النعم ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    السكوري…المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    الداخلة.. البحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية    حريق ضخم يلتهم سوق المتلاشيات بإنزكان (فيديو)    وحدة تابعة للبحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية جنوب – غرب الداخلة    اش خذات الباطرونا واش خدات النقابات باش يتزاد فالسميك وفالصالير الف درهم: عرض قانون الاضراب فالدورة الربيعية والتقاعد على 65 عام فالخريفية    ستة قتلى في هجوم على مسجد بأفغانستان    الوداد يحدد لائحة المغادرين للقلعة الحمراء    فتاة هندية تشتكي اعتداءات جنسية .. الأب والعم بين الموقوفين    مع اقتراب افتتاح الاولمبياد. وزير داخلية فرانسا: خاص يقظة عالية راه وصلنا لمستوى عالي جدا من التهديد الارهابي    الموانئ الأوروبية في حاجة إلى استثمار 80 مليار يورو لبلوغ التحول الطاقي    ف 5 يام ربح 37 مليار.. ماسك قرب يفوت بيزوس صاحب المركز الثاني على سلم الترفيحة    أسترازينيكا كتعترف وتعويضات للمتضررين تقدر توصل للملايين.. وفيات وأمراض خطيرة بانت بعد لقاح كورونا!    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    الصين تتخذ تدابير لتعزيز تجارتها الرقمية    معاقبة جامعة فرنسية بسبب تضامن طلابها مع فلسطين    مطار الحسيمة يسجل زيادة في عدد المسافرين بنسبة 28%.. وهذه التفاصيل    بطولة اسبانيا: ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز على فالنسيا 4-2    يتقاضون أكثر من 100 مليون سنتيم شهريا.. ثلاثون برلمانيًا مغربيًا متهمون بتهم خطيرة    وفد حماس يدرس مقترح الهدنة.. والولايات المتحدة وبريطانيا تدعوانها لقبول "العرض السخي"    مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    الأمن المغربي والإسباني يفككان خيوط "مافيا الحشيش"    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    طقس الثلاثاء.. أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام        الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي        أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في توصيف وضع الثقافة العربية

يحار المتتبع لأوضاع الثقافة العربية في تقييمها تقييما يبتعد عن التعميم، وينأى عن التأويل الاختزالي، على نحْو ما هو شائع من أحكام شبه جاهزة، تكرر لفظيْ التأزّم والأزمة، أو تتجه إلى تأويل تعثّر الثقافة العربية بالأزمة السياسية الشاملة التي أضحتْ مزمنة ، خانقة للدينامية في كل المجالات ... والحال، أن هذه الثقافة بمختلف تجلياتها الفنية والأدبية والفكرية، هي التي تثبت علامة وجود على جبين المجتمعات العربية التي تُعتبر من منظور السياسة العالمية للدول الديمقراطية، غير موجودة لأنها لا تنتمي إلى منطق العصر، ما دامت متشبثة بنُظم أوتوقراطية، استبدادية، لا تنفع معها واجهات برلمانية يسندها التزييف والتدليس ... هذه الثنائية المُفارقة تستدعي التحليل، وقد تكون مدخلا إلى استيعاب أوضاعنا الثقافية المعقدة التي تنطوي على غير قليل من العناصر الإيجابية.
فعلاً، وسط الضجيج الإعلامي المرصود لغسل الأدمغة، ولغة البيانات والتصريحات الطنانة، وبرامج الترفيه الصاخبة، نجد كتبا ومعارض وأفلاما ومسرحيات ومجلات تتلألأ بأضواء تؤشر على ملامح ثقافية تضطلع بشحذ الذهن والإحساس، وصوغ أسئلة تنتمي إلى هذا العصر، تسعف المواطن على إذكاء روح النقد، وإعادة النظر في الموروث والمكتسب ... وهذه العلامات المضيئة تحيلنا على حقيقة بارزة، هي وجود قُوّى اجتماعية مُضادة ومناهضة لقوى الجمود والمحافظة التي يستند إليها الماسكون بالسلطة، والتي تعمل جاهدة على وقف عجلة التطور وتثبيت أصالة مُتوهّمَة تحت ستار إيديولوجيا ماضوية عاجزة عن حل مشكلات المجتمع، على رغم أنها تنفرد بالسلطة وثروات البلاد. من هنا، من معاينة الفروق بين ثقافتيْن، ندرك أن وضعية التداعي والانهيار التي تتهدد المجتمعات العربية لا تعود فقط إلى أسباب سياسية، بل هي عميقة مُركّبة، يمتزج فيها السياسي بالثقافي، والدين بأصولية الاعتقاد المتزمت ... من ثم فإن الصراع الطبيعي بين قوتيْن واتجاهين، إحداهما تريد الحفاظ على الأوضاع لحماية امتيازاتها، والثانية تنشد التغيير نشدانا لمجتمع أفضل يحمي مصالح الأكثرية، يبدو باستمرار مُعطّلا، نتيجة «الحصْر» السياسي والوصائية المستبدة التي تمنع تأسيس أحزاب، أو تُفبركها حسب هواها ! لكن تغييب الديمقراطية الذي يعطل الصراع السياسي الصحي، لا يستطيع لحسن الحظ، أن يجمد الصراع الثقافي المعبر عن حاجة ضرورية إلى التغيير والاستجابة لغريزة التجدّد الحياتية وطاقة الإبداع الخلاقة.
انطلاقا من هذه الملاحظة، كيف إذن يبدو مشهد الثقافة داخل المجتمعات العربية، وكيف نصوغ إشكاليتها الراهنة؟
لا تخلو الثقافة المحافظة من مفارقة، فهي في جانبها الرسمي الذي تمثله الدولة، تتبدّى جامعة ً بين توجُّهيْن: أحدهما يتظاهر بالانفتاح على العصر، إلا أنه انفتاح يوظّف لإلهاء الشعب وتقديم الفرجة للتنفيس عن الكبت النفسي والحرمان السياسي ؛ وهو ما يتجلى في التهافت على الثقافة المُعولمة التسطيحية وبرامج التلفزة التهريجية، والمهراجانات التسويقية، مع الإلحاح على أن المقصد هو تحقيق معادلة ناجحة بين الأصالة والمعاصرة ... والتوجه الثاني، يمثله ويسهر على تنفيذه «سدنة ُ المعابد» من السلفيين المنغلقين الذين يُروّجون لثقافة رجعية، تستخدم الدين، وتصدر عن عقلية قروسطوية، ديْدنُها قمع كل قوة خلاقة متجاوبة مع الحياة وسنة الطبيعة (إصدار الفتاوى التحريمية والتأويلات الخانقة، التشبث بالفكر الماضوي وفرض الرقابة على الإبداع الحداثي ...) .
في الطرف المقابل، تطالعنا ثقافة حديثة سنُعرّفها بالثقافة النهضوية لأن بذورها تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واقترن مسارُ تبلوُرها بمرحلة مقاومة الاستعمار، وتغذتْ بالأفكار التنويرية الوافدة من أوروبا والثاوية في التراث، وأسهمتْ في خلق مُتخيّل وطني ينشد الحرية والتحرر، ويتفاعل مع فكر العالم ونزوعاته الثورية واستكشافاته المعرفية ... وهي ثقافة نهضوية لأنها رافقتْ دوما حلمَ مشروع النهضة العربية المتعثر، المجهض باستمرار. ومع ذلك فإن النواة الصلبة لهذه الثقافة تغلغلت ْ إلى طبقات التربة العربية، وعملت على تقليبها، مستفيدة من تغيّرات المشاهد العمرانية، وتطوير مناهج التعليم، وتعدد وسائط المثاقفة وتداخل الحضارات ... كان طبيعيا، بحكم قوة الأشياء، أن تتغير أشكال وطرائق التعبير الأدبي والفني، وأن تصبح الثقافة حاضرة في معترك السياسة وحوْمة الحياة، وأداة لصياغة نماذج جديدة في العيش والسلوك والتفكير. وعلى رغم أن الأقطار العربية لم تكن، عند انطلاق ثقافة النهضة، على مستوى متساو من الوعي السياسي والتاريخي، فإن وجود اللغة والذاكرة المشتركتيْن سرعان ما أسعف في تقريب شقة التفاوت الثقافي النهضوي، وسهّل التصادي والتفاعل فأصبحت ملامح الحداثة المرجوّة تتلاقى في التطلعات والتعبير، ضمن دائرة الاختلاف الذي يتميز به كل مجتمع عربي. إلا أنه، ومنذ مطلع الألفية الثالثة بالأخص، نُعاين أن هذه الثقافة المُناهضة تواجه بدورها مفارقة لها ظلال سالبة، تتمثّل في كوْن المجتمعات العربية، على امتداد عقود من الاستقلال، لم تُفرز قوى اجتماعية لها حيوية سياسية تضاهي حيوية وتطلعات الثقافة النهضوية، ليتمّ نوع من الزواج المخصب الذي يترجم التصور الثقافي الجديد إلى قيم يستبطنها المواطنون ويحتكمون إليها في التحليل والنقد . لذلك فإن منجزات ثقافة النهوض تظل، ولا شك، هشة، معرضة للعطب في كل حين. وفي رأينا، أن جزءا كبيرا من مسؤولية هذه الهشاشة يعود إلى «دولة الاستقلال الوطني» التي لم تضطلع بدورها في حماية حرية الفكر والاعتقاد، ودمقرطة الصراع السياسي، للحؤول دون صعود الثيوقراطية والفكر الأصولي التّمامي ...
صوْغ الإشكالية من منظور علاقة الثقافي بالسياسي:
على ضوء هذه الإشارات التي تستحضر بعض تجليات الوضع الثقافي العربي، يبرز عنصر المفارقة المعطّل لدينامية الفعل الثقافي والتفاعل الطبيعي بين السياسي والثقافي، سواء داخل الاتجاه المحافظ الماضوي، أو بالنسبة للاتجاه النهضوي التنويري .
لكن ما يستحق المساءلة والتحليل في نظري، هو اتجاه ثقافة النهضة لأنه يتوفر على قيمة رمزية هائلة، نتيجة انشداده إلى المستقبل وقدرته على استيعاب أسئلة العالم الحديث. أما اتجاه الثقافة الرسمية والمحافظة فمن غير المجدي محاولة تمحيص ما قد ينطوي عليه من إمكانات لتفعيل المشهد الثقافي العربي، لأنه اتجاه مربوط بخدمة مصالح السلطة وأداء دور إيديولوجي يكرر أجوبة محفوظة عن ظهر قلب على أسئلة يسكنها الماضي !
لأجل ذلك، سأحاول الآن أن أصوغ الإشكالية التي يمكن تفعيل الحوار والجدال في إطارها، انطلاقا من مأزق الثقافة العربية النهضوية الحاضرة بقوة على مستوى الرمز، والتي هي محاصرة داخل مجتمعاتها بسبب عوامل سياسية ودينية. أنا أعتقد أننا نستطيع أن نلامس الإشكالية من خلال مفتاح عامّ طالما شكّل مدخلا لمقاربة هذا الموضوع، وأقصد العلاقة العويصة، الزئبقية، بين الثقافي le culturel، والسياسي le politique، أي بين ما هو بمثابة الرّحم لتحديد جوهر الثقافة ووظائفها، وما هو مُنطلقُ الفكر السياسي المحدد لمقولاتها ومفاهيمها النظرية وغائيّتها .
من هذه الزاوية، تكون علاقة الثقافي بالسياسي علاقة جدلية، تفاعلية، مع استمرار التمايز بينهما. ذلك أن كلا من السياسي والثقافي يستشرف الآفاق ويسائل الغائية والمقاصد، ويستحضر تحولات المجتمع؛ إلا أن ممارسة السياسة على أرض الواقع كثيرا ما تنقاد لذرائعية تُمليها الظرفية، فتحيد عن الأفق الأبعد الذي يبلوره الفكر الثقافي والفكر السياسي. في هذا الصدد، نلاحظ أن مشاريع النهوض العربية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، كثيرا ما انطلقتْ من توافق وحوار بين الثقافي والسياسي في المجتمعات العربية لتلك الفترة، خاصة في مراحل مقاومة الاستعمار وبلورة مفهوم الوطنية ؛ بل شاهدنا، بعد الاستقلالات، نوعا من التوافق بين أحزاب «تقدمية» واتجاهات ثقافية تنويرية، لكن ممارسة تلك الأحزاب للحكم، أودتْ بالتوافق وأدخلت المجتمعات العربية في نفق التسلط .
باختصار، منذ هزيمة 1967 ، أضحت المجتمعات العربية تعيش «حالة انشقاق» تتمثل في نوع من الانفصام النفسي والسياسي والثقافي بين الدولة وجزء كبير من المجتمع، لأن أجهزة الحكم وأقنعته ووعوده الكاذبة تكشفتْ عن خواء وعجز، فأصبح استمرار الأنظمة فاقدا لشرعيته الشعبية، أي للميثاق غير المكتوب الذي تعبّأتْ على أساسه قُوى الكفاح من أجل الاستقلال وتشييد مجتمع عادل وديمقراطي. وفي تلك اللحظة التاريخية المفصلية نجد أن الثقافة العربية المناهضة، قد اضطلعتْ بدور إعلان «الانشقاق» والتأشير على ضرورة الرفض والمناهضة. بعبارة ثانية، آثر الاتجاه الثقافي المناهض أن يجسد نوعا من القطيعة مع السياسي، وأن يواجه مسؤولياته في مجال الثقافة عبر الإبداع والنقد، وتحليل مظاهر التدهور في ظل اللاديمقراطية التي فتحت الطريق أمام الأصولية وفكرها الإرهابي ... إلا أن هذه الثقافة كما أوضحنا آنفا، توجد اليوم أمام مأزق محفوف بالمخاطر، ما دامت لم تُبلور بعد قوى اجتماعية «حليفة» تسند حركتها التصحيحية .
ما دور هذه الثقافة التنويرية، إذن، وهي تواجه هذا الوضع المأزقي؟
بصراحة، وبصفتي مثقفا يتجاوب مع الاتجاه التنويري، ويعتبر نفسه فاعلا ضمن إطار ثقافة النقد والمناهضة، أقول إنني لا أتوفر على جواب «يُقنع» الباحثين عن مخرج من هذا المأزق. لا أتوفر على جواب لأنني أدرك مدى ثقل المثبطات التي تعترض هذا الاتجاه، ليس فقط داخل مجتمعاتنا وإنما أيضا في الساحة العالمية التي تبدو لي وكأنها تعيش الفترة الأخيرة من مسار حضارة فقدتْ البوصلة وأصبحت مُتلهفة على ما ينقذها من الأزمة الاقتصادية والخطر الأصولي، وكوارث الطبيعة وتدهور البيئة...، من ثم أصبح العالم ونحن جزء منه يعيش تحت وطأة الخوف، وأضحى سياسيو الدول الماسكون بزمام العولمة شاهرين سيف التخويف، متغاضين عن احترام القيم والمبادئ الأخلاقية (على نحو ما يتجلى ذلك في ممارسات معتقل غوانتانامو ، وفي اللجوء إلى شركات التجنيد لاستئجار مرتزقة يتولّوْن قتل الأبرياء في أفغانستان وفي مناطق «الشغب» ! ) .
على رغم هذه الصعوبة التي تحفّ الموضوع ، أغامر بتقديم بعض العناصر التي قد تصلح نواة ً لأجوبة محتملة عن إشكالية مأزق ثقافة النهوض العربية :
1) لا يجب أن يُفهم من التحليل السابق أن على الثقافة أن تخلق قوى سياسية تضطلع بإنجاز التغيير المطلوب في المجتمعات العربية ، لأنها لا تستطيع أن تعوض أو تنوب عن دور الأحزاب والسياسيين والهيئات المدنية. لكن الثقافة التنويرية تستطيع أن تمارس النقد الجذري للأنظمة والمؤسسات وأجهزة الدولة الاستبدادية، مع الحرص على وضع مسافة تقي الثقافة من أن تُستخدَم لأغراض سياسية، ظرفية، من لدُن القوى السياسية المسؤولة عن سيرورة الانحدار. فعلا، في مثل هذه اللحظة التاريخية المُعتمة تصبح الثقافة ممارسة وسلوكا وإبداعا أفقا ممكنا للتأشير على استئناف النهوض ومواجهة تحديات التاريخ، والانخراط في منطق العصر . والثقافة لها القدرة على أن تقول بأشكال تعبيرها المختلفة : كفى من العسف واحتقار المواطن وشطط الدولة السلطوية .
2) إن مهمة الثقافة النهضوية تتخطى الصعيد المحلي العربي، إذ ْ عليها في الآن نفسه، أن تلامس أسئلة ثقافية ذات طابع كوْني تتناول مشكلات الأزمة الحضارية العالمية، وتسعى إلى بلورة قيم إنسانية تلائم مرحلة ما بعد الكولونيالية. وأعتقد أنْ لا شيء يحول، اليوم، دون إسهام الثقافة العربية في إثراء ثقافة العالم ومن خلال ذلك إسماع الصوت الحقيقي المعبر عن طموحات العرب . وفي هذا الصدد لا بأس أن أذكر بالدور الإيجابي الذي تلعبه الثقافة الفلسطينية، من خلال إنتاجات وإبداعات مجموعة من المفكرين والفنانين والأدباء والسينمائيين، الذين عرفوا كيف يستفيدون من المنفى والشتات، ليُسمعوا أصواتهم إلى العالم، مُستثمرين جميع وسائل التعبير، فغدوا نموذجا لخدمة قضيتهم اعتمادا على الثقافة والإبداع .
3) أمام هذا الوضع المأزقي، يصبح الاتجاه التنويري مُلزما بأن يحمي نفسه من مخاطر الهشاشة التي تتهدده نتيجة تفاقم الحكم الفردي، التوريثي، وصعود الأصولية العمياء. وأعتقد أن مُنطلق تأسيس هذه الحماية هو العمل على تمتين العلائق مع الجمهور المحتمل للثقافة التنويرية في جميع أشكالها وتجلياتها، لتصبح علاقة ملموسة، أساسها الوعي والاختيار الحر الذي يعتبر الثقافة صيغة حياة وأفق تغيير. وما يدعو باستعجال إلى تجسيد العلاقة بين ثقافة التنوير وجمهورها، هو أنها تُلاقي الآن، وعلى رغم الشروط الصعبة، تجاوبا يتيح لها الاستمرار في العطاء والإنتاج ومقاومة الرقابة. إن الإصرار على جعل الثقافة وسيلة لتحريض التفكير وشحذ المشاعر، ونمطاً في العيش والاستمتاع، هو ما يُشرع الأبواب أمام التطلع إلى الخروج من النفق لفتح نوافذ الأمل ... ومتى ما أصبحتْ العلاقة بين ثقافة التنوير وجمهورها ملموسة، ماديا ومعنويا، فإن الحقل الثقافي العربي سيعرف طريقه إلى الاستقلالية التي لا تُحوج المنتج الثقافي إلى استجداء مؤسسات الدولة والبترول، وتجعله حرا في مواقفه وآرائه. ولا شك أن المستوى الذي بلغته وسائط الإعلام والتواصل الإلكترونية والرقمية، هو عامل مساعد في مجال تأسيس العلائق الملموسة بين منتجي ثقافة التنوير ومَنْ تستجيب لانتظاراتهم .
إن «الانشقاق» الثقافي الذي أخذ يتبلور منذ هزيمة 1967، قد تنامتْ فروعه ومسالكه عبر مختلف المجتمعات العربية وساكنتها التي تفوق 300 مليون نسمة، وأصبح هو الوجه المشرق وسط ظلمة تُمعن في الحلكة نتيجة انحراف «دولة الاستقلال الوطني» عن الأهداف المنوطة بها ... وهو وجه ثقافي مشرق لأن إنتاجه ومواقفه الانتقادية يجهران بالآمال المكبوتة والتوْق إلى التحرر. من ثم فإن المرحلة الراهنة تقتضي من جميع مَنْ ينتمون إلى هذا الاتجاه أو يجدون أنفسهم فيه، أن يفكروا في ستراتيجية تُحوّل هذا التيار المنبثق من عمق التاريخ العربي، إلى قُوى تسند ولادة التغيير المتعسّرة في العالم العربي .
مرة أخرى، أنا أعرف أنْ ليست هناك وصفة سحرية للخروج من المأزق السياسي- الثقافي في المجتمعات العربية، وأن كل مقاربة لهذه المعضلة قد تبدو أشبه ما تكون بالكتابة على الماء، لكنني في نهاية التحليل لا أجد مناصا من التشبث بالثقافة التنويرية والإبداع الخلاق، في وصفهما مشتلا لبذور التغيير، وإذكاء شعلة القلب والعقل، وسبيلا إلى بلورة معنى آخر للحياة، معنى بديل عن عتمة مجتمعاتنا السديمية التي هي أشبه ما تكون، حاليا، ب«حاطب ليل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.