في زمن أصبحت فيه البيئة مدخلًا استراتيجيًا لصياغة السياسات الدولية، لم تعد القضايا المناخية والغابوية شأناً داخليًا يهم المهندسين والتقنيين فقط، بل أضحت ساحة جديدة ل"الدبلوماسية البديلة" التي تُخاطب العالم بلغة الأرقام، والمشاريع الملموسة، والحلول المستدامة. وفي قلب هذا التحول، برزت الوكالة الوطنية للمياه والغابات كمؤسسة وطنية ذات بُعد سيادي، تلعب أدوارًا متعددة، أبرزها تثبيت الحضور المغربي في المنتديات البيئية الدولية، وتفنيد أطروحات خصوم الوحدة الترابية بلغة هادئة ولكنها دامغة. منذ إطلاق استراتيجية "غابات المغرب 2020-2030" تحت الرعاية الملكية السامية، دخلت المملكة مرحلة جديدة من تدبير ثرواتها الغابوية، تقوم على مقاربة تشاركية، تنموية، وبيئية في آنٍ واحد. لم تكن هذه الاستراتيجية مجرد إعلان نوايا، بل تحوّلت إلى ورش وطني ضخم تُترجمه أرقام واضحة: مئات الآلاف من الهكتارات أعيد تأهيلها، آلاف التعاونيات المحلية دُمجت في سلسلة الإنتاج، وأجهزة المراقبة والرصد باتت تُدار وفق أحدث التكنولوجيات، من الطائرات المُسيّرة إلى الرقمنة التفاعلية. لكن الأهم من كل هذا، هو أن المغرب بات يُقدّم هذه الإنجازات كأوراق اعتماد ضمن منظومته الدبلوماسية الجديدة، التي ترى في النجاح البيئي خطابًا ناعمًا يُقوّي الصورة الإيجابية للمملكة في الخارج، ويُربك حسابات من يراهنون على تشويهها. على امتداد السنوات الأخيرة، أصبحت الوكالة الوطنية للمياه والغابات فاعلاً دبلوماسيًا غير تقليدي، يشتغل على ملفات كونية برؤية وطنية. فعبر مشاركتها المنتظمة في مؤتمرات المناخ، وملتقيات التنوع البيولوجي، والمنتديات الإفريقية الخاصة بمكافحة التصحر، استطاعت الوكالة أن تفرض حضورها داخل المنتظم البيئي الدولي وتحوّل تجارب المغرب الميدانية إلى نماذج مرجعية. هذا الحضور لم يكن تقنيًا فقط، بل كان له بعد سياسي ضمني. ففي ظل التحركات العدائية التي تقودها كل من الجزائروجنوب إفريقيا ضد مغربية الصحراء داخل الهيئات القارية والدولية، نجحت الوكالة في إسكات بعض الأصوات وإحباط بعض المناورات، لا عبر المجابهة المباشرة، ولكن من خلال تقديم المغرب ك"دولة بيئية مسؤولة"، تُصدّر التجربة بدل الخطاب، وتزرع التنمية بدل الشعارات. إن أخطر ما يُواجه المغرب في ملف وحدته الترابية، ليس دائمًا القوة القانونية لحجج خصومه، بل قدرته على مراكمة صورة إيجابية ومتزنة أمام المجتمع الدولي. وفي هذا السياق، تلعب الدبلوماسية البيئية دورًا استراتيجيًا؛ لأنها تُخاطب الضمير العالمي عبر قضايا مشتركة كالتغير المناخي، الأمن الغذائي، وحماية الموارد الطبيعية. وهذا ما لم تُجِدْه بعض الدول المناوئة، التي لا تزال أسيرة اصطفافاتها الإيديولوجية وبلاغاتها الخشبية. جنوب إفريقيا، مثلًا، ترفع شعار "التحرر والتضامن"، لكنها تُواجه صعوبات داخلية في تدبير غاباتها ومياهها، فيما تنجح الوكالة الوطنية للمياه والغابات في المغرب في تدبير موارد هشّة في ظروف مناخية صعبة، وتُحسن تأهيل الإنسان قبل المكان. حين تُصبح الغابة سفيرًا، والمياه رسالة، والتنمية المجالية خطابًا، فإننا أمام نوع جديد من أدوات السيادة. إن قدرة الوكالة الوطنية للمياه والغابات على الجمع بين المهام التقنية والرؤية الدبلوماسية تجعل منها اليوم أكثر من مؤسسة عمومية؛ إنها إحدى أذرع الدولة في الدفاع الهادئ والمستدام عن مصالحها الحيوية، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية. وإذا كانت بعض الدول تُجيّش السفراء والدبلوماسيين في المحافل الدولية، فإن المغرب اختار أن يُرافع أيضًا من خلال مؤسساته الإنتاجية، ومنها هذه الوكالة، التي تُراكم الشرعية من الميدان، والمصداقية من النتائج، والتأثير من الشفافية.