لم يكن مسار الإصلاح الجامعي في المغرب يوما خطا مستقيما، بل متقاطعا بين مشاريع طموحة وقرارات متعثرة سرعان ما يتم التراجع عنها، فمن تجربة (إجازة ماستر دكتوراه) على عهد الوزير السابق الحبيب المالكي، والذي أريد منه ملاءمة الشهادات المغربية مع المعايير الدولية وتسهيل الاعتراف المتبادل، إلى مشروع "الباشلور" الذي روج له، على عهد الوزير أمزازي، كتحول بيداغوجي شامل قبل أن يتم إلغاؤه تحت ضغط الانتقادات، وصولا إلى خارطة طريق لإصلاح الجامعة في أفق سنة 2030، وما رافقها من جدل حول النظام الأساسي للأساتذة الباحثين وإدماج صناديق الحماية الاجتماعية… تتكشف ملامح أزمة عميقة عنوانها تذبذب الرؤية وغياب الاستمرارية.
بين أمزازي الذي دافع عن الباشلور، والميراوي الذي ألغاه لصالح مقاربة جديدة، والميداوي الذي وجد نفسه أمام تركة ثقيلة من الملفات المؤجلة، لكنه لم يتردد في طرح مشروع قانون جديد لإعادة تنظيم التعليم العالي والبحث العلمي، يظهر بوضوح أن الجامعة المغربية تعيش إصلاحا معلقا بين طموحات معلنة وواقع يعرقله ضعف التمويل، وغياب التشاركية، والارتجال في اتخاذ القرار.
مشروع جدلي
يعد مشروع القانون رقم59.24 للتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار جزءا من مسار طويل من التعثرات والإصلاحات غير المكتملة التي عرفتها الجامعة المغربية منذ بداية الألفية. يقدم المشروع الجديد كمحاولة لتجاوز أعطاب نظام (إجازة ماستر دكتوراه) الذي أبان عن محدوديته، ولإرساء انسجام أكبر مع التوجهات الاقتصادية والتنموية عبر توسيع استقلالية الجامعات وتعزيز انفتاحها على الشراكات، غير أن طريقة إعداده وطرحه أثارت الكثير من التحفظات، إذ اعتبر على مستوى الشكل مشروعا فوقيا وبمنهجية إقصائية، حيث لم تشرك الوزارة الأركان الثلاثة للجامعة، أي الأساتذة والطلبة والأطر الإدارية في إعداده، مما جعله امتدادا للإصلاحات الفوقية التي يغيب عنها التشاور الحقيقي وتختزل المشاركة فيها إلى مجرد إجراءات تقنية.
رفض نقابي
التباين بين خطاب الطموح والإشراك المعلن وبين واقع الانفراد بالقرار فجر جدلا واسعا داخل الجامعات المغربية. بعد البيانات الغاضبة التي أصدرتها التنظيمات الطلابية، انتهى الاجتماع الذي عقدته اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي يوم 14 شتنبر (استمر ل10 ساعات) إلى رفض مشروع القانون 59.24 بصيغته الحالية، بل وطالبت الحكومة بتجميده وإعادته إلى طاولة الحوار مع النقابة باعتبارها شريكا أساسيا في كل ما يخص إصلاح القطاع.
في حديثها إلى "الأيام" نبهت قيادات نقابية إلى اتخاذها هذا الموقف بسبب المنهجية التي اعتمدتها الوزارة الوصية، والتي افتقدت، حسب نفس المصادر، إلى التشاركية الفعلية، واختزال الإصلاح في تعديلات جزئية تفتقد للرؤية المتكاملة.
برأي هذه القيادات النقابية فإن أي إصلاح يجب أن يستند إلى مرتكزات واضحة: التوحيد، الاستقلالية، الديمقراطية، الحكامة الجيدة والمجانية. مع رفض أي محاولة لتهميش مؤسسات التعليم العالي غير التابعة للجامعة أو إفراغها من أدوارها. كما شددت على ضرورة الرفع من الميزانية المخصصة للبحث العلمي بما ينسجم مع المعايير الدولية، وتوفير البنيات الأساسية للابتكار وتحسين ظروف عمل فرق البحث.
وفي خطوة عملية، أعلنت النقابة عن خوض إضراب وطني إنذاري لمدة 24 ساعة يوم 17 شتنبر 2025، يتبعه برنامج احتجاجي تصعيدي يشمل وقفات ومسيرات وتجميد العضوية في الهياكل المنتخبة، إضافة إلى عقد ندوة صحفية في نفس اليوم. كما فوضت اللجنة للمكتب الوطني صلاحية تدبير هذا البرنامج وتوسيعه وفق تطورات الملف، مع الإبقاء على اجتماعها مفتوحا لمواكبة المستجدات.
بالمقابل، وحرصا على ضمان دخول جامعي سليم، تضيف نفس المصادر، فقد تمت دعوة الأساتذة إلى الاستمرار في العمل وفق دفاتر الضوابط البيداغوجية المعتمدة خلال الموسم الماضي (2023–2024)، مع مقاطعة أي تعديل أو إجراء بيداغوجي أحادي الجانب، إلى حين إرساء مقاربة تشاركية حقيقية تتيح للهياكل والشعب الجامعية التعبير عن آرائها وصياغة مقترحاتها.
أعطاب جديدة
تعتبر النقابة الوطنية للتعليم العالي أن المشروع بقي وفيا لذات النفس الترقيعي، ولم ينبن على تقييم حقيقي للقانون الحالي 00.01. وتستدل النقابة على ذلك بأن المشروع طرح بإيقاع استعجالي مثير للتساؤل، إذ صدرت صيغته من الأمانة العامة للحكومة في بداية غشت ليبرمج ويصادق عليه في المجلس الحكومي بعد أقل من أربعة أسابيع، في عز العطلة الصيفية، في تغييب مقصود للمعنيين المباشرين. وهي مؤشرات، بحسب النقابة، تؤكد غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإحداث تغيير جذري يضمن التعبئة الشاملة للفاعلين والإمكانات والخيارات الكبرى التي يحتاجها إصلاح الجامعة.
وتؤكد النقابة أن سحب صلاحيات مجلس الجامعة المنتخب و"تهريبها" إلى "مجلس الأمناء" المعين بعضوية والي الجهة، وبتمثيلية رمزية لأستاذ واحد وعضوية استشارية لرئيس الجامعة، بمثابة ذر للرماد في العيون، وتراجعا صريحا عن استقلالية القرار الجامعي. وتصف "تقييد حق الطلبة في التنظيم"، بحصره في الأندية الثقافية فقط، بمثابة انتكاسة مقارنة بما كان يتيحه القانون 00.01. كما تذهب إلى أن فرض آليات إدارية تنسيقية فوق المؤسسات المنتخبة، يضرب في العمق ديموقراطية الحكامة الجامعية.
ويعتبر معارضو مشروع القانون، أنه يرسخ التشتت والبلقنة بدل توحيد التعليم ما بعد الباكالوريا كما نص القانون الإطار 17.51. وينصاع لتوجهات المؤسسات المالية الدولية عبر إدخال التكوين المؤدى عنه بما يقوض مبدأ تكافؤ الفرص في الولوج إلى الجامعة. أما على مستوى التمويل، فقد جاء المشروع، يقول مناهضوه، في ظل استمرار شح الدولة في تمويل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وغياب تحفيز حقيقي للجماعات الترابية والمحيط الاقتصادي للإسهام في هذا الورش الاستراتيجي، مقابل فتح الباب أمام الرأسمال المحلي والأجنبي للاستثمار الربحي في قطاع حيوي يفترض أن يكون ركيزة الدولة الاجتماعية.
جبهة طلابية من جهة أخرى، ومنذ أحالت الحكومة مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار على أنظار المجلس الحكومي، برزت جبهة طلابية موحدة تتصدى لما تعتبره تراجعا خطيرا عن مكتسبات الجامعة العمومية. وأجمعت كل من التنسيقية الوطنية لطلبة الهندسة، واللجنة الوطنية لطلبة الطب وطب الأسنان والصيدلة، والاتحاد الوطني لطلبة المغرب على رفض المشروع، مؤكدة أنه لا يرقى إلى مستوى الإصلاح المنتظر، بل يهدد الحقوق الدستورية للطلبة ويمهد لتقويض أسس التعليم العمومي.
وتعتبر الهيئات الثلاث أن مشروع القانون الذي صادق عليه المجلس الحكومي جاء في غياب أي مقاربة تشاركية فعلية، متجاهلا التمثيليات الطلابية والهيئات المنتخبة داخل الجامعات، ومتراجعا عن مقتضيات قانونية سابقة كانت تكفل للطلبة حقهم في التنظيم والدفاع عن مصالحهم. كما يفتح الباب أمام مقاربة تميل نحو الخوصصة التدريجية للتعليم العالي، من خلال تشجيع الشراكات مع القطاع الخاص وغياب التنصيص على مبدأ المجانية، وهو ما يثير مخاوف من تحويل الجامعة المغربية إلى مؤسسة تجارية على حساب رسالتها العلمية والمجتمعية.
وتعبر الحركة الطلابية عن استنكارها لما اعتبرته تناقضا صارخا في مواقف وزارة التعليم العالي، التي لم يمض على توقيعها محضر اتفاق رسمي مع المكاتب والمجالس الوطنية لطلبة الطب وطب الأسنان والصيدلة سوى بضعة أشهر. فقد اعترفت الوزارة حينها بشرعية هذه التمثيليات، ودعت الكليات إلى إدماجها في أنظمتها الداخلية باعتبارها خطوة أساسية لترسيخ المقاربة التشاركية وتعزيز الثقة بين الفاعلين. غير أن مشروع القانون الجديد، بحسب الطلبة، سار في اتجاه معاكس.
"إن المنطق والإنصاف يقتضيان تعميمه على جميع مؤسسات التعليم العالي لا محاولة دفنه وطمس ملامحه"، على حد رأي الطلبة. الذين أكدوا أنهم "ليسوا مجرد متلقين، بل شركاء في صناعة القرار ومساهمون في تحسين جودة التكوين وظروف التحصيل العلمي"، ردا على قرار الوزارة تمرير مشروع القانون خلال العطلة الصيفية. فكيف يمكن إصلاح الجامعة، يتساءل الطلبة، من دون إشراك من يعيشون يوميا تفاصيل أزماتها؟
الحق في التنظيم
إضافة إلى ذلك، تعتبر الحركة الطلابية أن حذف المواد 71 و72 و73 من القانون 01.00 لسنة 2000، التي كانت تمنح الطلبة الحق في التنظيم عبر مكاتب وجمعيات ومجالس منتخبة داخل الجامعات، لا يمس فقط بالتمثيلية، بل يضرب في العمق أسس الديمقراطية الداخلية التي راكمتها الجامعة المغربية بصعوبة. كما يرون فيه تناقضا صارخا مع التزامات سابقة للحكومة نفسها التي اعترفت، قبل أقل من سنة، بشرعية التمثيليات الطلابية ودمجتها في الأنظمة الداخلية للكليات.
من جهة أخرى، يثير غياب أي تنصيص صريح على مجانية التعليم العالي العمومي في مشروع القانون الجديد مخاوف كبيرة لدى الطلبة. فبالنسبة لهم، هذه الصيغة الغامضة تفتح الباب أمام فرض رسوم بشكل تدريجي، سواء عبر تشجيع الشراكات مع القطاع الخاص أو عبر تحميل الطلبة جزءا من كلفة التكوين. وهو ما يعتبرونه مساسا بمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه دستوريا، وتحويلا للتعليم العالي إلى امتياز طبقي لا يقدر على ولوجه إلا الميسورون.
يرى الطلبة أن مشروع القانون الجديد يغير أيضا جوهر رسالة الجامعة المغربية، محولا إياها من فضاء لإنتاج المعرفة وتكوين النخب إلى مؤسسة تدار بمنطق السوق. هذا التوجه، في نظرهم، يفرغ الجامعة من بعدها النقدي والثقافي، ويجعلها رهينة لأولويات اقتصادية آنية بدل أن تبقى حاضنة للبحث العلمي الحر والنقاش العمومي.
وردا على ما يعتبرونه "إصلاحا مفروضا"، أعلنت التنظيمات الطلابية استعدادها لخوض إضرابات ووقفات احتجاجية مع بداية الموسم الجامعي. كما أكدت عزمها مراسلة وزارة التعليم العالي ورئاسة الحكومة لمطالبتها بفتح حوار جاد ومسؤول.