كلما مرّ المرء وسط أو بجانب ما يسمى «حديقة بوشنتوف» إلا وترمق عيناه مجموعة من المسنين، من متقاعدين وغيرهم، تؤشر ملامح وجوههم على أكثر من دلالة أو معنى! قد يتساءل المرء وهو يبحث فيما وراء العيون الجاحظة وتضاريس زمن بكل تجاعيدها، وهي تعلن سمفونية الوقت على الوجوه... عن سر هذا «التجمع» حول «الضامة» الذي نجد نُظراء له في مختلف الأحياء البيضاوية في ركن من «ساحة بوشنتوف» المخنوقة بكثرة الطاكسيات البيضاء، وكأنها أرامل حزينة، بجانبهم حافلات «مدينا بيس» ، و الهوندات، وعلى الرصيف، الذي تقف فيه الطاكسيات مجموعات متناثرة متحلقة حول «الكارطة» وهي غير مبالية لا بدخان كل هذه المحركات ولا الازبال المنتشرة ورائحتها النتنة، ولا بالخطر المحدق بها من كل جانب! بهذه الحديقة التي لاتحمل من الإسم الا تلك الكراسي الاسمنتية وبقايا ألعاب للأطفال... يمتد «مشروع الضامة» ، ومع أول إشراقات الصباح تعانق الاجساد المنهوكة، المحملة بتعب سنوات طوال، هذا الفضاء، محاولة فك العزلة الفردية التي يعيشونها وسط أسرهم، تستمر كل تجربتهم الحياتية في اللعب... واللعب... واللعب، يناقشون كل المواضيع: السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والرياضية... يتقاسمون بعض الوقت بينهم ولو مؤقتا، من حياة العزلة والوحدة... إنها من تداعيات الحياة السلبية، فلا أحد فكر في «هذه الظاهرة الاجتماعية» لهذه الشريحة، هذه الفئة التي أعطت الشيء الكثير، أعطت للأسرة وللمجتمع وللوطن... إنها فئة المتقاعدين. ألم يحن الوقت للقيام بمبادرة نعمل لها جميعا ، دولة ومجتمعا مدنيا ، من أجل خلق فضاءات تكميلية اجتماعية للتكافل الاجتماعي، لكي نتيح الفرصة ونفسح المجال لهم لقضاء أوقات يومية كفيلة بجعلهم يحسون بكرامة وبأنهم ليسوا مهمشين؟ علينا جميعا كسر العزلة عنهم، لأنها مرحلة سيصل إليها الجميع. علينا أن نفسح لهم فضاء، لينعموا بإيقاع حياتي بدون سأم ولا ملل، حيث يخرج المتقاعد في الصباح من بيته ليذهب الى ذلك الفضاء النقي والمريح الخاص بهذه الفئة، كما هو موجود في أغلب الدول المتحضرة التي تحرص على كرامة الانسان، ثم يعود في المساء الى بيته . علينا جميعا، إذن، أن نفكر مرة ثانية وثالثة... في هؤلاء، لكي نكسر عزلتهم، ونخفف عنهم وطأة «الوحدة»، من خلال إنشاء أماكن خاصة بهم، أندية او مراكز اجتماعية،.. وذلك كما علق أحد الظرفاء منهم، «اليوم علينا وغدا عليهم»!