتفظت الأرجل بنفس إيقاع المشي؛ أي يكتبون من نافذة الذاكرة، ثقافتهم الأصلية، بلغة الآخر؛ إنها ظاهرة أدبية تلْحَق بحداثتها ما سبق في تراثنا الشعري، فقط لو استقرأنا بعض خطى حفرياتها الحضارية، كنا سنَنْزل لأرض واقعنا المعيش، بفلسفة الاتصال وليس الانفصال! لنقل إني كنت أنقلب بأذنيَّ من باطنيهما، بكل ما أوتيت من سماع مصيخ، مستلذاً بما لا يغيض من مداخلات الأساتذة النقاد الأجلاء الوافدين من عديد من الأمصار العربية، ولكن أعترف كرًَّة ثانية، أن بالي كان مشدوداً بعيار من جاذبية ثقيلة، إلى الخارج، مدينة دبي، هذه الفلذة أو الإمارة البللورية المقدودة من حضارة التقنية والتكنولوجيا الحديثة، أشبه بلؤلؤة خلابة الضوء، ملقاة عفو الطبيعة في صحراء قد تعمى الأبصار، قبل أن تدرك لا نهائية جزيرتها ذات السراب والتِّبر؛ لا غرو إذاً، أن لا تُنبِتَ رمالها المترامية - بتعبير الشاعر عبد العزيز سعود البابطين - شيئاً سوى الشعر؛ ولكنها اليوم قد انسرحت عالياً أيضاً، بأبراج تتاخِمٌ الغيوم، كما أن ماكنتها الإعلامية والثقافية العرفانية، من الحركة النفَّاثة والتأثير، بحيث تنبض هديراً في قلب العالم، ولن يخاتلنا شطط التخييل إذا أجزمنا: إنها شمس الليل الساحرة ذات الأبراج..!