يعود ملف المقاصة إلى واجهة النقاش العمومي في المغرب مع صدور التقرير الرسمي لسنة 2025، الذي يوثق تطور نفقات الدعم الموجه للمواد الأساسية ويستعرض التحولات الكبرى التي عرفها النظام منذ إطلاق ورش الإصلاح قبل عقد من الزمن. ورغم أن الوثيقة تقدم نفسها أداة للشفافية المالية، إلا أن قراءتها النقدية تكشف عن رؤية تقنية ضيقة تتجاهل البعد الاجتماعي والسياسي الأعمق لإحدى أكثر السياسات تأثيرا في حياة المغاربة.
يُفترض أن صندوق المقاصة يشكل آلية تضامنية لتثبيت الأسعار وحماية القدرة الشرائية، غير أن التقرير يقدمه أساسا بوصفه عبئا ماليا على الموازنة العامة أكثر منه أداة للعدالة الاجتماعية.
فبين الأرقام والجداول، يبرز خطاب حكومي جديد يرى في المقاصة مجرد بند يجب تقليصه، لا رافعة لتخفيف هشاشة المجتمع في مواجهة الغلاء.
فمنذ تحرير أسعار المحروقات سنة 2015، انخفضت نفقات الدعم من أكثر من 56 مليار درهم إلى حوالي 16 مليار درهم سنة 2025، وهو إنجاز مالي لا شك فيه.
لكن السؤال الجوهري الذي يغفله التقرير هو: من دفع ثمن هذا التوازن المالي؟
ففي غياب سياسة دعم بديلة شاملة، أصبحت الأسر الفقيرة والطبقة الوسطى تتحمل وحدها آثار ارتفاع الأسعار، في وقت لم تكتمل بعد منظومة الدعم المباشر عبر "السجل الاجتماعي الموحد". يُظهر التقرير أن غاز البوتان ما زال يمثل أكثر من 60% من نفقات المقاصة، أي ما يعادل حوالي 10 ملايير درهم سنويا.
لكن هذا الدعم، وإن كان يضمن استقرارا اجتماعيا مرحليا، فهو يحمل تناقضا بيئيا صارخا مع أهداف الانتقال الطاقي التي يرفعها المغرب دوليا. فاستمرار دعم الغاز بأسعاره الحالية يعرقل تحفيز الاستثمار في الطاقات النظيفة، ويُبقي الاستهلاك مرتفعا على نحو غير مستدام.
التقرير لا يقدم معطيات دقيقة حول الفئات المستفيدة فعلا من هذا الدعم. والدراسات السابقة تشير إلى أن الأسر الميسورة تستهلك غازا أكثر من الأسر الفقيرة، مما يجعل الدعم العام غير عادل اجتماعيا، رغم كونه مبررا في الخطاب الرسمي.
ورغم أن الدولة ما تزال تدعم السكر والدقيق الوطني، فإن التقرير يتفادى الخوض في إشكالية العدالة التوزيعية. في الواقع، لا تصل الاستفادة المباشرة من دعم السكر إلى المستهلك البسيط بالدرجة الأولى، بل إلى المنتجين والمصنعين الكبار الذين يشترون المواد المدعمة بأسعار منخفضة ثم يحققون هوامش ربح مرتفعة في السوق. كما أن منظومة "الدقيق المدعم" ما زالت تعاني من اختلالات في الاستهداف والتتبع، حيث تستفيد منها أحيانا مناطق لا تصنف ضمن الفئات الهشة.
ورغم الإشادة في التقرير بما يسمى "تحسين الحكامة"، فإنه لا يقدم مؤشرات تدقيق أو آليات مراقبة مستقلة تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه فعلا.
يستند التقرير إلى فرضية أن برامج الدعم المباشر للأسر عبر السجل الاجتماعي الموحد ستشكل البديل العادل والمستدام لنظام المقاصة التقليدي. لكن هذه المقاربة، رغم وجاهتها النظرية، ما زالت في طور الانتقال المؤسسي، وتواجه تحديات كبيرة في التغطية، ودقة البيانات، واستهداف المستفيدين.
التحول من دعم السلع إلى دعم الدخل يتطلب ثقة اجتماعية قوية وتواصلا حكوميا فعالا، وهذان العنصران ما يزالان هشين إلى أبعد الحدود. فالكثير من المواطنين لا يرون بعد أثرا ملموسا لهذه البرامج في مواجهة موجة الغلاء، مما يجعل الإصلاح المالي يسبق الإصلاح الاجتماعي بخطوات كثيرة.
من أبرز نقاط ضعف التقرير غياب التحليل المقارن مع تجارب دولية مشابهة. فبينما نجحت دول مثل الأردن ومصر في إعادة هيكلة منظومات الدعم تدريجيا مع اعتماد برامج تحويلات نقدية، يكتفي التقرير المغربي بعرض أرقام دون تقييم لنجاعة السياسات أو آليات المراقبة.
كما لا نجد أي ذكر لتقارير الافتحاص المستقل أو تتبع تأثير الدعم على الاقتصاد غير المهيكل أو السوق السوداء، رغم أهميتها في بناء الثقة المؤسساتية.
لا شك أن الحكومة حققت نجاحا نسبيا في ضبط كلفة المقاصة والحفاظ على استقرار المالية العمومية، لكن الوجه الآخر للإنجاز المالي هو الفاتورة الاجتماعية. فمع ارتفاع الأسعار وضعف الأجور، يشعر المواطن بأن الإصلاح يعني في كثير من الأحيان تقليصا في الدعم لا تحسنا في الخدمات أو المعيشة.
وبذلك، يصبح نظام المقاصة نموذجا مصغرا للمفارقة الكبرى في السياسات العمومية المغربية بين خطاب الإصلاح الهيكلي وواقع المعيش اليومي للمواطن. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار تقرير المقاصة لسنة 2025 وثيقة مالية دقيقة، لكنها تفتقر إلى البعد الإنساني والاجتماعي. لأن الإصلاح لا يُقاس فقط بتراجع النفقات أو توازن الحسابات، بل بمدى تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان العيش الكريم للمواطنين.
إن نجاح إصلاح المقاصة في المستقبل لن يكون محكوما بالأرقام وحدها، بل بقدرة الدولة على بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الشفافية والاستهداف العادل والمواكبة الاقتصادية للفئات المتضررة من التحول. وبدون ذلك، قد يتحول الإصلاح إلى مجرد تخفيف مالي على الورق، بينما يستمر المواطن في دفع الثمن في السوق.